الحرب على تل أبيب!/ رجاء ناطور

الحرب على تل أبيب!/ رجاء ناطور

إلى أين نذهب وأنتم في كل مكان؟ إلى أين نذهب وأنتم كثيرون كالله؟ أين سنهرب من موتتنا هذه التي تدسونها قسرًا في أفواهنا؟ أين سنذهب من موت حوّلتموه إلى خبز الدنيا، عوّدتمونا إيّاه.. وصرنا نأكله؟

غوستاف كليمت، "الموت والحياة"، زيت على قماش، 1916

غوستاف كليمت، “الموت والحياة”، زيت على قماش، 1916

>

|رجاء ناطور|

رجاء ناطور

رجاء ناطور

أمّي القلقة اتصلت غير مصدّقة: “يمّا رجاء عنجد الصواريخ وصلت تل أبيب؟ ويافا يمّا؟ مش مصدقة!” قلت: “وأنا مش مصدقة!! لإني بس بسمع صوتها ولا مرة شفتها الصراحة!”

قالت ساخرة: “بعدين معك بتصدقيش إشي! أكيد وصلت، هاي صوتها اللي عم تسمعيه. قوليلي بس، بعدك بتهربي برّا البيت لما في صفارة انذار؟ الناس بتتخبى جوّا يمّا مش بتهرب لبرّا”!

قلت: “برّا جوا بطلت تفرق، مش مهم اذا صارلي شي بنقول نار صديقة، نار غلطانه ونار سهت وخلص!”

قالت صارخة: “والله لو صارلك شي لادور بالجبال!”

ضحكت وقلت: “إنتي عندك حيل تدوري هَلأ بالجبال، دوري بالبيت بكفي!”

أنهينا المحادثة باختبئي…اختبئي جيدا من نار صديقة، من نار تسهو من نار لا تخطئ.

أمّي لا تعرف أنه إذا جاءت صافرة الانذار وأنا نائمة أكمل نومي، أكمل الحلم الذي تكسر الصافرة صورته الأخيرة كلّ يوم في الثامنة إلاّ ربعًا بالضبط، من دون تأخير. ولا أتمتم إلاّ لاعنة “يلعن سماكم عَ هالصبح”! ولا طعم إلاّ للمرارة على شفتيّ. كنت أظلّ في نومي ليس لأني شجاعة وليس لأني جبانة، أنا فقط أكثر استسلاما للنوم، أكثر استسلاما للحلم والموت معًا. مغادرة الفراش بدت دائمًا كارثيّة أكثر من الموت سريريًا ثم لِم أقوم؟  إلى أين أهرب؟! أنا لا أعرف أين يقع أقرب أو أبعد ملجأ، أقرب أو أبعد موت .النوم كان ينسيني أن صافرة على تل أبيب تعني دمًا بغزة، أنّ ملجأً هنا يعني ركامًا هناك وأنّ هروبا من بوابة المبنى هنا يعني النجاة، وكل هروب بغزة لا يهم إلى أين- يعني الموت!

أمي لا تعرف أيضا أني جربت الهروب مرة واحدة إلى درج البيت مرة واحدة مع السيجارة حافية وبلا ولاعة، في نفس اللحظة التي وصلت إليها الدرج خرج جيراني اليهود مع أطفالهم وهواتفهم الخلويّة وكؤوس نبيذ بين أصابعهم؛ كؤوس سكبت كأنّ لا حرب، كأنّ لا غزة وكأنّ لا موت. سكبت كأنهم يملكون الوقت كله ليسكبوا الدم والنبيذ ويثرثروا حوله. نظروا إليّ ونظرت إليهم، لم نقُل شيئًا لم يكن ما يقال، كان وقت لا يمكن أن تقول فيه شيئا، كان وقت أطبق على عنقي وخنقني بصمت. امرأة واحدة كسرت الصمت وهي تحمل طفلة ناعسة على صدرها. نظرت إليّ وقالت: “أليس صحيحًا أنّ دولتنا مجنونة”؟ أردت أن ألعنها، أسبّها، أركلها وأجرجرها من شعرها بكلّ الحيّ كما تفعل نساء يافا. قلت: خلص بدّي ألعن دينها! دولة مين يختي؟! لكن ما حصل أني أخذت نفسًا من سيجارتي، نفسًا عميقًا أدخلته وأخرجته وقلت: “نَخُون”، صحيح! بس اشلحي سماي هالساعة”! سكتُّ وسكتتْ، عَدّتْ وعَدَدتُ للعشرة، عشر ثوانٍ لسقوط آخر شظية قبل دخول البيت، دخلت بيتها ودخلت بيتي، هي مع ابنتها وأنا وحدي، وبيننا كلام لم تجرؤ أيٌّ منّا على ذبحه على الأخرى.

