في البحث عن راجي بطحيش/ إسماعيل ناشف

يتناول د. إسماعيل ناشف كتاب زميلنا راجي بطحيش الأخير، “بر-حيرة-بحر”، بتوسّع كبير وبتوجّه نقدي عميق ومثير جدًا: الدلالات الكثيرة الكامنة في النص، مرورًا بالمثلث “الأبوي/الهترو/الطبقي” وانتهاءً بتحول مركزية الأدب الفلسطيني من فضاء المكان إلى الزمن ■ دراسة خاصة ومتميزة

في البحث عن راجي بطحيش/ إسماعيل ناشف

راجي بطحيش

|إسماعيل ناشف|

1

إسماعيل ناشف

هناك من النقاد من لا يفتأ يفاجئك بمدى رومانسيته النافية للعقل، وللذوق أحياناً أخرى؛ ذلك العقل- المعيار الذي وضعوه لأنفسهم وأعلنوا عنه كشعلة يستضيئون بها أينما حلوا نصاً و/أو مكاناً. فها نحن نقرأ مقالة لفيصل دراج، الناقد الفلسطيني المخضرم، وقد يكون الناقد الأدبي المثابر الوحيد على خارطة الإنتاج النصي الفلسطيني،[1] نشرت في موقع “الجزيرة.نت” بتاريخ 9 حزيران 2011، تحت عنوان لماذا تغير الأدب الفلسطيني؟ يقول دراج هناك إنّ الأدب الفلسطيني لم يعد كما نعرفه، بل أصبح شيئاً آخرَ، وهذا التحوّل لا يمكن له أن يحمل تراث الآباء المؤسِّسين، وهم بتعداده جبرا وكنفاني وحبيبي، وبالطبع درويش. يتساءل دراج ويرثي لحالنا:

فمن أين تأتي شرعية السؤال، ولماذا يبدو متأسيًّا، كما لو كان يرثي شيئًا جميلاً ذهب؟ تأتي الشرعية من اتجاهين على الأقل، يتضمن أحدهما المقارنة ويتمحور الثاني حول القائم وأعلامه. فلا يمتلك الأدب الفلسطيني اليوم ما يستأنف به تراث جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإميل حبيبي في الرواية، ولا ما يقترب من إبداع درويش الشاب، ولو بقدر، وليس لديه حتى الآن ما يشير إلى وعد كبير يتلامح في الأفق.[2]

لست بصدد تصويب حكمه، أو مواساته بأنه ما زال هناك أدب جيد، أو ما شابه، بل للقول بأن تاريخ الأدب وإلى جانبه أدب التاريخ، تلك الأنواع التي عوّل عليها دراج ذات يوم في ذاكرة المغلوبين وغيرها، ليست ممارسة محصورة في الانتماءات الوطنية، فقط، بشكلها الذي تطوّر وساد في ربوع المنفى المزهر على حدّ تعبيره، بل نجد في عرف الجدل التاريخي أنّ هذه الأشكال الأدبية والجمالية والمعرفية تتغير وتتبدل كميزة أساسية لها، على الأقل، وفي حال أنها لم تتغير ولم تتحوّل عندها تتبادر إلى الذهن أسئلة محددّة من النوع الذي يسعى خلفه لوسيان جولدمان وآخرون:[3] البنية الكونية للنصّ الأدبي. بمعنى: ما هي الحمولة التاريخية التي يحملها النصّ الجامد أدباً؟

المادة تحدّد ماديتها الاجتماعية، ومادة الأدب هي الفضاء اللغوي، وعملها هو التشكيل، وأحياناً أفقها هو الاجتماعي التاريخي، وأحياناً أخرى قد يكون أفقًا آخرَ

في كل الأحوال، لا أعتقد أنّ هناك نصاً جامداً؛ كلّ نصّ هو سيرورة تتحوّل عبر عملية الكتابة/القراءة، لا لأنّ المؤلفة موهوبة أو ما شابه، أو أنها جزء من مشروع وطنيّ أو آخر، بل أنّ السبب الرئيسَ والمباشر للتحوّل هو طبيعة المادة المشكِّلة للنصّ، أي المادة اللغوية. فهذه لا تقف في المُعاش اليومي والمتخيل والمقدس، على السواء، بل تتدفق في كل لحظة انشباك بها ومعها. فهي في حالة ولادة وتوليد مستمرتيْن لكونها جزءًا من كلّ اجتماعيّ تاريخيّ متدفق. فالمادة تحدّد ماديتها الاجتماعية، ومادة الأدب هي الفضاء اللغوي، وعملها هو التشكيل، وأحياناً أفقها هو الاجتماعي التاريخي، وأحياناً أخرى قد يكون أفقًا آخرَ.

