النجاة من مجزرة الشعر/ روجيه عوطة

ما هو دور القصيدة إزاء سيارة بوليسية تدهس أحد المتظاهرين في القاهرة، أو حيال سكّين يطعن ظهر فتاة صغيرة في بانياس؟ من الممكن الجزم أنّ دورها شبه غائب، ولا حاجة إليها البتة. مردّ هذا الغياب إلى سببين. الأول يتعلق بالإستعارة، والثاني بشخصية الشاعر، التي أنتجها السيستام ثنائياً

النجاة من مجزرة الشعر/ روجيه عوطة

Ibrahim-640

>

|روجيه عوطة|

إبراهيم القاشوش لم يكن شاعراً. الأغنية الشهيرة “يلا إرحل يا بشار” التي هتف بها أمام المتظاهرين لم تكن قصيدة. وما اقتلاع العصابة الأسدية لحنجرته، سوى إشارة إلى أنه لا يمت بصلة، إلى الشعراء الذين عرفت الأنظمة كيف تروّضهم نصياً واجتماعياً، فما عادت تخاف منهم. هذا يفسر، في معنى من المعاني، لماذا لم تحتج الثورات العربية إليهم، ولماذا لم ترغب في العودة إلى فضاء الإستعارة الذي شيّدوه، فاعتُقلت المجتمعات داخله لعقود طويلة، وهي لا تزال تدفع أثماناً دموية للخروج منه. السجون التي بنتها الأنظمة، كانت تحضر بطريقة أو بأخرى داخل القصائد. فالشعر الأدونيسي على سبيل المثال هو الوجه اللغوي لـ”فرع فلسطين”، أو الامتداد النصي له.

والحال هذه، ليس “الربيع العربي” ثورةً شعرية، لا لأنه نثري، بل بسبب تخطيه ثنائية الشعر – النثر. وهو، في هذا التخطي، يشير إلى أنه كان قد تجاوز ثنائية أخرى، قوية وخطيرة، أي ثنائية العقل- الحلم. فمثلما لم تنطلق الثورات من مكان عقلي، متصف بالمعايير والشروط الوضعية، لم تنشأ في مكان حلمي أيضاً. تالياً، لم تحمل الخطاب اليساري لـ”الأحلام الثورية”، على وجه الدقة، الذي كان يساوي بين الثورة والحلم، ويكرر أنه “يحلم بالتغيير”. بل تفلتت من تحديدات العقل وقوانينه، كما تخلصت من لغة الحلم وصوره، التي ليست في نهاية المطاف سوى تلافٍ رمزي للمكبوت في الواقع. لقد خرجت الثورات من مكان آخر، غير ثنائي وغير معهود، مكان يدعى “الجنون”.

تخطي الظلّ

في هذه الجهة، ليس الثوار، أكانوا متظاهرين أم مقاومين مسلحين، كتلة من الشعراء، بل مجموعات من المجانين. وهذا ليس نعتاً سلبياً، يخفّض من قيمتهم الثورية. على العكس، تقطع الصفة الجنونية الرابط الأخير مع النظام، ولا تفسح له في المجال أن يعود إلى لغة الثورة من باب الترميز والتخييل. بمعنى آخر، لا ترجع السلطة إلى اللغة الجديدة على أساس المعادلة الشعرية التالية: كبت الرغبة، ثم تحويل المكبوت إلى رمز أو صورة، قبل التعويض عنه. الفعل الأخير هو الوظيفة الأساسية للشعر -وللحلم أيضاً- الذي لا يتجرّأ على تخطي التعويض إلى الإبداع الخالص، بحيث لا يطلق سراح المكبوت بوصفه رغبة بحتة، بل كصورة أو رمز. تالياً، تظلّ الرغبة مقموعة ولا تتمثل بسوى الاستعارات، أي أنها تظل مبهمة وغير صريحة. كما لو أنّ الشعر يغشّها رمزياً، موهماً إياها بأنه سيحرّرها، لكنه، في النهاية، لا يقدر على ذلك، لأنه، في كلاسيكيته، خديعة السلطة الأكثر تضليلاً. فحين يحوّل الشاعر الرغبة المكتومة إلى صورة، ويؤلفها في قصيدة، لا يواجه السلطة القامعة، ولا يقدم على التحديق في عيونها، بل يتهرب منها ويمضي وقته في مهاجمة ظلها. كما لو أنه يسدي لها خدمة التغافل عن جسدها، عن مكامنها الواقعية، متمسكاً بقمعها وكبتها كي يستمرّ على قيد النص، فلا يمكنه احتمال خسارة النظام وسلطاته كي لا يفقد شعره وقصائده.

