سامر والصّوَر المُخجلة/رأفت آمنة جمال

هل حقّا أضحت صورتك “مخجلة” إلى هذا الحَدّ؟ قبل مدّةٍ، قال لي أحدهم إنّكَ تُعذِّبُ نفسكَ، فصحتُ به: أخفض صوتك، لو سمعك سامر العيساوي لمات من الخيبة لا من الجوع

سامر والصّوَر المُخجلة/رأفت آمنة جمال

19503

.

|رأفت آمنة جمال|

رأفت آمنة جمال

رأفت آمنة جمال

لأنّنا متفرّجون مُهذّبون وهادئون، يمُرُّ المشهدُ خجولًا، برتابة تُفضي بنا إلى الضّجر لنبدأ بالانسحاب واحدًا تلو الآخر، في عتمةِ المكان، حيث لا نُبصر سوى أصابعنا حين نُقرِّبُها إلى أنوفنا. ننسحبُ فيضُجُّ الممرُّ الضيّقُ بضَحِكٍ عالٍ كنّا قد كتمناه طيلةَ الوقتِ إذ كُنّا نحاولُ التأقلمَ مع حالةٍ فُرِضَت علينا ولا بُدّ لنا أن نكون جزءًا منها، كُلّ في نظرِهِ إلى نفسه قبل أن نتباهى أمام بعضنا بعضًا لنَظهَرَ على أنّنا متفجرّون جيّدون، نُدرِكُ كلّ تفاصيل الحَدَثِ، فنهُزُّ رؤوسَنا ذات اليمين وذات الشّمال أسفًا، ثمّ نتبادل فيما بيننا تلك النّظرات المتطابقة –دومًا- والّتي لا معنى لها أصلًا! إلّا أنّ قلّة هم الّذين يواصلون التفرّج بكثير من التمتمة غير المفهومة، دونَ أن يجدوا مَن ينهرُهُم لكي يصمتوا حتى نهاية المشهد الّذي لا يبدو أنّ ثمّة نهايةً قريبةً أو متوقّعة له.

أين نحن منك؟ أتساءلُ بين حشود المتظاهرين “تضامنًا”، والمحتَشِدين فيسبوكيّا حيث نفترضُ -في عالمنا الافتراضيّ ذاك- أنّنا نستطيع أكثر من عالمنا الواقعيّ. أيّهما واقعيّ أكثر؟ ما الواقع؟!  ثمّ.. أينكَ أنتَ أصلًا. ولماذا لم تعُدْ صورتُك خجولةً بل مُخجلة؟ تُرى أيّ المشاهد والصّور أكثر خجلًا؟ وهل كان يجدر بالصّور أن تكون “فضائحيّة” لكي نتأثّر فيكون لردّة فعلنا ذلك الدويّ القادر على إنهاء مرحلة التّهذيب والهدوء والتّمتمات.

أحدِّقُ في الصّورةِ: يداكَ مكبّلتان، عيناكَ مصوّبتان نحو جهة واحدة في كلّ الصّور الّتي تمّ تصميمها للـ”تّضامن” معك. هل تعلم؟ حينَ كنت صغيرًا كنت أكرَهُ الصّورَ، لا سيّما تلك الكبيرة منها، المعلّقة على حائط منزلنا لأشخاص رحلوا، ولم أفهم لماذا كنت دائمًا أملك ذلك الشّعورَ بأنّها صور من لحم ودم، تُلاحقني عيونُ أصحابها في كلّ أرجاء الغرفة.. “للجُدران أعين”، كنت أبوح لأمّي خائفًا، طَمعًا بالنّوم في سريرها. لا أدري لماذا كنت أشعرُ بأنّ تلك النّظرات مليئة باللّوم، كما لو أنّ الموتى الّذين نعلّق صورّهم يحدّقون بنا لومًا.. شعورٌ يُرافقني إلى الآن، دون أن أدركَ سرّ ذلك.

في صوركَ، لا تتحرّكُ عيناكَ.. ثابتتان في مكانهما نحو جهةٍ واحدةٍ.. أحدّقُ فيهما وأنا أميل برأسي يمينًا ثمّ يسارًا.. دونَ أن تكترث عيناكَ بي. متسائلًا: تُرى كم واحدًا غيري حاول أن يتفاهم مع صوركَ بالطّريقة ذاتها؟ ولماذا لا تتحرّك عيناك؟ هل تقصد جعلنا نفهم أنّك أكثر من عاتبٍ؟ أعلمُ أنّ لا شيء يستدعي أن تعاتبنا، ولا حتى أن تغمضَ عينيكَ عنّا.. يكفي فقط أنْ تحدّق بعيدًا عن أوجهنا المتفحّصة.

