جوعٌ مسرحيّ “في مستوطنة العقاب”/ مجد كيّال

هذه المسرحية ليست مسرحًا للمتعة، بل لاستفزاز الذهن؛ مسرح واعٍ لما يتركه في المشاهد من تعب فكريّ. يتحداك، يستفزك ويستنزفك، تخرج من القاعة بشعور الجوع، تريد أن تتكلم مع أي شخص حول ما شاهدت، أن تجد من يشاركك تخبطك وأسئلتك وصدمتك من وقع المرآة عليك

جوعٌ مسرحيّ “في مستوطنة العقاب”/ مجد كيّال

طاهر نجيب وعامر حليحل في لقطة من المسرحية


|مجد كيّال|

نضوج. هذا ما نحتاجه كي نتمكّن من مشاهدة “في مستوطنة العقاب” مشاهدةً كاملة، كي نرى المشهد كاملًا. تتطلب نضوجًا يرفض استعجال التضامن مع واحدة من الشخصيات. هذه مسرحية دائرية لا يمكنك أن تحصر نفسك في إحدى زواياها وتقول: “هذا أنا”، كما يفعل المشاهد الطبيعيّ في معظم الأعمال الدّرامية، لأنك تنتقل يوميًا بين الشخصيات الثلاث في هذه المسرحية من دون أدنى حاجة لأية انكسارات. إنها دائرة إنسانية تتمحور حول نقطة مركز واحدة؛ جهاز يحفر في وعينا فكرة واحدة.

أستطيع أن أشاهد نفسي في الوقت ذاته في الشخصيات كلها؛ أنا أرى نفسي على وجه المحكوم عليه (طاهر نجيب) ألهث كالكلب لنيل منحة من وزارة معارف، أو قطعة علكة؛ أن أرى نفسي على وجه المفتش (مكرم خوري) أطالب محكمة العدل العليا بوقف بناء جدار الفصل العنصري لأنه يضر بالبيئة، وأعارض تكاليف صيانة الجهاز؛ أنا أرى نفسي على وجه الجندي (عامر حليحل)، أقفز فرحًا أمام التلفاز عند تنفيذ عملية فدائية. نستطيع أن نشاهد أنفسنا في هذه التناقضات بالوقت ذاته؛ لكننا نحتاج إلى شجاعة الاعتراف بأننا مخلوق يطفح بالشّرّ وبالسّخافة في آنٍ واحدٍ؛ هذا ما تتطلبه المسرحية.

يمكننا أيضًا أن نرى الصراع صراعًا “بيننا وبينهم”، وكان من المحتمل أن تهوي المسرحية في مثل هذا التسطيح، ومن الممكن أن يرى المشاهد الأمورَ بهذا الشكل، لكني أرى الأمور أبعد من حصر أنفسنا بالفكرة المسبقة التي تقفز في كل مرة نسمع فيها كلمة “مستوطنة”.

نصّ “في مستوطنة العقاب” المُعدّ عن رواية فرانز كافكا القصيرة نصّ طاغٍ، يفرض نفسه ثقيلًا ثقيلًا فيجعل مهمة تميّز الأداء التمثيلي والإخراجي مهمة صعبة. منذ اللحظة الأولى تشعر بحاجة إلى تتبع النصّ، تنشغل بالركض وراء النص، ويبدو في بعض الأماكن أنّ القائمين على العمل أيضًا يركضون وراءه، كافكا مُتقدم والإخراج لا يترك فينا شبعًا، بالرغم من أنّ عرض المسرحية لعدد قليل من المشاهدين (في القاعة الصغيرة) أمر قلّما نراه، ويفتح إمكانيات كثيرة لاستغلال حيز الحميمية بين المشاهد والممثلين.

يمكننا أن نرى الصراع “بيننا وبينهم”، وكان من المحتمل أن تهوي المسرحية في مثل هذا التسطيح، لكني أرى الأمور أبعد من حصر أنفسنا بالفكرة المسبقة التي تقفز في كل مرة نسمع فيها كلمة “مستوطنة”

ولكن ليس هذا فقط ما يتركنا في جوعٍ مسرحي، إنما أيضًا أجسام تملأ الفضاء المسرحي من دون تبرير. لدينا أجسام موضوعة أمامنا في مركز المسرح، ننتظر كل المسرحية التحوّل العظيم الذي سيحدث عندما يستعمل الممثلون أحد هذه الأجسام، لكن الحدث أضعف بكثير من أن يلائم المساحة المعطاة لبعضها.

الأمر الأهم الذي يبقينا من دون شبعٍ مسرحي هو الانزلاق السريع الذي يؤدي بنا إلى النهاية. أصل إلى النهاية غير جاهز، لا أمرّ عبر رحلة التحوّلات في شخصية الضابط. هناك شيء ما يتحوّل فجأة من دون تحضير كافٍ. المسرحية تمتلئ بالكثافة الفكرية، وتنحسر فيها الحبكة الدرامية حتى في المواضع التي كان يمكن بسهولة تكريسها للحبكة، إلا أنها لم تُستَغَل.