2

تشكلت أنواع أدبية مختلفة تدور حول ثيمة (موضوعة) البحث وأشكاله المختلفة. وقد يكون جورج لوكاش من أوائل النقاد الذي رفع هذه الميزة إلى معيار للرواية الحديثة.[4] في سياق الإرث الأدبي الفلسطيني هناك عدة نماذج روائية تتخذ من مجاز البحث عامودها الفقريّ الأساسيّ، ومن ثمّ تقوم بتحويرات وبتظليلات متنوعة عليه، في سعيها للإمساك بقرون البحث المتعدّدة والمتشابكة بغية حلها أدبياً وجمالياً. قد يكون من أبرز النماذج الفلسطينية لهذا النوع من التشكيل الأدبي هو الجّسد الروائيّ الذي أنتجه جبرا إبراهيم جبرا (أنظر مثلاً السفينة والبحث عن وليد مسعود)، وذلك الذي أنتجه غسان كنفاني (أنظر مثلاً رجال في الشمس وعائد إلى حيفا). ورغم الاختلاف في الأسلوب والمرجعيّات وما إلى ذلك، إلا أنّ التشكيل الأساسي الذي يقف عليه النصّ الأدبيّ لكلٍّ منهما هو عملية الخروج من والسّعي إلى مكان/زمان آخر، يتحلى أحياناً بملامح شبه محدّدة وأحياناً أخرى تكون ملامحه مجهولة تماماً.

الميزة الثانية لهذا النوع من البحث أنه جماعيّ، أي أنّ البحث يتشكّل عبر تدفق الأحداث الروائية الناتجة عن علاقات بين أفراد وجماعات. من هنا، فالذائقة الحسّيّة المطلوبة لدى جمهور القراء هي حدّ أدنى مشترك للجمع الاجتماعيّ، والذي قد يكون وطنيًا أو طبقيًا أو جنسيًا وغيرها، وفي حالتنا هو الجمع الفلسطينيّ.[5] اللافت للنظر في الحالتين- جبرا وكنفاني- أنهما أتقنا البناء النصّيّ بشكل يبحث في هوية النصّ عينها ومادته، أي أنّ العمل المُشَكِّل لمادة الأدب عبر بنية البحث يردّ إلى البحث في عملية التشكيل الأدبية ومادته.

3

فيما يلي سأقوم بمحاولة عرض للمداخلة التالية: نصوص راجي بطحيش، عامة، ونصّه بر-حيرة-بحر، خاصة،[6] تبني تحويراً أدبيا جمالياً على ثيمة البحث، وهي إذ تتناصّ مع نماذج فلسطينية سابقة، تحاول تشكيل إحداثيات حسّية-لغوية مختلفة، بمعنى أنّ جسدها اللغوي مقطوع من طبقة جيولوجية اجتماعية أخرى. الاختلاف يتم عبر انتشال المينوريّ من الحياة والارتقاء به إلى مقولة أدبية جمالية عامة.[7] بهذا فهو استثنائي، ولكن في قبوله للتمييز بين الماجوري والمينوري فهو إلى حد ما يغازل بنية القوى القائمة وأشكال الفضاء المتاخمة لها. لا ينفي راجي القمع، وإنما يبحث في مخلفاته ليستشف مبناه؛ يشبه ذلك كمن يستشف مأدبة الطعام التي أكلها الجيران من أكياس القمامة التي ألقوها صباحاً بعد تنظيف البيت من حفلة الأمس. فهو يقول كلوا ما شئتم من الطعام، واتركوا لي ما أشاء من الحياة، نوع من الصفقات المشبوهة. وفي صراعات القوى على أنواعها المختلفة، وتحديداً الأدبية الجمالية التي هي محط حديثنا هنا، لا تجوز الصفقات، أو قد يكون أننا نقف أمام بنية جمالية من نوع آخر ترد إلى تلذذ الضحية بلعق جروحها لتتألم أكثر. أو الإمكانية الثالثة أننا أمام تحوير على مقولة جان جينيه من لم يخن لا يستطيع أن يعرف ما هي المتعة.

