شغف مطلق/ إياد برغوثي

|إياد برغوثي| كنت قد التقيت مع نمر يزبك، عدة مرات من قب […]

شغف مطلق/ إياد برغوثي

مطلق عبد الخالق

|إياد برغوثي|

كنت قد التقيت مع نمر يزبك، عدة مرات من قبل، في المكان ذاته، فقد زار مكاتب جمعيّة الثّقافة العربيّة وحدّثنا بانفعال شديد عن مساعيه لحفظ ذكرى الشاعر الفلسطينيّ الراحل مطلق عبد الخالق (1910-1937)، لكنه حين زارنا في المرة الأخيرة، قبل أيام قليلة، وكان يحمل في يديه كتابيْن أصدرهما للشاعر وعنه، تأكدت أنّ هذا الشغف الجارف يتجاوز الاهتمام العادي بشاعر من ماضي العائلة العريق، ليكون تماهيًا وجدانيًا ذا معنى، توثّق ثمرته ملمحًا مبهرًا من التاريخ الثقافي للشعب الفلسطيني، ولمدينتي حيفا والناصرة.

لقد جمع نمر وأعدّ مادة الكتابيْن خلال عقد ونصف من السيْر في أزقة الذاكرة الفلسطينية المعتمة، يبحث تحت ركام نكبتها عن حقيقة الشاعر الذي شاهد صورته المعلقة في مكتبة بيت أهله في طفولته ولم يفهم حينها ماذا، بحق السماء، يريد أن يقول بقصائده الحائرة!

“كنت صغيرًا، أنظر إلى صورته وأتأمل فيه بينما أقرأ الكتب، لم أفهم قصائده التي حكت عن الإضراب والانتفاضة والموت، كانت العائلة تتحدث عنه دائمًا، كانوا عندما يسمعون عن وفاة شاعر يقولون “ما انقتل زي مطلق”، لا أصدق حتى الآن قصة موته في حادث سير مصادفة، لقد قُتِل بنفس الطريقة التي قتلت فيها شخصيات فلسطينية أخرى، دهسوه على سكة القطار، اغتالوه. أكثر سؤال كان يحيرني دائمًا هو كيف استطاع مطلق أن يكتب هذا الشعر الذي وصفه النقاد والكتاب بالنبوغ، وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين عند موته؟!”.

نمر يزبك إلى جانب ضريح مطلق عبد الخالق

لم يلج نمر يزبك عالم التنقيب الشعري والتاريخي من باب الأكاديميا، وهو “المواسرجي” بمهنته التي تركها قبل أكثر من عشرين عامًا، بعدما فقد بصره لحقبة من الزمن. وعندما عاد النور إلى عينيه لم ير أمامه إلا مهمة واحدة، أن يعيد تزويج مطلق عبد الخالق لذاكرة مدينته وشعبه، كان التعتيم المطبق على سيرة وشعر ورمزية عبد الخالق تخرجه عن طوره. خلال بحثه المضني عن تراث الشاعر، اكتشف ذاته وماضيه ومعنى حياته، أضحى شغله الشاغل إضاءة شمعة سرمدية في الوعي الجماعي اسمها مطلق، “أتعرف ماذا يعني أن تعود ثمانين عامًا إلى الوراء؟ وتكتشف التاريخ من جديد؟ أن تجد أسماء شخصيات لا يعرف أحد عنهم شيئًا؟ أن تسعى لتجد الحقيقة في هذه العتمة؟”، يسألني نمر، دون أن أجيب.

قبل سنوات، حطّم معتدون شاهد قبر مطلق عبد الخالق، من منطلقات تعصّب ديني، ليس ضد شخص الشاعر بل ضد نمط بناء شواهد القبور، وقد طالت أيديهم الهدّامة قبر الشاعر الكبير. حينها بدأ نمر معركته رسميًا، فعمل على بناء شاهد جديد، رسم عليه خارطة فلسطين التاريخية وكتب عليه “شهيد فلسطين” وسمى القبر “مرقد الشاعر والأديب…”، لكنه احتار في أي أبيات شعر يختار، طلب من الحجّار أن يعطيه وقتًا، لم تكن مهمة اختيار أبيات بعينها سهلة أبدًا.

“خلدت للنوم، كنت حائرًا، لا أعرف أيّ الأبيات أختار، لكنه في تلك الليلة زارني في الحلم، رأيته يسير نحوي مبتسمًا، يحمل ربطات عنق بألوان مختلفة، نهضت من فراشي، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية والنصف ليلاً، ذهبت نحو المخزن، وعرفت أي الأبيات سأختار، بيت من قصيدة “فلسطين الشهيدة”، وبيت آخر من رثاء “منه إليه”. فكرت طويلا في معنى ربطات العنق، إنها تعني الكمال، إنها آخر ما تلبسه في البدلة، إنها الكلمة الأخيرة شرط الكمال”.

