دمية شقراء…وهندسة/ راجي بطحيش

أعرف أنني لا أؤمن بالتحليل وأنني رغبت باستيقاف الشبح الملتحي في الحانوت لدوافع دراماتيكية متجذرة عميقا عميقا. لقد كذبت عليه وقتها وبخبث المراهقين الجدد ولكنني أحاول أن أجيب على سؤاله مرة أخرى بعد ثلاثين عاما

دمية شقراء…وهندسة/ راجي بطحيش

BOY AND DOLL

.

|راجي بطحيش|

 raji-qadita

يقف بجانبي رجل ملتحٍ يمسك بين يديه مقشرة بطاطا، يهم بسداد ثمنها مخرجا بطاقة العضوية من محفظته المهترئة. هذه ليست محاولة وصف تهكمية؛ لقد قطع هذا الرجل كل هذه المسافة ليشتري مقشرة بطاطا من المتجر الكبير، التي تتعامد رفوفه كجدران تفصل بين طائفتين متحاربتين أو بين عنصر وعنصر أدنى، يتعلق ذلك بزاوية نظرنا. أقف وراءه في طابور الخبز البلاستيكي هذا وحالي ليس بأحسن منه. فأنا أمسك سكينا واحدة. قطعت كل هذه المسافة لأشتري سكينا بسبعة شواقل. يميل الرجل الملتحي إلى الوراء ويكاد يسقط، يسقط علي، ينظر خلفة بحركة شبه دائرية.

- آسف.

يا إلهي، إنه الأخصائي النفسي الذي اجتمع بي على انفراد في جيل 12 سنة إثر أزمة عصفت بعائلتنا الصغيرة والهشة، وسألني وقتها إن كان شيء ما يضايقني، على سبيل إحاطة الأزمة من شتى جوانبها. أراد أن أحدثه بصراحة عن مشاكلي، ففكرت قليلا حينها وقلت له: …نعم، الهندسة… الهندسة تضايقني ولا أفهمها.. لا أفهم سبب وجودها وما فائدتها للبشرية وأن عليهم أن يلغوها.. وأن كل شيء في حياتي وقتها كان مريحا، ناعما، عذبا، يكاد ينشطر القلب إلى نصفين من شدة البديهية.

دفع الأخصائي النفسي ثمن مقشرة البطاطا، تناول كيسا أكبر بكثير من الحاجة، عند إذ أمسكت بسكيني وهممت بمناداته ولكنه أفلت مني. ابتلعته صفوف السيارات الواقفة بترتيب شديد… منهك… رمادي جدا.. لا طعم له ورائحته رائحة مكان منسيّ.. حزين.. تركته الذكريات وحيدا مغبرا بالأشياء والحبيبات الدقيقة المفترسة وها هي صفوف السيارات المتراصة تدوس الرجل الملتحي تحت أقدامها. أقدام العدم.. هو ومقشرة البطاطا وبنطاله الذي يكاد يتساقط منه قطعا قطعًا.. وكأنها تسحبه بين صهريجين وتحوله إلى رقاق أو أشبه بسجادة عجمية أصيلة المكونات..

عند إذ أمسكت بسكيني وهممت بمناداته…وكانني أقول له..لو سمحت، لقد كذبت عليك عندما قلت لك إنّ جل ما يضايقني هو الهندسة… وها أنا أقف أمامك الآن بعد ثلاثين عاما أشتق سردية تماس مع السينما الميلودرامية المصرية.. بعد ثلاثين عاما وأنا بمظهر لا بأس به… القليل من الشعر الأبيض والهالات السوداء تحت العيون، أنت الذي تبدو هاربا من أدغال تعج بمخلوقات الغوريلا المغرمة بمطاردة البشر.. وفقط البشر..آسف لقد كذبت عليك. لم تكن الهندسة وحدها ما يزعجني في هذا العالم الذي لم يكن  يبشر بخير وفير وقتها، أمور كثيرة كانت تؤرقني حينذاك وخاصة أن كل موضوع الهندسة هذا في الصف السابع هو وهم كبير لأن الهندسة في الجامعات شيء، وفي الصف السابع شيء آخر أشبه بقياس الأشكال والنسب داخلها وفي صفوف متقدمة يصبح أسمه علم “المثلثات” و”التفاضل والتكامل”… أمور كثيرة هل لو كنت قد أخبرتك بها وعددتها لكانت حياتي مختلفة ولم أكن لأقف خلفك في هذا الحانوت المدجج باللاشيء؟… كما أنني اكتشفت بعدها واقتنعت كليا بأنني لا أؤمن بالتحليل النفسي لا الفرويدي ولا اللاكاني، بل أؤمن بالكيمياء.. كنت أكره الهندسة ولكني أولعت بالكيمياء بعد اكتشافي لها.. وصرت احفظ معادلات التفاعلات عن ظهر قلب وبعدها في الجامعة… سواء الكيمياء غير العضوية أو العضوية أو حتى التحليلية، ومن هنا جاء حبي للأدوية وقدرتها على العمل على كهرباء الدماغ وكيمياه أكثر من التحليل النفسي، والسلام مع الذات وعناق الأشجار ومناكحة القرع البلدي.. وكل هذا الخراء. لدي شعور أنني لو كنت قد صارحتك بالحقيقة وقتها لكنت سأجد نفسي مرة أخرى في ذات الحانوت، أقف عند نفس الصندوق، ربما أشتري نفس القطعة ولكنني كنت سأزن وقتها 5 أضعاف مما أنا عليه الآن وكان سينقصني سحر الدنس الذي تسمونه هالات سوداء تحت العيون.

أعرف أنني لا أؤمن بالتحليل وأنني رغبت باستيقاف الشبح الملتحي في الحانوت لدوافع دراماتيكية متجذرة عميقا عميقا. لقد كذبت عليه وقتها وبخبث المراهقين الجدد ولكنني أحاول أن أجيب على سؤاله مرة أخرى بعد ثلاثين عاما. ما الذي كان يضايقني وقتها؟ أننا كنا ننتظر شجرة اللوز بفارغ الصبر حتى تثمر كي نلتهم ثمارها الحامضة والمقرمشة على مهل مع الملح ليأتي الغزاة متسحبين بعد الغروب ويقضون على ما تحمله الشجرة في ليلة واحدة ونحن نيام؟ أنني كنت مضطرا أن استقل الباص من المدرسة للشارع العمومي في حينا واتسلق الجبل كل يوم لأن شركة الباصات رفضت تسيير خط يلج حينا بسبب الطبيعة الطوبوجرافية القاسية والفالوسية للمكان؟ أنهم كانوا يفصلون بين الأولاد والبنات في الحصة الأخيرة فكان الأولاد يمارسون الرياضة والبنات الخياطة والتطريز كي يصبحن زوجات مسيحيات صالحات كإليصابات، وأنني كنت أحلم أن أكون في درس الخياطة ..حيث الأمان أكثر خصوبة وباستحقاقات أقل؟ أنني كنت ألعب بدميتي الشقراء (كانت أصلا دمية لعمتي التي سكنها الجن فرمتها في خزانة الأشياء القابلة للسرقة) ولكني كنت أخجل أن أنزلها في الخارج كي لا تصفعني نظرة قرف؟ وأنني كنت أشعر أن أمي تبتعد أكثر وأكثر، كلما أصبح الصراخ في الثلاجة المجاورة أعلى وأعلى!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>