وصرت إذا جاءت وأنا أضع كحلي، أشدّ على قلم الكحل جيّدًا وأمدّ خط الكحل على جفني إلى نهايته، وأقول امرأة تتجمّل تحت الموت، في الموت وقبل الدم. صرت أخاف أن أنسى أنّي هنا وأنّي لم أمت، وأنهم لم يأخذوا بعد كلّ شيء، وإذا جاءت وأنا أدخّن، أشعل سيجارة أخرى من أختها في أختها وأقول: “آه ليه لأ ما تنحرق تل أبيب زي ما بتنحرق غزة ولتأخذ معها يافا، خلص”. أردت أن تحترق تل أبيب وأن تصبح ركامًا، كلّ تل أبيب بمطاعمها وعُلب ليلها وأسواقها وشوارعها، أردت أن تكسر الصواريخ صباحاتها وأن تشطر القذائف روحها الآن وإلى الأبد. أردت أن تصرخ نساؤها وأن يولولنَ. نساؤها الأنيقات صاحبات الجلد اللامع المشغولات بالتسوّق والسهر ليلا والتسفّع على البحر؛ ليمُت البحر أيضًا! أردت أن يولولنَ وأن يقمن أو لا يقمن من تحت الركام لا يهمّني، أردتُ دمًا على ثيابهنّ الأنيقة، غبارًا بشعور أطفالهنّ.. أردت أن تمتلئ مستشفيات المدينة بالجرحى والقتلى والأشلاء. أردت ركامًا ودمعًا ودمًا… ودمًا… ودمًا. أردت دمًا يقابله دم! أردت قليلا من الموت هنا في تل أبيب.

أردت أكثر من ذلك: مدينة أشباح بالليل والنهار، يخرج سكانها لشراء خبز أو  جرعة ماء ولا يعرفون هل سيعودون… كيف سيعودون؟ أردتهم أن ينشغلوا بالموت وبالخوف وبتعداد الجثث وحفر القبور الكثيرة بكلّ الأحجام. ثم أردت أشياء أخرى كان لها ذات اللون، أحمر لا نهائيّ… خفت هذه المرة، ليس منهم، بل منّي، خفت أن أكون قاتلي، أو أن أكون عدوّي وأن أكون النار التي لا تخطئني. هذا ما يفعله هذا  المكان بي، لا أنا ميّتة ولا أنا حيّة، برزخ طويل ولا ملائكة تعذّبني بينما أنتظر احتمال النجاة. إنه برزخ تعذّبني فيه الحياة من دون احتمال بالنجاة. إنها حياة لا يتنصر فيها الموت ولا الحياة وتفاوض فيها الحياةُ الحياةَ على الموت، أو على الحياة.