بادر نمر إلى إقامة “منتدى مطلق عبد الخالق” في الناصرة بهدف تكريم المبدعين الفلسطينيين الشباب، ليصدر من خلاله كتابين حتى الآن؛ الكتاب الأول: الرحيل، وهو الديوان الشعري الشامل لأشعار مطلق عبد الخالق، تسبقه مقدمة عن الشاعر وسيرته وتلحقه نصوص وقصائد رثاء كتبها أعلام فلسطين في تلك الحقبة، وقد صدر بمناسبة مئة عام على ميلاده.

أما الكتاب الثاني فهو إصدار نادر لديوان “ضجعة الموت” الذي نظمه الشاعر مع الدكتور داهش بك، وهو شخصية مثيرة جدًا عرف بعبقريته وشعوذته وأثره على المثقفين الفلسطينيين في حيفا، والديوان أسطورة شعرية فلسفية تحكي عن قصة حب داهش بك لإحدى أميرات قصر فؤاد باشا في مصر ومغامرتهما الغرامية التي أودت بالبك خارج مصر، إلى قلب فلسطين الثائرة في العام 1936، وفي حيفا تحديدًا حيث نشر هذا الدكتور، صاحب قدرات السحر والمغنطة والأفكار الروحانية، عقيدته “الداهشية” التي أثّرت أكبر تأثير على الشاعر مطلق عبد الخالق وغيره من المثقفين.

يملك نمر هوسًا في مكانه تجاه هذا الشاعر، هوس يدفعه للعطاء حدّ التضحية، يشغل به نفسه ومن حوله، خصوصًا ابنه بدر، “لقد تعب بدر معي لطباعة نصوص الكتب على الحاسوب، هو سعيد بهذه المهمة، أصبح يعرف عن مطلق أكثر مني، إنه سعيد جدًا بالمهام التي يؤازرني فيها، نقضي أوقاتًا ممتعة، أحيانًا يضحك من الأسماء التي أطلب منه طباعتها، مرة سألني مبتسمًا بقليل من الأعصاب، بعدما طلبت منه ان يطبع أسم “خير الدين الزركاني”، سألني “من وين بتجيب كلّ هاي الأسماء؟”، فقلت له إنّ عليه أن يعرف الأسماء وقصصها ليعرف تاريخه، لم أتوقع أن يحبّ هذا الموضوع مثلي، لقد فاجأني”.

وضع نمر يزبك الكتابيْن على طاولة مكتبي، وغادر، فبقيت بينهما، مكتفيًا، قبل قرائتهما، بالإعجاب بهذا الشغف المطلق، بقدرته على بعث ماضٍ كان يمكن أن يردم نهائيًا، بتلك القوى الخفية للاستمرار وبخفة خلود الشعراء رغم ثقل التاريخ. أتساءل: لو كان كل واحد يحمل شغفًا، هل كنا عرفنا أنفسنا أكثر؟

.

مطلق عبد الخالق

وُلد الشاعر مطلق عبد الخالق في 9 تشرين الثاني 1910 في الناصرة، عرف منذ طفولته بنباهته اللافتة وموهبته الشعرية، درس في كلية “روضة المعارف” في القدس، ثم انتقل إلى حيفا ويتخذها مسكنا له، ولنشاطاته الأدبية والاجتماعيّة والسياسية. بدأ حياته العملية وهو في سن العشرين في تأليف مجلة “كشافة الصحراء”، ثم اشتغل محررًا في صحف “اليرموك” و”النفير” و”الدفاع” و”الصراط المستقيم” ثم وكيلا للصحف العربية في حيفا، كما عمل في “البنك العربي”. كان كاتبًا قصصيًا وشاعرًا وطنيًا عايش حقبة الثورة الفلسطينية ضد الانتداب والصهيونية وألهمها بشعره الثوري الرومانطيقي، لقب بشاعر الحسّ والوجدان، وامتاز بنزعته التشاؤمية المتأملة للحياة والموت.

رحل الشاعر مبكرًا، في جيل 27 عامًا، في نفس يوم ميلاده، وقد أتت صحيفة “الدفاع” على خبر موته بالنص التالي:

“حيفا في 9 تشرين ثاني سنة 1937- حوالي الساعة الثانية والدقيقة 45 من بعد ظهر اليوم كان الأستاذ مطلق عبد الخالق الشاعر المعروف، متوجهًا إلى منزل الأستاذ وديع البستاني للإطلاع على مساعيه بشأن المعتقلين في مخيم المزرعة. وكان يركب سيارة تاكسي يقودها السائق يوسف بيدس. وعند وصول السيارة تجاه الخضر حاولت تخطي سكة الحديد للدخول إلى منزل الأستاذ البستاني، وكان قطار يافا متجهًا في منعطف هناك فداهم السيارة وحطمها…”.