بنية الحدث هنا هي انتقال من حالة جسدية ما إلى حالة جسدية أخرى تمرّ عبر فتحتي الجسد الأهم، العلوية الفم، والتحتية الشرج

في باكورة أعماله، وهي عبارة عن ديوان شعر بعنوان الظل والصدى، يحدد راجي المواضيع التي ستؤرقه لاحقاً وستشكل بؤرة الطاقة الأدبية التي سيتحرك فيها ومن خلالها؛ لنستمع:

من مسارات الخلاص

حتى كان ذلك الصباح من نيسان…

فتى يتجرد…

من صحراء العباءات البيض…

جسدٌ فارٌ…

إلى كون يبدأ في الضفة الأخرى.

***

بحرٌ…

يلاقح رملاً…

يعانق جبلاً…

لفضاءات الآلهة

***

فتى يتعرى…

من كهانِ قبيلته على ضفاف دجلة.

جسدٌ تائهٌ…

في مسارات الخلاص الموحشة.

***

بحرٌ…

وشرايين بحرٍ…

ترقب حرية الموج…

وانكساره…

***

فتى غضٌ

يسجد للمدائن…

ويهديها فحولته…

حتى كان ذلك الصباح من نيسان…

والفتى الغرير يهرب…

إلى نزق الموج…

وانكساره…

على أرض مأساة المطر.

-2-

حتى كان ذلك الظلام في أيلول…

وامرأة تلتقط النسمات… تضعها…

في سلال الزيتون

خيمة سوداء…

تظلل كينونتها… من حر الغزاة.

***

امرأة…

مغروسة…

في حقلها…

على ضفة الطريق الممتد إلى المدينة

***

عرائش تخبئ

عسل العيون…

وزيتون الرجوع…

***

هي… هي الأرض

امرأة…

وشرايين امرأة…

تتجلى…

في ثورة الثمار

***

فتاة عارية تسجد…

للخيمة السوداء…

وتمنحها خمارها.

***

حتى كان ذلك الصباح من نيسان

وفتى غرير…

يُصلي…

لنزق الموج…

وانكساره…

على أرض مأساة المطر.

(تموز 1996)

الزمن والجسد والمدينة هي الموضوعات التي، ومنذ بداية التسعينيات، أخذت تحتلّ واجهة النصوص الأدبية لراجي بطحيش. أما كونه تشرّب الإيقاع من آبار التجربة الفلسطينية بالذات، وحمل إرثها في حركة النص المتوالد، فلنسمع الآتي (الظل والصدى، ص 53):

معمودية الصخر والماء

مهداة إلى روح جبرا ابراهيم جبرا

“وانفلق النبع عن صبيين عاريين من الجن…

مستغرقان في معمودية الصخر والماء”…

أنت وفايز…

إلى عين كارم… صعوداً

تتفجران زهراً من صلابة الأرض…

وتمتدان حتى كهف سلوان…

أنت وفايز…

تقتحمان البريق المنعكس…

***

ألا زلت تبحث عن بحركَ

في بركة السلطان…

من هذا تبرز ملاحظتان أساسيتان: الأولى، أنّ هذا المشروع الأدبي الجمالي يحمل الإرث الفلسطيني ولكن يحمله عبر إعادة تشكيله كرافد أساسي وإن لم يكن هو الرافد الوحيد؛ ثانياً، نلاحظ أنّ هذه الثيمات والأشكال الشعرية والنثرية لم تبرح تقلق نص راجي إلى يومنا هذا وإن كانت التحويرات تختلف بين نص وآخر، وبمدى متانة وجمالية الصقل، أو الحرفة إن شئتم. أما بالنسبة لموضوع الصقل هذا فسأعود إليه لاحقاً من مواقع نصية مختلفة. والآن أريد أن أنتقل إلى المستوى النصي عبر الزمن، الجسد والمدينة كإحداثيات أو مفاتيح قد تساعدنا على رصد الحركة التشكيلية الأساس في بر-حيرة-بحر.