حتى اللحظة الأخيرة لزمن ما قبل الثورات، كان الشعر، بدراية صنّاعه أو بدونها، يسدي الخدمات للأنظمة. وقد يكون سبب ذلك عضوياً، يتعلق بماهية الشعر ووظيفته. لكن، بعد اندلاع “الربيع العربي”، بدا كأنّ الشعر خارج قاموس الشوارع، فلا هي استخدمته كسلاح مباشر في وجه السلطة، ولا استهدفته بانتفاضاتها. اللافتات والشعارات، التي وصفها الكتّاب والمعلّقون، ولا يُستثنى منهم كاتب هذه السطور، بالشعرية، كانت على الأغلب تتحدث عن إبداعية التظاهرات، ونزعتها إلى الخلق والابتكار. ولم تقصد التحدث عن “شعرية” ثورية دقيقة، فيها من البلاغة بقدر ما فيها من البيان.

كلما دخّن هذا الشاعر سيجارة، وشرب كأساً من الكحول، وألّف قصيدةً، ظن أنه  يتمرّد على النظام، غير أنه في النتيجة يسدي إليه خدمة خطيرة، اسمها “تأجيل الإنفجار”

 الموت صراحةً

ضعف الشعر أمام الإبادة وهزل للغاية. إذ فقد كلّ قوّته، وبدأ الشعراء يتساءلون: “ماذا ينفع الشعر في بحيرة من الدماء؟”. وهو سؤال يكرسه الوضوح في العلاقة بين السلطة والمنتفضين، بين القاتل والقتيل. فالحرب بينهما صريحة، ولا مجال لخطاب الكناية أو التشبيه خلالها، بحيث أنّ السلطة تبغي تركيز قوتها أكثر، وأن المنتفضين يرغبون في التخلص منها، ولا يستند الصراع بينهما سوى إلى هذين الهدفين الواضحين. تالياً، المساحة بين السلطة والثورة لا يشوبها أيّ ضرب من ضروب الشعر، لأنّ قانونها العنفي بعيد من الإبهام والغموض.

ما هو دور القصيدة إزاء سيارة بوليسية تدهس أحد المتظاهرين في القاهرة، أو حيال سكّين يطعن ظهر فتاة صغيرة في بانياس؟ من الممكن الجزم أنّ دورها شبه غائب، ولا حاجة إليها البتة. مردّ هذا الغياب إلى سببين. الأول يتعلق بالإستعارة، والثاني بشخصية الشاعر، التي أنتجها السيستام ثنائياً.

فالإستعارة التي تولد لتُرَمز المكبوت وتعوِّض عنه، ما عاد من الممكن أن تتألف من ناحية، وما عاد فيها منفعة من ناحية أخرى. ذلك، أن المكبوت نفسه قد انفجر بمسارات واضحة، تبدأ بالتظاهر ولا تنتهي بالعمل المسلح. هذا ما أدى إلى هزّ مفاصل السلطة، وتهديدها، فحاولت محاصرة الثوار بالموت قتلاً واعتقالاً. وهو موت بيِّن ومرئي، ولا يتمثل أمامهم بغير وجهه.

في هذا السياق، خرج الموت من معادلة الكبت وترميزه، وأطاح الجملة الشعرية، التي ليس في مقدورها التمكن منه، أو حتى مجاراته في بعض تمثلاته. لم يصرخ المتظاهرون في تونس بعبارة “إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”، على أساس أنها مقطع شعري من قصيدة أبي القاسم الشابي المشهورة، بل كما لو أنها هتاف تظاهراتي، حصل على دلالته في ضوء التحرك في الشارع. إذ سرعان ما تبدل في تظاهرات أخرى، وتغيّرت بعض عباراته، كما جرى في اليمن، حيث هتف المتاظهرون: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يرحل المؤتمر”. والحال أن دلالة الهتاف ليست شعرية، بل سياسية، وهي تلائم ما صرخت به الثورات في لحظتها الأولى، أي “الشعب يريد إسقاط النظام”. لقد كانت تلك الصرخة- الفعل بلا إستعارة، وردّت الأنظمة عليها بخطابات- أفعال واضحة بدمويتها، فاتضح مباشرةً أن للصراع طريقين، لا ثالث شعرياً لهما: الحرية أو المجزرة.

نهاية الشاعر

لم يكتفِ النظام بترويض نصوص الشعراء بالخوف، بل روّض سلوكهم الاجتماعيّ أيضاً، ذلك، من خلال تحديد الشخصية الشاعرية بطريقة ثنائية. إذ ألزم الشعراء مسلكين، يتناقضان في الشكل، ويتطابقان في البنية. يعود سبب هذا التطابق إلى نشأتهما في فضاء واحد، هو فضاء الاستعارة، التي لم تكن، قبل اندلاع الثورات، سوى شكل من أشكال الولاء للخوف في الوقت الضائع.

أنتجت الاستعارة الخائفة شخصية الشاعر المتماهي مع السلطة بالوقوف على المنابر، والحرص على ترتيب المقاطع والأوزان والقوافي، بالتوازي مع ترتيب اللباس، وخنقه بربطة عنق في أغلب الأحيان. عندما يلقي هذا الشاعر نصّه، من الممكن أن يتوقع المستمعون إليه العبارات والألفاظ التي سيملأ بها شطور قصيدته، التي غالباً ما تتكلم عن الحبّ بالطريقة ذاتها التي تتكلم بها عن أيِّ موضوع آخر، بحيث يتطرق إلى كل المواضيع وفق نسق محدّد من الأحكام والقواعد البلاغية.

