القاهرة السورية بامتياز/ نائل بلعاوي

في القاهرة، وهي القريبة حدّ الإدهاش من كل جروح العرب، تواصل خيمة الثورة السورية وقفتها بقرب سور الجامعة العربية العتيدة

القاهرة السورية بامتياز/ نائل بلعاوي

>

|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

في القاهرة، وهي الحزينة المتعبة المنهكة… سليلة أوجاع الأمس، ورهينة ما قد يجيء. في القاهرة، وهي تلملم اليوم أحلامها، تؤجل أنت، من يوم ليوم، شهوة البحث القديمة عن هواها.. تقول: غداَ سترجع للمرور من قلب المكان الفاطميّ. غداَ ستعرف، او تحاول، كيف تعبر من شارع معتم في الازبكية  إلى ضوضاء الميدان وباعته في رمسيس. غداَ ستعيد اكتشاف ما عرفته وحفظته دائما عن ظهر قلب: القاهرة هي النيل، والنيل هو القاهرة. وغداَ ستفعل ما تفعله اليوم: تؤجل مرة اخرى، تلوذ بفكرة معتادة عن بقاء المدينة في مكانها: ستكون غداَ هنا.. وتكون انت لأيام عديدة أخرى هنا. فلماذا لا تؤجل متعة الوصل بها، وتذهب هذه الليلة إلى التحرير، لا لتسمع في ميدانه الشهير ما سمعت، قبل اسابيع قليلة، من حوارات عجيبة عن كل شيء في السياسة وعلوم الربيع القاهري، بل لتعبر من امامه وتلقي نظرة لا تطول على الجموع في وسطه.. سترجع مرة اخرى تقول، الخيام البيض باقية في الميدان كما يبدو… الناس والجدل الجديد وباعة الشاي والاعلام ويافطات النصر المثير: باقون ما بقي الحنين إلى الحياة. أما الآن، فهناك، على مرمى حجر من الميدان.. في أول الطريق  إلى جسر قصر النيل، قرب مبنى الجامعة العربية. هناك ما عليك أن تزوره، تُلقي السلام عليه، تفتشه عن البعيد/ القريب. فربما تلقى هناك ما لا تستطيع اغفال البحث عنه او تحييد وميضه.

تؤجل البحث عن القاهرة وتدخل الخيمة التي انتصبت هناك، بيضاء هي وكبيرة الحجم نسبياَ، لا تشبه مثيلاتها من الخيم الصغيرة التي أزدحم قلب ميدان التحرير بها، فبعيداَ عن اللون الأبيض المشترك والشعارات الحمراء التي ارتسمت فوق جدرانها وحوّلتها إلى مجموعة، متجانسة تماماَ من اللوحات التشكيلية العديدة. وبعيداَ عن روائح أكواز الذرة المشوية والبطاطا الحلوة التي تكفلت عربات الباعة المُلتفة من حول الميدان بإطلاقها وإغراق الناس والمكان باقتراحاتها اللذيذة. بعيداَ عن الصخب وحوار الألسن والأيدي الضاربة هواء القاهرة: نبدو خيمة الثورة السّورية في الجوار فريدة، شكلاَ وقلبا.. لا ضجيج خارجها ولا باعة للشاي والأعلام. لا حوارات أمام بابها الكبير حول نوايا المجلس العسكري ومجلس الشعب الجديد وفانتازيا المحاكمة الكافكائية للرئيس المخلوع.. لا شيء من هموم المصري وبوحه المرير، فالخيمة سورية الهمّ والأحلام…. سورية الانتظار والأخبار، والواقف الوحيد أمام بابها، لحظة اقتربت: هو الليل.

إلى فجائع التراجيديا السّورية المتواصلة تنقلك الخيمة الكبيرة على الفور: أغاني الثورة تصدح من زاوية ما، جميلة هي وحزينة في أن… حال الثورة ذاتها: ترفع الجميل والحزين فيك وتمدك بالأمل، وحده الأمل، هذا الذي تراه على وجوه الناس في الخيمة، وتلمس من بعيد، روحه التي انبعثت، بسحر غريب، عبر ما لا يُعدّ من الصّور الغارقة، جدران المكان خلفها… حكاية الثورة مذ البدء إلى اليوم ترويها الصور: أطفال درعا.. شباب وشابات دمشق.. بطولات دوما والزبداني.. القاشوش وعلي فرزات… ما استغاث به حمزة الخطيب ولا زال يُسمع… وهذا الاستثناء البطوليّ الذي تقدّمه حمص. لكلّ مدينة صورها وعذاباتها، ولكلّ صورة منها شهيد.. ومئات الأسئلة؟

