عن العنف والرجولة ومفاتيح النيْك/ راجي بطحيش

عن العنف والرجولة ومفاتيح النيْك/ راجي بطحيش

الفعل الجنسي ضمن نكاح المثل هو أبعد ما يكون عن فنون إنتاج المتعة لدى الشعوب الشرقية بموجب فوكو، وهو أقرب لثقافة “الغلمان” التراتبية المبنية على الثنائيات المتوازية رجل: لا-رجل؛ سيد:عبد

08AugMah1

>

|راجي بطحيش|

راجي بطحيش

راجي بطحيش

كنت أجلس ذات يوم في باحة انتظار تابعة لموقع عشوائي لغسيل السيارات وكان هنالك حوالي سبعة رجال غالبا يعرفون بعضهم البعض طغى عليهم الطابع الشعبي. لا أعرف كيف انزلق حديث الانتظار المطعّم بالقهوة والسجائر إلى حديث ذكوري حول الفتوحات الجنسية، لكن من أطرف القصص التي سمعتها يومها وانطبعت في ذاكرتي، كان صاحبها رجلا مفتول العضلات، رجولته الظاهرية طاغية كما تعشقها المجتمعات كافة، وشاربه كما يقولون يقف عليه النسر. أخذ الرجل يحدثنا بلهجته وعفويته الشعبية أنه كان في إحدى مدن أوروبا وذهب لمنطقة تشتهر ببيوت الدعارة لإمتاع جسده وعندما دخل إلى غرفة الفتاة التي اختارها عبر الزجاج وبدأ يداعبها، اكتشف أنّ لها قضيبا، مع العلم أنه كان قد سدد رسوم الدخول للبيت مسبقا بموجب قوانين المكان. فقرر صاحبنا نياكة الفتاة/ الرجل مع كل هذا كي لا يضيع ما انفقه هباء. جعلتني الخفة وعدم الارتباك والعفوية التي روى فيها الرجل قصته، أسأل نفسي، هل يحمل هذا الرجل الهوية المثلية بمفهومها الغربي بإسقاطاتها الاجتماعية والثقافية لمجرد كونه أولج قضيبه في شرج رجل؟ بكلمات أخرى: هل هو مثليّ؟

بعد قراءة كتاب “اشتهاء العرب” لجوزيف مسعد* بترجمته العربية الصادرة عن دار الشروق المصرية في نهايات عام 2013، بتّ شبه متأكد من أننا أصبحنا مشغولين ككُتاب نتناول الجنسانية العربية (وأنا أولهم) بأمثلة التنوّع الجنسي العربي ورمنسة شهوات العرب في مواجهة فرض الهوية المثلية الغربية كجزء من حربنا على الإمبريالية الثقافية، ممّا أوقعنا ويوقعنا في كثير من الأحيان في فخّ التغني بتلون جنسيّ وهميّ وكويرية عربية فطرية متخيلة تنطلق كالصاروخ بخط مستقيم من العصر العباسي الثاني وحتى الآن. دعونا نعترف بأمر هام قبل أيّ شيء: لقد تم رفض الهوية المثلية بمفهومها الغربي (المرتكز على ثنائية هومو : هترو) ولفظها بشكل شبه نهائي وخاصة من القطاعات الأعرض من المجتمعات العربية المتمثلة بالطبقات الوسطى-الدنيا والشعبية-العاملة، ولم يحدث ذلك للأسف بسبب مقاومة الهيمنة الثقافية الغربية أو بسبب الاكتفاء بجنة النعيم الجنسي بأشكالها المحلية المختلفة؛ ببساطة ترفض المجتمعات العربية الهوية المثلية أولا بسبب بنيويتها التعسفية (وأقصد هنا بنيوية الهوية المفترضة) أحيانا وثانيا وهذا ما يهمني هنا: صدام الهوية المثلية الثقافية مع قداسة الرجولة في مجتمعاتنا.