تتكوّرُ الأخبار عنك غصّة في الحلق. ترافق اسمك الأرقام. كلّهم يفاخرون بالعدد الّذي عليكَ أن تُحرزَه كلّ يوم.. إمّا ليفخروا بكَ حقّا في وطن تُحسَبُ قيمة المواطن فيه بالرّقم الّذي يحمله سواء أكان لاجئًا، أسيرًا، جريحًا، مفقودًا أم شهيدًا. أو ليفخروا بإنجازهم الّذي حقّقوه في أنّك غبت خلف رقمٍ بلا عمليّة حسابيّة تستنفد طاقة أحد. فإسرائيلُ تُحصيكَ مع عدد الّذين طرَحَتْهُم وقسَّمَتْهم لينتج عن ذلك 65 عامًا تقبل الجمع والضّربَ، المسؤولون الفلسطينيّون –إن كانوا قد سمعوا بك، فلستَ بالنّسبة إليهم سوى عدد “شُؤم” من أعداد الأسرى، يفاوضون به على طاولة المُقامرات الّتي منحوها اسمًا “أسفلَ” من هذا، فصارت طاولة للمفاوضات. أمّا الأطباءُ، فيتعاملون وفقَ ما تبقّى لكَ من عدد أيّام لتظلّ حيًّا (هم لا يدركون أنّك في كلّ الأحوال حيّ وحيّ وحيّ) يعبثون بعدد الأيام الّتي تبقّت لك ضمن لعبة “مَن سينتصر؟” الّتي نشاهدها جميعًا بالهدوء والتّهذيب والتّمتمات ذاتها.. أمّا الـ “متضامنون” معك، وهم الأكثر براءةً وصدقًا ممّا تتصوّر، أيضًا يفاخرون بكَ، عددًا.. تزدادُ كلّ يومٍ في احتجاجك على إضرابنا.

أحاولُ أن أتخيّلكَ مواكبًا لحَراكنا الشّبابيّ إلكترونيّا، فتُدرجُ صورةً لكَ في “الفيسبوك” وأنت ترفعُ من زنزانتك لافتة احتجاج علينا أو تضامنًا مع ذُلّنا. كنت ستحظى بإعجاب الجميع.. مَن هم معك ومَن هم عليك. مَن معك؟ لا تُصدّق ما يقولونه لك تحت التّخدير، ليس “كلّنا” سامر العيساوي. إنّه شعار يكذب علينا لا عليك. في حالتك، أنت وحدك سامر العيساوي. ولتسقُط كُلُّ الشّعارات الّتي كنت أظنّها كافية لتحقيق ما نعجز عنه.
نعم، كان الوضع مختلفًا مع غيرك من الأشياء والأشخاص الّذين “كُنّاهم”.. حين كُنّا “كُلّنا فلسطين” و “كُلّنا فلان”.. ولكن معك، “كلّنا لسنا معك”. إنّها الحقيقة يا سيّدي (كدتُ أضيفُ كلمة الرّئيس، لكنّي تنبّهتُ لمقامك الأرفع) لا أقصد أن أوجعَك.. فأنا أعلم أنّ فيكَ من الأوجاع ما يكفي ليفتكَ بنا “كلّنا”.
تُرى ما الّذي يُحدِثُهُ ارتطام شعاراتنا بقُضبان زنزانتك؟ وهل وصلتك أصلًا؟ هل تصدّقنا؟ أعلم أنّ محمود عبّاس أصدقنا.. ولكن هل تصدّقنا نحن؟ لا أستعجب صمتكَ.. ولكن فلتنظر إليّ.. لماذا تُشيح بنظرك إلى جهة لا أستوضحها؟