لقد أُعجبت جدًا بعمل طاهر نجيب: هنالك شخصية صامتة يمكنك أن تترك كلّ المسرحية وتتابع تحوّلاتها، وتكشف فيها قصة تمكّنك من بناء مدن خيال عليها. في جوف المسرحية، هنالك عمل يقترب من الاكتمال في شخصية السّجين وحدها. كان بودّي أن أذهب مرة أخرى إلى العرض لأشاهد تفاصيل نجيب بحذافيرها.

عامر حليحل ثابت على أدائه؛ متميّز إلى حدّ الدهشة، ومفاجئ في قدرته التفوّق على نفسه

كل مرة من جديد. هنالك شعور في أنّ كل ما يُقال عن هذا الرجل سيكون زائدًا، ومع هذا لا بدّ أن أشير إلى أني شعرت بأنّ قوة الأداء في شخصية الضابط تكمن بالأساس في سيطرة حليحل على تحوّلات الشخصية، ابتداءً من الانتقال السلس المريح بين اللغة العامية والفصحى، وانتهاءً بانكسار/انتصار الضابط وفاءً لقناعاته. هناك ما يدل على تمكّن حديديّ وحرّ، عن سيطرة تامة وشاملة وتماهٍ كامل مع الدّور ينم عن احتواء كامل لكل جوانب العمل.

وسط هاتين الحالتين، لم يسطع مكرم خوري: إنه الدور، إنها الشخصية التي نسيت شعار “كُنْ وفيًا لقناعاتك” فأضحت متخبطة الدوافع، ليست ثاقبة بما فيها الكفاية، ليست طاغية لتصدمنا، لكن خوري كان وفيًا لدوره بقوة وأدّاه بصدق، من دون مبالغات غير مُبرّرة، لنشاهد أنفسنا كيف تغيب ملامح شخوصنا عندما نفقد ما نؤمن به.

“في مستوطنة العقاب” ليست مسرحًا للمتعة، بل لاستفزاز الذهن، مسرح واع لما يتركه في المشاهد من تعب فكري. يتحداك، يستفزك ويستنزفك، تخرج من القاعة بشعور الجوع؛ تخرج من القاعة تريد أن تتكلم مع أي شخص حول ما شاهدت، أن تجد من يشاركك تخبطك، من يشاركك أسئلتك، ومن يشاركك صدمتك من وقع المرآة عليك.

(حيفا)


من اليمين: طاهر نجيب، مكرم خوري، عامر حليحل ونزار زعبي


في مستوطنة العقاب ■ إعداد وإخراج: نزار زعبي ■ ترجمة: علاء حليحل ■ تمثيل: مكرم خوري، طاهر نجيب، عامر حليحل ■ ديكور وملابس: أشرف حنا ■ إضاءة: جاكي شيمش ■ موسيقى: ريمون حداد ■ إخراج تقني: فراس روبي


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. “…بل لاستفزاز الذهن”
    من كل جانب – قراءة المسرحية مميزه جدا – فكما للشخصيات تركيبة معقده تدعونا للتنقل بينها, كل ما على المسرح يستفز اذهاننا بتنقله المستمر بين تناقضات تركيبته. عباد الشمس: وردة غنية بتفاصيلها, منتصبة لكنها عبدة للشمس -تكوّن هذه الصفات استعارة تتلائم مع كل من الشخصيات عل مستوى مختلف – لكن لا ينتهي دورها هنا – فيصبح لصفارها دور على المسرح ويتركها مستعيرا جمالها ليصبغ به الدم داخل الماكنة – فيجرد الدم من رهبته بحيث لا يزيد عن كونه مجرد “جمالية” تعكس صورة خالية من الدم.

  2. أعجبني استخدامك للتعبير “جوع” لوصف الحالة الذي ترافق المُشاهد بعد مغادرة المسرحية. هذا بالضبط ما حدث معي. كان لا بدّ لي أن أتحدث مع أي شخص عن المسرحية. المشاهَدة الواحدة لا تكفي، فمادة التفكير المصاحبة للعرض لا ترضى بالمشاهَدة الواحدة، ولا تتأنى أثناء العرض حتى تترسخ في عقل المُشاهِد. النص المكثّف، والسوداوية القاتمة، والأداء الباهر، والفكرة العبقرية كلها تجتمع معًا “وتنقضّ” على عقل المُشاهِد مثل وحشٍ ضارٍ يلتهمك دون أن تدري، بل إنك لا تدري إلا بعد أن يكون كلّ ما ذُكر قد تمكّن منك أخيرًا.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>