لا شيء في فضاء الخيمة الحميم يجيب عن أيّ تلك الأسئلة، لا المقاعد المتراصة بانتظار جمهور ما، ولا الطاولة التي نُصبت أمامها وجللت بعلم الثورة الجديد القديم… لا الوجوه الزائرة وتلك المقيمة، ولا الصّور وهدير الأغاني… لا شيء إلا الأسئلة، أسمع بعضها الصارخ يهوي على أذنيْ بزفرة سيدة في الهزيع الاخير من العمر: لماذا، لمَ كل هذا القتل… كيف يصبح المرء وحشياَ بهذا القدر، والعالم.. أين هو العالم؟

يُرتب اوراقه من جديد أقول لها، يُرتبها هنا ، في مصر.. في الشام وفي كل الامكنة، وما هذي الضحايا التي نلاحق الآن ملامحها الآدمية في الصّور سوى: مجموعة إضافية من الأرقام في نظر العالم، قد تزعجه، حين تزداد، قليلا، وقد تؤرق مضجعه الوفير لليلة أو ليلتيْن، ولكنها لن تكفّ عنده عن كونها أرقامًا. فالمهم هو الأوراق التي تبعثرت وتناثرت وهزت، أو تكاد، صرح السياقات الصخرية التي أوجدها العالم وأعلى سقفها، وما عليه اليوم سوى أعادة ترتيبها، أما الأرقام فلها الله وحده وحزمة الصدف والكثير من الحسابات الغريبة.

وافقتني السيدة، وكذلك فعل الشاب العشرينييّ إلى يمينها، لندخل لحظتها في حوار، سوف يجذب بعض الحاضرين إليه ويمتد، ليطال حواضر العرب التي خرجت باحثة، للمرة الأولى، عن المعنى الفعليّ لمفردات الحياة الكريمة والحرية وأشياء أخرى عزيزة وغائبة… ثم نعود، بسحر الخيمة وما تمثله من مواجع وأمل، لنحكي الكثير عن سوريا.

في القاهرة، وهي القريبة حدّ الإدهاش من كل جروح العرب، تواصل خيمة الثورة السورية وقفتها بقرب سور الجامعة العربية العتيدة. تواصل التظاهرات خروجها، بين يوم وآخر، من هذا الميدان وذاك إلى باب سفارة النظام المقاوم.. وتواصل الأسماء الرنانة للمعارضة السورية حجيجها الدوريّ إلى فنادق وصالونات القاهرة، فنادراَ ما يخلو الجدول اليومي للمدينة المنكوبة من حوارات المعارضة التي اختلفت وتختلف، حول كلّ شيء في سوريا وخارجها، وصارت خلافاتها، بالتناغم العبثيّ مع ارتفاع أعداد الضحايا، هي الهدف المُرتجى كما يبدو، أو، كأنها، التكتيك المرحليّ: عصيّ التفسير وغامض الأبعاد؟

غامض الأبعاد هو كل ما يجري هنا أو هناك، في الشام والقاهرة، لا تفسرهُ قليلا، إلا لتسقط مرة أخرى سريعاَ في مكائده وخزائن أسراره، لا تفكك المرئي أو الخفي من وقائعه وما تدل عليه، إلا لترجع، بلا أفكار أو رؤًى ومن حيث انطلقت، فتسأل: هل مرت، حقاَ، هذي البلاد، حيث أنت الآن، بثورة خلابة المعنى.. أم أن أمرًا ما، تواصل الاشباح تحضيره في الظلام: سيعيد للفرعون هيبته غداَ.. أو يمهد الطريق أمام فراعنة من النوع الحديث؟ والشام.. تلك التي لا تكف القاهرة عن استحضار أوجاعها وأحلامها: كيف ستخلع فرعونها.. ومتى؟

غامض هو كل ما يدور من حولك، والليل في القاهرة، هذا الفريد ضجيجه: غامض هو الآخر.. ثقيل الوقع.. كثيف الإشارات والأسئلة الصّارمة: من أين تجيء أصوات الرصاص المتقطع هذا.. كيف تصعد الخلافات الصغيرة،عادة، لباعة الارصفة: إلى مراتب العنف الدموي والقتل السريع؟ وكيف يقترب التجوال ليلا في شوارع المدينة من حدود المغامرة؟.. ولماذا.. وكيف؟

لا تجيب القاهرة… مشغولة هي اليوم بالبحث عن نفسها، عن لحظة الخروج البديع من قبضة الكارثة وترتيب هذا الحطام، مشغولة برفع أسباب التماثل الغريب مع الشام.. باستعادة العذاب، فالقاهرة الآن: هي السورية بامتياز، وأنت عابرها الغريب.. تؤجّل، يومًا إثر يوم: دوافع البحث عنها.. تقول: ستبقى، إلى آخر الدهر، القاهرة، وتعود أنت.

(القاهرة / فبراير 2012)

 

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>