من الممكن أن يكون أدونيس الشاعر الأكثر تعبيراً عن الشخصيتين الشعريتين، المنبرية والمتورّمة، بحيث أنه سقط في استعاراته قبل أن تحاصره أناه… فقد صرّح أخيراً بأنّ أطفال درعا هم الذين استفزّوا بشار الأسد

ذاك، على عكس الشخصية الشاعرية الأخرى، التي تتماهى مع السلطة من جهة التناقض. إذ لا يقف صاحبها على المنبر، بل يسير حالماً على الرصيف ويجلس في الحانة. ومثلما لا يتمسك بالوزن والقافية، لا ينظّم ثيابه، ولا يعيرها أيّ اهتمام، متفلتاً من قواعد النظم وقوانين البيان. إلا أنّ الشاعر هذا، مثل نقيضه الظاهريّ، هو من إنتاج السيستام، لأنه، في النهاية، لا يواجه السلطة، بل يتطفل عليها، ويعيش على حساب وجودها. فكلما دخّن سيجارة، وشرب كأساً من الكحول، وألّف قصيدةً، ظن أنه  يتمرّد على النظام، غير أنه في النتيجة يسدي إليه خدمة خطيرة، اسمها “تأجيل الإنفجار”. وهو، بدل أن يعتلي المنبر على الطريقة الكلاسيكية، يعتلي أناه المتورّمة والعصابية، ويخبئ وراءها تواطوءه مع الخوف، وتعلقه الموارب بالسلطة.

هذه الأنا المتضخمة لا تمثل سوى الجماعة التي تسحق الذات، وتطحن مفاصلها باللغة والإجتماع في أحيان السلم، وبالاقتلاع والإبادة في أحيان الحرب. مع العلم أنّ استعارات الخوف تضخّم الأنا، وتورّم خطابها حتى يطغى على سلوكها، مخترقاً قصيدتها، التي تتكرّر وتنغلق على قاموسها شيئاً فشيئاً، ما يشير إلى أنّ النظام قد استوعبها للغاية، وأنّ ماكينته اللغوية قد امتصّت المغاير، وجنّدت المألوف لخدمتها.

عند ذلك، يلتقي الشاعر الأول، أي معتلي المنابر، بالشاعر الثاني، أي مؤجل الإنفجار، ويزول الإختلاف الظاهري بينهما. إذ تقدّم السلطة شعراء المنابر على أنهم ممثلوها الوحيدون، في حين، أن لوجودهم سببين أساسيين. الأول، هو اختلاق صراع شكلي ودائم بين الشاعر المنبري والشاعر المتورم. والثاني، استعمال الشاعر المنبري كصورة رائجة عن السلطة، ومن السهل القبض عليها وانتقادها. في وقت، تحضر السلطات وتتكاثر وراء شخصية أخرى، تتظاهر بالانتفاض عليها، غير أنها تسدي إليها الخدمات في الواقع.

مع اندلاع “الربيع العربي”، انهار خطاب الإلتباس، وصعد خطاب الوضوح. فما كان من الشاعر المنبري سوى أن أعلن الولاء للأنظمة الساقطة. أما الشاعر المتورم، فقد لجأ إلى المواربة والمخادعة كي يخفي طاعته للديكتاتوريات. إلا أنّ الوقائع والأحداث الدموية ما عادت تسعفه، وتعينه على التملص من المسؤولية. فهي أثبتت طاعته للسلطة، وتغلبت بوضوحها عليه. ومن الممكن أن يكون أدونيس هو الشاعر الأكثر تعبيراً عن الشخصيتين الشعريتين، المنبرية والمتورّمة في الوقت عينه، بحيث أنه سقط في استعاراته قبل أن تحاصره أناه، وتُبيّن ما أضمره على طول عقود. في هذا الإطار، صرح أخيراً بأن أطفال درعا هم الذين استفزوا بشار الأسد.

لقد أطاح الوضوح العنيف اللغة المواربة. انفجر المكبوت، ولا تزال نتائج الإنفجار مجهولة. فمن المستحيل أن تكون معلومة، لأنّ مصدرها غير مقيّد بقانون عقليّ أو صورة حلمية، ولا بخطاب نثريّ أو رمز شعريّ. الفضاء الجنوني الذي خرجت منه الثورات، لا علاقة له بكل منظوماتنا الفكرية السابقة، التي تحاول تفسير ما يجري في الشارع، ورصد حركته وفقاً لمفاهيم سائدة. بعد ذلك، لا داعي للسؤال عن بدائل الشعر الساقط، والشاعر المنتهي، لأنّ الإجابة ليست حاضرة الآن، ولأنّ الاستفهام عن بديلٍ أو جديد في سياقات الجنون يعني الحنين إلى قواعد العقل، والتحسر على الأحلام التي لطالما منعتنا من الاستيقاظ من مجازر الاستعارة.

(عن ملحق “النهار”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>