إذا كانت الجنسانية الغربية تعتمد في غالبها على ثنائية غيري: مثلي أو هترو: هومو (باستثناء القلة التي تعرف نفسها ككويرية)، فإنّ الجنسانية العربية التي تشمل ممارسة الجنس ضمن ذات النوع ترتكز -حسب اعتقادي- على ثنائية الرجل: اللا-رجل ويترتب عليها لا-مساواة فادحة بين من هو رجل وبين الآخرين. فالرجل الذي يتمتع بمزايا رجولية ظاهرية وشكلية هو من يتمتع بالمزايا شبه منفرد في هذه المعادلة الجنسية، وذلك على حساب الرجل الأنثويّ ظاهريًا أو اللا-رجل. فلا شكّ بأنّ سياسة “نكاح المثل” التي يتغنى بها مسعد في كتابه معتمدا بشكل خاطئ/ مغلوط على أستاذه ميشيل فوكو في مواجهة “المثلية الأممية”، تحمل في طياتها وثناياها قدرا كبيرا من الإشكاليات أهمها أنها تعزز امتيازات الرجولة المتخيلة وحيز مناوراتها على حساب أولئك الذين لا يملكون سبلا تُذكر للفرار من استحقاقات هوياتهم الجندرية وملامحها الظاهرة، كالنساء بشكل عام وجارف والرجال الأنثويين والمتحولين جنسيا (ترانسجندريين) وغيرهم وغيرهم.

الرجولة  أغلى ما لا نملك

تشير عدة دراسات أجريت مؤخرا في الأكاديميا المهتمة بالجنسانية العربية، إلى أن معظم الرجال من الطبقات الوسطى – الدنيا في المجتمعات العربية ممن انخرطوا في نشاط جنسي ضمن “نكاح المثل” لا يُعرفون أنفسهم كمثليي الجنس والأكثر من ذلك أنهم ينكرون وجود هوية كهذه بينهم. وعندما يقول رئيس بلدية بلدة نائية فقيرة: “الحمد لله لا يوجد مثليون في بلدنا أو أن قريتنا “نظيفة” من المثليين” فإنه صادق ولا يمكن اتهامه برهاب المثلية؛ فشرط أساسي وبديهي لحملك هوية ما وخاصة إذا كانت هوية تتعدى الجنسية لتصبح  اجتماعية وثقافية تمّت هندستها في الخارج الذي يحمل تاريخا استعماريا ما زال يتفاعل، هو الالتزام الأخلاقي الايديولوجي بمبادئ “الجماعة” والشعور بـ “الفخر” المفرغ من المضمون وخاصة في واقع بائس وقمعي وفقير، لتصبح أنت ورجل مثلي أبيض وثري من سان فرانسيسكو أو لندن تنتميان لنفس “الجماعة” الثقافية، وذلك من دون أن يستشيرك أحد. المهم هنا، أنّ رفض الهوية الجنسية المثلية المستحدثة في الغرب منذ أكثر من 100 عام لا ينبع حتما من مقاومة الإمبريالية الثقافية بل من الخوف أو الهلع من مقايضة مكتسبات الرجولة مجتمعيا بالمثلية.

يمكن التوسع حول طروحات جوزيف مسعد بشأن “نكاح المثل” مقابل “المثلية الأممية”، وكذلك رد أ.لمى أبو عودة عليها عبر هذا الرابط وهذا الرابط

إنه لمن باب التكرار الحديث عن هندسة الرجولة المتخيلة لدى معظم شعوب الأرض منذ اللحظة التي يكتشف فيها الوالدان أنهما ينتظران مولودا ذكرا، فيجري القيام بكل إجراء خارجيّ واجتماعيّ وشعوريّ كي يكون المخلوق الذي بين يدينا.. كل شيء سوى أنثى! فيتم رسم الدور الإجتماعي والثقافي له بدقة كي يقود “الأمة”. لكن، وإضافة لكل ذلك، تكتسب الرجولة في مجتمعاتنا العربية قداسة لا يمكن تفكيكها وكأنها كرة هلامية لا محتوى دقيقا لها يمكن فهمه، ولكنها لبنة أساسية في تشكيل الهوية للذكر. وهي مع ذلك تبدو كالبطن السفلي للجسم توجع جدا عندما تصيبها أيّ نسمة متسارعة، تكتسب الرجولة أهمية تراجيدية كلما قلت الفرص المعرفية لصاحبها وكلما ظل حبيس حارته وحيّزه المشبع بالجهل والفقر والقمع متعدّد الإتجاهات، حيث تصبح الرجولة شيكا بملايين الدولارات، لكنه بلا رصيد، بينما تستقل الرجولة منافذ جديدة ومتجدّدة كلما أضيفت طبقات معرفية لرصيد الفرد. لا أريد الخوض فيها ضمن هذا السياق لأنّ بودّي التركيز هنا على من هم عالقون مع رجولة رمزية لا يمكن تصريفها سوى بالعنف/الجنس. إنّ قيام الفعل الجنسي ضمن نكاح المثل الذي يتحدث عنه مسعد هو أبعد ما يكون عن فنون إنتاج المتعة لدى الشعوب الشرقية بموجب فوكو وهي أقرب ما تكون لثقافة “الغلمان” التراتبية المبنية على الثنائيات المتوازية رجل: لا-رجل؛ سيد:عبد؛ معلم:تلميذ؛ وهي الثقافة التي نفاخر بها أمام الغرب من دون أن ندقق فيها، أو نحاول ذلك.