4

إذا كان الزمن يتشكّل من إيقاع الأحداث التي تؤطر النص وتبنيه فإننا في هذا النص أمام أربعة مستويات من الأزمنة المتشابكة، وزمن خامس كأنه خارجها، لكنه يضبطها كمرجع واقعيّ (التحديد الزمني الذي يذيل الفصول)، أولها حدث النصّ ككلّ حيث يتم التعبير عنه بمستوى اسم المؤلف والعنوان المركزي وملحقه الثانوي، وهذا الحدث الغلافيّ يحدّد زمن النصّ كوحدة زمنية ذات معنى بذاتها كما بعلاقاتها المتشابكة مع نصوص راجي الأخرى. أما بالنسبة لحقول المعنى والشكل التي يستحضرها هذا الحدث الغلافيّ، فمن الممكن القول إنّ البرّ في علاقاته المتشابكة بالحيرة لا يستطيع إلا أن يكون بحراً. فالبورتريه بما هو برّ، تحوّل وأصبح منثوراً وهي حالة تنفي الملامح المتشكّلة عبر الرّسم الخطيّ لتعطينا حالة هي أقرب إلى التبعثر منها إلى التشكّل. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال: ما هو شكل زمن التبعثر؟ وحول هذا تدور حكاية النصّ، مقاربات في تقصي أشكال التبعثر الممكنة والمحتملة.[8] المستوى الزمني الثاني هو الفصول الأربعة الرئيسة والمعنونة بحسب فصول السنة ابتداءً من الصيف فالخريف فالشتاء فالربيع الذي يقفل النصّ. في هذا المستوى من التأطير الزمنيّ الحدثيّ للنص نقف أمام دائرية: الحدث يشمل دورة كاملة من الأرباع، أي أربعة أرباع، وهذه تردّ إلى دورة الحياة بما هي كذلك وبما هي هنا حياة نص كامل، وإن تقلّبت مساراته المختلفة فهو وحدة واحدة، وترد كذلك إلى ماهية الموسيقى تحديداً كما يقول الفارابي حول ذلك الذي بالأربع، ولا أعتقد أنّ راجي لم يسمع الفصول الأربعة لأنطونيو فيفالدي، ويجوز أنّ جانباً من القضية هنا محاولة التخاطب مع اللا-ديني زمناً.[9] وفي كل وحدة هناك أحداث يتم التعرف عليها من خلال عناوين كأنها فصول أو قطع من أحداث أو ما شابه.

ففي الشتاء، ثمة هناك خمسة فصول، وفي الربيع ستة فصول وهكذا. هذه الفصول أو القطع من الأحداث إما أن تبدأ بتاريخ ما مثل الفصل الأول من الصيف الذي يبدأ، بعد مخاطبة عامل المونتاج، بـ “صيف 09″، وإما يُدخل زمنًا محدّدًا داخل النص، و/أو تكون مذيلة بما يبدو على أنه زمن كتابتها بحسب الشهر والسّنة، وتتلاءم الأزمنة بالأساس مع فصول السنة الأربعة التي هي التقسيم الأول العام للنصّ. ويمتدّ زمن النصّ من صيف 2009، تحديدًا ص 19 (“أواخر آب 2009″) ولغاية أيار 2010. في الفصل الأخير الزمن داخليّ، أي يأتي بعد العناوين الفرعية التي هي نوع من التوضيحات القلقة التي يقولها الراوي، وتبدو وكأنها مُوجّهة لعامل المونتاج، وهي داخلية بكونها ذات طابع تنازليّ، 30 دقيقة تنقص كل مرة 5 دقائق إلى أن ينتهي زمن الانتظار وتأتي نتيجة الفحص/الحقيقة.