.

من كلمات مطلق

ديوان “رحيل”

ضحايانا

شباب العرب بوركتم شبابا           أباة الضيم في الجلى غضابا

وبوركتم من الأساد أقوى                قلوبا في الوغي وأحدّ نابـا

وبورك تراب سوريا ترابا                    جواكم يا ضحاياها الشباب

وقتلى يوردون الحتف ظلما                وخصم ما رمي إلاّ أصابا

ألا يا ليتنا كنّا تــراب                           إذا لم ينبذ السيف القرابا

خصم بلادنا ما تاب يومـا                  ولو ألفى صليل السيف تابا

سألناه   السلام   فلم   يجبنا          وما فهم السؤال ولا الجوابا                    

.

فلسطين الشهيدة

فلسطين الشهيدة لن تضيعا         الم تصبُغ مرابعــها نجيـعا؟

الم يسقط بها قتلى وجرحى      الم تستقبل الخـطب المروع

دعت أبناءها للموت جمعا            فلبى الجمع دعوتها سريعـا

وبُدّلت الربـــوع بها دماء                      وبدلت الدماء بها ربوعا

.

نشيد العمّال

بؤساء الدهر يا قوم العـبيد             يا ضحايا الجوع والموت الزؤام

استعدّوا وحاربوا الخصم العنيد      وأشعلوا في القلب نار الانتقام

واهدموا في عصرنا كل قديم        وارفعوا عن ظهركم نير العذاب

فتقيموا في الغد كونا عظيم           كان بالأمس صريع الاضطراب

.

أخي السجين

أرنو إلى شخصك لا أراكا              معي، أشتاق إلى مرآكا

أحن، يا صبحي، إلى ذكراكا         وقلبي الملتاع في لهيب

.

صحافة وأعلام فلسطين يرثون مطلق عبد الخالق

كانون الأول 1937: كلمات من حفل الأربعين على وفاته

جريدة “الكرمل”

“كان مطلق الشاب، رحمه الله من خيرة الشبان خلقًا وأدبًا وكان وطنيًا مخلصًا وشاعرًا رقيقًا مصورًا فكثر محبوه وأصدقاؤه…ولذلك اعتبرت فاجعته وطنية تألم منها وتوجّع منها إخوانه ومعارفه وقراؤه وشعروا بالفراغ الذي أحدثته وفاته في عالم الوطنية والإخلاص والشعر”.

جريدة “النفير”

“بكينا شابًا في مقتبل الشباب، صحافيًا من أقدر الصحافيين، وأديبًا من أقدر الأدباء، وشاعرًا من أرق الشعراء، وصديقًا مخلصًا وأخًا وفيًا، ذا شمائل نبيلة…بكته بلاد ابنًا يتوقد حمية وغيرة ونشاطًا”.

وديع البستاني

يا مطلق الأمة في أسرها                    وكلها يبكي معي مطلقا

أن تسل لا تسلو فتى خالدا                   ولست أسلوك أنا مطلقا

وكيف أسلوك وبي لوعة                  ألقى بها المغرب والمشرق

أنا ببابي للقاء واقف                                  وأنت بالباب وعزّ اللقا

أبو سلمى

يا دمعة الشعر على مطلق           على الشباب الناضر المشرق

عمر كعمر الزهرة يا ليته                    مرّ على الروض ولم يعبق

مطلق ما المرء سوى تائه                  يجول في اليم على زورق

الموج من جانبه غاضب                        والريح إن تلعب به يغرق

أكرم زعيتر

“عزيزي صبحي، لم تكن الخسارة في مطلق خسارتك، ولم تكن الفجيعة فجيعتك وحدك، إنها خسارتنا جميعًا وفاجعة الشباب المخلص في فلسطين. لقد كان مطلق رضي الخلق، أبي النفس، عف اليد واللسان، وفيًا، وطنيًا، ورجل هذه سجاياه، يؤتسى، ويؤسى عليه”.

الشاعر الشعبي خليل اللحام

يا مطلق ضحيت كتير       ولوطنك كنت تساعد

صحافي وشاعر كبير      بقلمك ونفسك تجاهد

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. شكرا اياد كل الاحترام لنمر يزبك
    مؤثر هذا الوفاء،

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>