ولألخص ما قلت أعود للنموذج الذي أدرجته في البداية: فلو أنني كنت قد رددت على الرجل المعتزّ حتى الموت برجولته وقلت له: بما أنك نكت رجلا آخر فأنت إذا مثليّ (هومو)… أو بحسب قناعاتي أنت والترانس جندر الذي نكته تقعان ضمن فئة التعددية الجنسية الكويرية، فإنه بالتأكيد لن يفهم الشطر الثاني ولن يفهم ولا حتى كلمة منه أيضا، بينما سيسدد لي كردّ على الشطر الأول لكمة يطيّر لي فيها ما تبقى من أسنان بقبضته الصلبة.

في بيئة كتلك وبمعادلات قوة كهذه، الرابح الأكبر دائما هو الرجل الرجولي خارجيا والذي “لا يبدو عليه”؛ فهو من جهة يملك الحق الحصري الألوهي المكتسب بممارسة فعل “النيك” المطلق، وانتبهوا هنا للمفارقة التي يجب دراستها بعمق: لا يهم هنا إذا كان الطرف “المفعول به” هو امرأة أو رجل أو ما بينهما. هذا لا يهم طالما كان الرجل الرجولي يمتلك زمام المبادرة، ويملك ويتحكم بالحيز الجنسي  الشعبي في أي مدينة عربية، وطالما أنه ما زال يحافظ اجتماعيا على أهم أو فلنقل كل ما يملك: رجولته الرمزية، وطالما أنه قادر على المرور عبر رادارات المجتمع الصارمة التي لا تتسامح مع النصف الآخر من الفرشة، وأقصد “الحريم” أو “النسوان” أو “الخولات” أو “المنايك” أو “الطنطات”. كما من المهم أن نذكر ونذكّر ضمن هذا السياق أن تعبير “النيك” لا يحمل معه دائما بشائر اللذة والحب. فالوعيد على شاكلة  ”إسا/هلأ بنيكك” لا يبشر دائما بالمتعة التي سيمنحها الفاعل للمفعول به، بل غالبا ما يحمل هذا تهديدا بممارسة العنف الممزوج بالإذلال و”كسر النفس”. وبما أنّ الرجولة المقدسة تحمل وحدها وحصرا مفاتيح “النيك” وشؤونه فهي تحمل وحدها أيضا الحق بمنحه معنى ومضمونا، سواء لجهة العنف أو المتعة.

أما إذا كنا مُصرّين على التغني بتعدّديتنا الجنسية، وسيولتنا الجندرية ونكاح المثل، وبأبي نؤاس وألف ليلة وليلة أمام الغرب، فعلينا أولا أن نبدأ بتفكيك القداسة الرجولية ومكتساباتها الإجتماعية، والسعي للمساواة الجندرية ضمن المنظومة الجنسية العربية!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. هذا اللي قلته يسمى بحتوتية فحطاطية، أنت واحد من يرى زينة للباطل، وهذا من تزيين الشيطان، الشيطان واحد والذنوب التي يدعوا لها منابعها معروفة، ولو نتطور معك سيأتي من هو أفضل منك إبداعاً في الحضيض ويوسع عمق القاع لنا، وهكذا جيل وراء جيل منطقي ومبرر لما يفعل لأنه أخذ كل شيء تدريجياً، حتى يأتي قوم تحقّ عليهم الساعة.،

  2. بصراحة من النادر جداً أن يقوم إنسان بطرح هذا الموضوع بهذه الدقة و بهذه المنطقية و الواقعية ! ، و وضع الكاتب يده على الجرح و الالم ، و أتوجه إليه بالشكر الجزيل و الالتماس إليه بالمزيد من المقالات حول هذا الامر  ــ إن أمكن ذلك ـــ و أكرر له إمتناني و شكري الجزيل .أرجوك أن تقبل إحترامي .

  3. هذا الكلام هو الواقع  انما في بلادنا العربية لابد من الضهور بصفة الرجولة حتى وان كان مفعول بة هكذا هي اعرافنا وتقاليدنا بالاضافة الى الطابع الديني الذي لايسمح بمثل هكذا مهاترات 

  4. ممتاز. كانك اوضحت اخيرا امرا كان يزعجني…

  5. At last some1 said it right in Arabic. i love what you wrote up there.

  6. هاد الكلام السليم. 

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>