نص راجي حالة تحوّل مستمرة لا تستقر على شكل واحد، ولعلّ الأهم في حالة التحوّل هذه هو العبور من الحالة البريّة إلى الحالة البحرية

يبدأ كل فصل بأمر ما من الراوي لعامل المونتاج، وهذا هو المستوى الزمني الثالث، زمن الراوي وعامل المونتاج، والحدث الأساسي بينهما هو حدث سلطويّ ولكنه من النوع القلق، فهو إلى حدّ بعيد يشبه سائق العائلة: فهو يقوم بالأعمال الجسدية التي تمكّن الراوي من أن يعيش أحداث حياته على شاشة ما. وبسبب من عُري الراوي أمامه فهو لا يفتأ عن شرح أو تسويغ بعض المشاهد للعامل/الخادم ويتعامل معه وكأنه أبله؛ مثلاً صفحة 82 وبعد مشهد جنسي يقول الراوي للعامل “هل استرحت الآن… لا تفهمني خطأ إنه مجرد عمل فني… وفي الفن كل شيء مباح“. و/أو يقمعه لكي يغطي على مواطن ضعفه وقلقه. مثلاً في صفحة 28: “لماذا تقهقه؟ هذه حياتي يا غبي”. الراوي السيد بحاجة إلى عامل المونتاج العبد ليبني مشروعه النصي، وحتمية الحاجة تضع الراوي بنيوياً على الأقل في موقع ضعف يبرز بشكل الصمت المطبق لعامل المونتاج.

الأوامر التي يعطيها الراوي إلى العامل تنقلنا إلى المستوى الزمني الرابع وهو الحدث الروائي\النثري\الشعري البؤريّ، إن جاز التعبير، الحاصل الآن في وعي الراوي المباشر. فمتن الحدث النصي هو تيار من الوعي يحصل في زمن القراءة، وككل صوت داخلي حين نعيه فهو تيار متدفق يتميز بأن جزءاً منه يعمل بحسب مبدأ الواقع، وأجزاءه الأخرى تعمل وفق مبادئ وقوانين متعددة من مثل قانون الحلم، الكولاج، التداعي السريالي، الفلاش باك وما إلى ذلك. من المهم التنويه إلى أنّ العلاقة بين هذا المستوى والمستويات الأخرى ليست مباشرة أو حتى غير مباشرة بهذا المعنى؛ فأنت لا تجد مثلاً في ربع الشتاء فصلاً بعنوان “يوم ماطر” وبه انشغال بالمعطف الأزرق الذي لبسه الراوي وهو ابن الثامنة في مدرسة راهبات في الناصرة قبل خروجه للمظاهرة الأولى في يوم الأرض، أو أن فردة الجزمة اليمنى، هدية من شريكه اليهودي الأول في الشتاء الأخير، كانت تؤذيه كلما مرّ من أمام مجمع اللغة العبرية في القدس التي لا يذكرها أبداً. بل هناك درزة خاصة للحدث البطحيشي سأعرض لها مثلاً وربما أعود لاحقاً لهذا الموضوع عند ربط الزمن بالجسد والمدينة. فلنسمع (ص 25):

الصيف

أكاذيب صيفية صغيرة

شغل الشريط واصمت!

الأربعاء مساءً، أجلس على إحدى البنوك العريضة التي أنشئت قرب “بيت صهيونيي أمريكا” في شارع إيفن جفيرول بعد ترميمه وتحويله إلى جادة مدينة حالمة في وسط تل أبيب، جاد تقطع المدينة من جنوبها البائس إلى شمالها المترف، كم تشبه هذه الجادة نظيرتها سان جيرمان في قلب باريس!…

كذبة1: لا تشبه هذه الجادة المرمّمة سوى شارع في أحقر ضواحي باريس التي تنتشر فيها روائح البول والشوارما ومخلفات السوائل المنوية.

هذا مبدأ الواقع، ومن ثم ينتقل المؤلف إلى مبدأ آخر:

أجلس ها هنا في مكان قرب المكان، عند عصرونة تختصر الوقت والسّابلة والحيوات المتقاطعة بعذوبة خياراتها، أمرر لحظاتي… وضوضاء صمتي عند زاوية تغترب فارّة من كل سؤال، لغات… لغات تداعب العبث المترقرق بين أناملي… عبرية، روسية، فرنسية، إسبانية، انجليزية…

من الممكن القول إنّ هذا هو تيار الوعي، ولكنه ليس تماماً، فهو لا يزال مجبولاً بجوانب محدّدة من الواقع (اللغات مثلاً).