كلّ ما حولي ميت، يموت.. سيموت أو ينتظر الموت. ميت وهو يختبئ في الملاجئ.. ميت وهو يركض إلى الملجأ. ميت إن وصل وإن لم يصل، إن تأخّر أو لم يتأخّر. ميت إن خرج وإن لم يخرج.. ميت إن عاد.. ميت إن فكّر بالعودة

ثم صرت لما تأتي، ألعن السماء وأشير بأصبعي إلى ربّهم فلم يعد هناك ما ألعنه ولم يعد هناك من لم أشُر بأصبعي إليه قائلة: ليمت! صرت أقول لما ينتهي الكلام: يلعن سماكم… ألعن السماء التي تركبونها علينا، التي تأتون منها، الحُبلى منكم وبكم والتي تطيعكم- التي لكم. لا تعجبكم الحياة فينا وتختارون لنا جهة الموت. إلى أين نذهب وأنتم في كل مكان؟ أين نذهب وأنتم المكان وربه؟ إلى أين نذهب وأنتم كثيرون كالله؟ أين سنهرب من موتتنا هذه التي تدسونها  قسرًا في أفواهنا؟ أين  سنذهب من موت حوّلتموه إلى خبز الدنيا، عوّدتمونا إيّاه.. وصرنا نأكله؟ صرنا نعرفه. وصار يعرفنا- صرنا نحبّه. أيّ جهة تليق بموتنا؟ الجهة التي لا تدلّ عليكم؟ الجهة التي لا تدلّ علينا؟ الجهة التي لن تذكروها وأنتم تضاجعون نساءكم، تأكلون طعامكم وتحتضنون أطفالكم؟ جهة البحر لأنها أسهل للتخلّص من أثرنا. اليابسة.. لا يابسة بعد غزة، الحدود بغزة واضحة: من البحر أنتم، ومن اليباس أنتم ومن السماء أنتم؛ أنتم والله والموت معًا!

ولما استمرّت الحرب وصار أسبوعان، ثلاثة، أربعون يومًا، خمسون يومًا، كنت أجلس ولا أفعل أيّ شيء سوى التحديق بالبياض. بياض شاشة الحاسوب التي تنبض عليها الإشارة السوداء، تنتظر أن تأمرها أصابعي بحرف، كلمة نَفس. من الغرفة المجاورة طوال النهار أسمع ضربات أصابع “مايا” على الحاسوب بقوّة.. عنف وشهوانيّة. أحقد عليها لأنها تكتب الآن، لأنّ الكلام يطيعها ويأتيها.. ويصير تحت أصابعها كائنًا يكلمها وتكلمه، وربما تداعبه ويداعبها.. يلعق أصابعها.. أوففف! في الغرفة المجاورة لغرفتها أجلس أنا أحدّق بالبياض… أحدّق وأحدّق… ويبتلعني البياض؛ بياض عميق.. شاسع.. بلا قاع.. والإشارة السوداء على شاشة الحاسوب تنبض. لأول مرة أنتبه أنّ الإشارة السوداء على شاشة الحاسوب تنبض، تنبض وتنبض مثيرة حنقي. الإشارة السوداء أكرهها اليوم.. أكرهك وأنت تضعين يدك على خاصرتك كصبيّة سمراء شقيّة وصبرك ينفد كأنك تقولين: مسخرة تجعلينني أقف.. وأنبض وليس لديك ما تقولين! انتهى منك الكلام كما انتهى منه الماء، لِمَ تجعلينني أنتظر وأنت لا تملكين إلا البياض!

اِنتبهت فقط أني لم أستعمل منذ الحرب.. بل قبل الحرب.. لا منذ أول الشتاء.. لا بل أول الربيع كلمة: أنبض. ولاوووو.. دعوني أردّدها فكلّ ما حولي ميت، يموت.. سيموت أو ينتظر الموت. ميت وهو يختبئ في الملاجئ.. ميت وهو يركض إلى الملجأ. ميت إن وصل وإن لم يصل، إن تأخّر أو لم يتأخّر. ميت إن خرج وإن لم يخرج.. ميت إن عاد.. ميت إن فكّر بالعودة ! ميت إن انتظر الموت وأن لم يأته موته، ميت وهو حيّ. سأردّدها بصوت عال ويدي على شفتي وعنقي وكتفي.. وخاصرة السماء. نبض.. نبض.. نبض.. نبض.. نبض.. نبض.. نبض، حتى تعتادها شفتاي ويعرفها جسدي، جسدي قبل الحرب! هذه كلمة ربّيتها على أصابعي، أطعمتها جيدًا من.. شفتي.. عنقي وكتفي.. هذه كلمة الليل حين تتأخّر. أنستني الحرب كلامًا كثيرًا: أحبّك، اشتقتك، تنقصني، أتنفسّك وأريدك.. شفة.. عضّة.. نستني الحرب حتى لا تتأخر عليّ وخذ معطفك! ويلعن دينك أحيانًا حين تكون عضّتك أبعد من أنّتي!!

