الفراغ العميق/ رشا نجدي

الفراغ العميق/ رشا نجدي

عندما تتحول الثورة من أداة إلى غاية بحد ذاتها، ويصبح النضال من أجل الحفاظ على الثورة أهم من النضال من أجل ما قامت من إجله الثورة، تماما كمثل المتدينين الذين يتشددون لفكرة الدين نفسه وينسون القيام على حاكم جائر.

كارلوس سوليس، "سقوط الثورة الزائفة"، زيت على قماش، 2012

كارلوس سوليس، “سقوط الثورة الزائفة”، زيت على قماش، 2012

>

|رشا نجدي|

ما عم بيخلوني أحكي شو بدي اي شو بدك!؟

عندما نتحول من ناشطين محملين بقضايا ذات مضمون مترابط من البعد الشخصي إلى البعد الكوني إلى مبشرين يحفظون من الدين اسمه ويمنحون الثواب والعقاب بصفتهم القائمين على أحوال الدين الذين يبشرون له.

عندما تتحول الثورة من أداة إلى غاية بحد ذاتها، ويصبح النضال من أجل الحفاظ على الثورة أهم من النضال من أجل ما قامت من إجله الثورة، تماما كمثل المتدينين الذين يتشددون لفكرة الدين نفسه وينسون القيام على حاكم جائر.

والنضال من أجل ما قامت من أجله الثورة ليس أن نحمل شعاراتها ونلف بها، بل أن نبحث في شعاراتها التي تكون غالباً عامة ونفككها ونحاول مقارباتها مع رؤيتنا الاقتصادية والاجتماعية ومقاربتها مع المكان الذي نعيش فيه بحسب أخلاقيته هو لا بحسب أخلاقياتنا نحن ووضعها في إطار مشروع نناضل من أجله.

عندها فقط سيكون لديك حديث متناسق تخرج به إلى الناس وتستطيع أن تكون مقنعاً، أما الرفض المستمر فهو ما يضيق الخناق حول رقبتك ويبعدك عن الجماهير التي من المفروض أن غاية نضالك هو مصلحتها.

لكنه الفراغ الذي يسمع صداه في كل خطوة باتجاه النظام الجديد أو النظام نفسه بالحلة الجديدة، هو سيد الموقف.

إنه اشبه بالرفض الطفولي عندما لا تكون اللعبة على هواك فتدير ظهرك وتقول إنك لن تلعب، وبطفولية مطلقة سيُكمل الأطفال الباقون لعبتهم وستجلس حزيناً جنبهم وهم يلعبون أو سترغم في الانضمام في وقت لاحق، لكنهم يشعرون بضعفك ولن تستطيع أبداً أن تكون لاعباً مثلهم الآن.

أو أشبه بالاحباط الثوري، وستتحول من ثائر يملأ العالم بصوته ورأيه إلى محبط في قوقعة يملأها سلبية تبعد ما تبقى من ناس حوله.

إنها القصة نفسها؛ تبدأ بالتمسك بالحزب كمؤسسة أو كبنية تنظيمية دون ضرورة إعادة النظر في المتغيرات وفي التجربة والابتعاد عن القضايا التي نشأ الحزب من أجلها، ليس الحزب هو الغاية ولا تاريخ الحزب هو المشروع، لكنها تقريبا التجربة نفسها التي عاشتها معظم الأحزاب اليسارية في المنطقة العربية على الأقل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فأصبحت الأحزاب حجرة اختمار يعاد فيها اجترار التجربة دون محاولات لإعادة صياغة المشروع الذي قام من أجلها الحزب في المقام الأول. والمحاولات الجدية التي ذهبت في هذا الاتجاه قامت على أساس الانتقام مما كان سابقاً وضرورة الابتعاد عنه ونبذ التاريخ الذي انتج هذه الحالة. فانتجت تطرفاً في الدفاع عن مواقف غير متصالحة مع القضايا الأساسية بالشكل والمضمون وانتجت تحالفات انتقامية بدورها لا تثبت حرية الاختيار إنما تبرهن عن قصر نظر وغياب على مستوى المشروع مرة أخرى.

لذا نجد أنفسنا أمام عقم على مستوى الأفكار والمشاريع ونتشبث كأصحاب مشاريع بوسائل المطالبة، نحاول المحافظة على الشارع في محاولات مستميتة دون أن نملك ما نقوله للشارع في حال استجاب لنا. الصراخ عالياً سيجلب الانتباه لا محالة لكن ما الذي ستقوله عندما تهدأ الأصوات الأخرى؟ ما الذي تُطالب به إذا سؤلت؟

إن اللحظة التي نعيشها هي لحظة اشتباك كبيرة تتصارع فيها المشاريع المتبلورة والمنظمة تتصارع في ما بينها، في اللحظات المشابهة يجوز التوقف وإعادة النظر، إنها اللحظة المناسبة للانسحاب من الشارع والتفكير في استراتجيات مختلفة لتحقيق الهدف ومتابعة النضال من أجل القضايا المهمة المتفق عليها. فالغايات التي نعمل من أجلها تستحق النضال المستمر.

أذكر جيداً لحظات النقاش حول ضرورة استمرار الاعتصامات المفتوحة، واختيار الوقت المناسب لفك الاعتصام. إنها اللحظات التي نختار فيها إما الاستمرار بصورة الثوار التي حجزتها لنا الصحف اليومية في صفحاتها  والتي أعجبتنا وتؤكد  لنا أننا نقدم قسطناً إلى العُلى كثوار. أم نختار العودة إلى القواعد وإعادة النظر في الخطط. لا طالما أحببت البقاء في الشارع ودافعت عن الموضوع في كلّ المرات. لكن كل الاعتصامات المفتوحة انتهت إلى خناقة كبيرة حول موضوع الاستمرار أو الفض.

اليوم ونحن على قاب قوسين أو أدنى من تغيرات كبيرة الحجم، أقصد على مستوى التقسيم العالمي والتحالفات الاستراتيجية وفي حين تختلط الأوراق مجدداً، لا نجدنا أمام لحظة بناء إنما أمام إعادة إنتاج لنفس مشاعر الإحباط والهزيمة. لا تدور الأحاديث حول متوجبات ما سيكون بل تدور في فلك أحاديث الفرن الصباحية من رمي الاتهامات والتعليقات النابعة من الشماتة أو الدفاع عن من يشمت به دون أن يسمع أي أحد حديث الآخر.

مرة أخرى، متلازمة الاحباط الثوري في لحظات التغيير العالمية، لا تساعد في أي تقدم في الأعوام المقبلة بل تساهم في إبعادك عن الشارع أكثر فأكثر وانفصالك عن الواقع أكثر فأكثر.

(بيروت/ القاهرة)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. Well Said :)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>