كيفَ أشرحُ لك تردُّدي في نشر ما كتبته عنك؟ تغدو الكتابةُ لعنة أحيانًا لا نعمة، إذ نشعرُ أنّنا مَدينون بأقلامنا لقضيّة ما أو لأشخاص يليقون بأبجديّتنا، لكن في الوقت ذاته لا نليقُ نحن بهم. إنّه ليس ضربًا من جلد الذّات، إنّها الحقيقة مرّة أخرى سيّدي. لا أعرف كيف أعنوِنُ الحالةَ، ولكنّني أحاولُ ابتكارَ لغة جديدة، وعباراتٍ لم يسبقني عليها أحد، إلّا أنَّ كلّ شيء يخونني، بدءًا بالأبجديّة الّتي تُقاسمني الخجلَ حيال صمودك. إنّه العجز.. هكذا ببساطة، دون أن نُجمّلَ الكلامَ ببلاغةٍ لا مكانَ لها هُنا في حضرة بلاغة الموقف واستثنائيّته. نعم يا سيّدي.. العجز. أجرّبتَ هذا الشّعورَ القاتلَ؟ لا أظنّ.. لكنّكَ حتمًا أضفتَ له في قاموسنا نحن تعريفاتٍ أخرى، سيظلُّ صعبًا علينا أن نفهمها جيّدًا.

صمودُكَ -ولا أعلم إذا كان استعمال العبارةِ في موضعها أم أنّها مجرّد تكرار سمج لحالةٍ لم ندركها- جعلني أخجلُ حتى من تغيير صورتي الشّخصيّة في العالم الافتراضيّ واستبدالها بصورتك.. فيما كان الجميعُ يُغيّرُ الصّورةَ ليطاردني وجهُكَ. هل حقّا أضحت صورتك “مخجلة” إلى هذا الحَدّ؟ قبل مدّةٍ، قال لي أحدهم إنّكَ تُعذِّبُ نفسكَ، فصحتُ به: أخفض صوتك، لو سمعك سامر العيساوي لمات من الخيبة لا من الجوع. لكن ما لم نقُلْهُ كان مميتًا أكثرَ، لا من الخيبة في ما لم يُقَل، بل من الانتظار، الشّيء الوحيدُ الّذي أحسبك شبعتَ منه.

كنتُ أؤجّلُ أن أكتبَ عنك، وأتحاشى ذلك، حتّى “ستاتوس” لم أكتب حين كانوا جميعهم يكتبون. ذلكَ لكي لا نختصرَ الحالةَ بالكلامِ وبتجميع “الإعجابات” على حائط يتصدّعُ في عالم افتراضيّ، لا أدري حقّا كم نحن أوفياءَ لك خارجه.. حيث يجدر بالحقيقة أن تكون أكثر وضوحًا، وبالكلام أن يدخلَ حيّزَ التّنفيذ فعلًا.

لكنّه العجز..

هل تعلم؟ لأول مرّة أنتبه إلى أنّنا حين نكتب، نكون منكّسي الجبين!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. كلمات جميلة جدا تعبر وللاسف الشديد عن واقعنا الاليم المعدومه فيه الحرية .سلم قلمك يا رافت

  2. الى الكاتب رافت المحترم …..
    استمتعت بما خطه قلمكم …اسلوب ادبي راقي …

  3. هل تعلم؟ حينَ كنت صغيرًا كنت أكرَهُ الصّورَ، لا سيّما تلك الكبيرة منها، المعلّقة على حائط منزلنا لأشخاص رحلوا،
    ولم أفهم لماذا كنت دائمًا أملك ذلك الشّعورَ بأنّها صور من لحم ودم، تُلاحقني عيونُ أصحابها في كلّ أرجاء الغرفة..
    “للجُدران أعين”،

    للجدران أعين
    وللسماء أعين
    ولكَ أنتَ أعين
    تتقن نقلنا من غباءِ واقع
    مرير ،
    لوحشة نصِ خجول
    يصفعنا بهدوء
    ليضيع نظرنا شمالاً ويميناً
    ولا نرى شيئاً من وجهنا !

    ونظرات النص وحدها
    تكفي لتقتلنا !

    رائع أنتَ كعادتك في كل مرةٍ صديقي
    وموجع أنتَ في هذه المرة .

  4. رائع كل الاحترام وأعجبتني عبارة “هل تعلم؟ لأول مرّة أنتبه إلى أنّنا حين نكتب، نكون منكّسي الجبين!”

  5. رائعة جدا رأفت ,,سلمت الايادي وسلم قلمك الجميل و عباراتك الرائعة التي جعلتنب اتخيل كل ما تكتب رغم انني من بلد اخر

  6. قطعة جميلة يا رأفت ومؤلمة كما هو الواقع

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>