ثم صرت حين تأتي أنسى الكلام الذي عرفته قبلها، صار لديّ كلام آخر كثير كثير استبدلته بكلّ مرادفات الموت بكلّ ألوانه. بالأول كنت ساذجة كما بكلّ حرب.. اعتقدت أنّ الموت يأخذ أسماءه من أفواه المذيعين والمذيعات والمراسلين والمراسلات والمحللين السياسيين والناطقين العسكريين ومن أفلام الفيديو التي تصوّرها كتائب عزّ الدين القسام… صاروخ، صلية، قنّاص… ورصاص.. رصاص تصبّه السماء، سماؤك أنت. أنت ربّهم بالحياة وربّنا بالموت، كيف أخبّئ دمي عنك أنت- أنت ربهم! في حلقي رصاصة عالقة، لكني لست بندقية. قلت لك بالأول أوقف قصفهم، أطبق عليهم  ما تسمّيه الأخشبين… ثم فهمت أنك لا تريد… فأنت لم توقفهم منذ عبروا البحر إلى أرض ميعادك.. كذّبوك، عبدوا العجل وقتلوك وسكتّ. ثم قلتُ لك: لا، دعهم يقتلون، يقصفون ويحرقون.. لكن أعِدْ كلَّ الميّتين الآن!

لكن بهذه الحرب كانت للموت أسماء أخرى غير دير البلح والرمال وبيت حانون. كانت هناك أسماء أخرى: بنت، ولد، بيت، عصفور، ريح، شجرة.. وتحليق. فجأة صار للموت عنوان بيت، صندوق بريد، عتبة، شباك، سرير… ومخدّة وصحن في كلّ بيت. صار يعرف الجيران ودكّان الحارة ومواعيد النوم ومواعيد السهو وأيّ حلم يكسر ليُطبق عليك. صار يستعير فساتين الصغيرات وقمصان الرجال ويقلب بأصابعه النتنة فساتين المراهقات… صار يترك رائحته عليها من دون خجل لنعرف أنه جاء، أنه كان هنا. ثم صار يأتي مع رفاقه وعدّته لا وحده. أصبح قادرًا على أن يكون على مقاسك الشخصيّ بالضبط. صار يأتي عارفا ليس عشوائيا. فلا موت عشوائي في غزة؛ صار عارفا لحجم الصدر والخاصرة والفخذين والجبهة والعنق… أصبح يأتي عارفًا أين ينزرع.. أين يُموتك.. بأيّ جهة.. أيّ “فيك” سيكون فتاكًا! يعرف كيف لن تشفى منه.. كيف لن تنجو منه.. كيف ستنتهي منه وكيف لن ينتهي من غيرك!

وصرت حين تأتي، أراوغ الكلام ليأتي، فلا ينفع معه شباك مشرع في سماء يافا على تل أبيب التي سرقت من يافا السماء والبرتقال وأعطتها برشام الحشيش ومسدّسًا غير مرخص. لا، ولا تنفع السجائر ولا عشرات فناجين قهوة الواحد تلو الآخر، لجعل الكلام أقلّ يباسًا على أصابعي. كيف يمكن كتابة الموت، أوف! كيف يمكن الكتابة عن موتك الذي ترسله لنا من سمائك، أقصد من الـ السماء التي وهبتها لهم، السماء التي أجّرتها للموت كما يؤجّر باريسيّ غرفة في بيته وقت عطلة الصيف. الشجاعية.. الشجاعية.. بيت حانون.. خان يونس.. الرمال.. دير البلح.. والدم طويل.

(27.8.14)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>