فما هو إذاً الزمن الناتج عن هذه المحاور الخمسة التي تشكّله؟ ما هي وحدة الزمن الأساسية في الانتقال من البرّ إلى البحر عبر الركون إلى الحيرة؟

ممّا لا شك فيه أنّ هذه المستويات الخمسة للزمن هي طبقات تتشكّل فيما بينها لتشكّل الكلّ؛ فمن الحركة العامة من الصّلب إلى السّائل عبر نار الحيرة، وبالعكس، من السّائل إلى الصلب عبر الكآبة الثلجية لليومي والمتشظّي، ومن هنا الفصول الأربعة، المستوى الثاني للزمن، لتنقلنا على أكفها في دورة لا تتوقف بين الناري والمائي، بين الصّلب والسائل، ومن ثم محاولة لضبط هذا التنقل الزمني عبر حدث سلطويّ لا ينجح حتى في تجاوز جملة مفيدة واحدة!! ومن ثم تتكثف حركة التنقل هذه إلى حركة عميقة قلقة تهزّ وجودًا لم يكن أبداً سوى هذا التنقل، ولن يكون إلا تنقلاً قلقاً، ولكن قلق البحث هذا مرعب من حيث أنه يشير إلى إمكانية حقيقية لعدم وجود حقيقة ما (أنظر الفصل الأخير من النصّ). وهذا الرّعب يحتم تغليفه بعدة مستويات زمنية، لا يمكن قراءتها عبر مبدأ الواقع، فقط، بل تُحتِم علينا قراءتها بمبدئها هي، وهو ما سنسعى إليه هنا.

5

سأنتقل للحديث عن مفتاح النصّ الثاني، الجسد. فماذا ينقل الجسد؟ كيف يُنقِل الجسد؟ هل هناك علاقة بين ثيمة الجسد وتحولاته وبنية النصّ؟ بودّي التنويه مسبقاً، إلى أنّ هناك علاقات متشابكة ما بين جسد النصّ، الحرفيّ والمجازيّ على حد سواء، ومن الغلاف إلى الغلاف، وبين جسد الراوي وأجساد الشخصيات الأخرى التي يتحدث عنها الراوي، وجسد من نوع رابع متخيل على أنه مفقود، من حيث أنه مثاليّ. لا يمكن تحديد الجسد من حيث هو مفتاح نصّيّ إلا من خلال وحدة جسدية تتحرك بين هذه المسطحات الأربعة.

الحدث الجسدي في هذا النصّ هو تحوليّ، ومنطق التحوّل الأساسي فيه هو إعادة تشكيل تقسيم العمل للجسد في خط التماس القلق أبداً بين المادّيّ والاجتماعيّ.[10] ومن اللافت للنظر، أنّ ذلك يتم في أكثر من مستوى للنصّ سأحاول عرضها منفصلة ومن ثم ربطها بمنطقها الخاصّ، أي منطق الجسد المادّيّ-النصّيّ. ويعني ذلك أنّ هناك بنية للحدث الجسديّ تُشتق منها عدة تحويرات جمالية حاملة للقلق، ولكنها كتحويرات نراها محمولة وكامنة في القلق المادي الاجتماعي ذاته. بنية الحدث هنا هي انتقال من حالة جسدية ما إلى حالة جسدية أخرى تمرّ عبر فتحتي الجسد الأهم، العلوية الفم، والتحتية الشرج. وما يميز هاتين الفتحتين بالأساس هو العمل، وذلك بغضّ النظر عن طبيعة تقسيم العمل العينيّ. فمن أجل أن يعيش الجسد مادياً واجتماعياً على هاتيْن الفتحتيْن أن تبذلا طاقة مؤطّرة بوعي تستثمر في المادة لتعطينا شكلاً اجتماعياً قابلاً للاستعمال. ويبدأ النصّ من خطّ أوليّ هو حقل التناقضات القائم (الأبوي/الهترو/الطبقي) بين المادي والاجتماعي، ليعود من ثم إلى المادي مسائلاً الاجتماعي، وعليه فإنّ هذه التحولات ذات طابع تطوريّ لولبيّ، سنحاول فيما يلي تخليص وعرض بعض منها.

الأهم في فهم مفتاح المدينة هو تغييب القدس الصامت، والتي تُذكر في النص مرة واحدة على أنها موقع ثانوي على طريق الجنوب، جنوب الناصرة. والسؤال، أين القدس نصياً؟

بالرغم من أنّ المؤلف يحاول جاهداً أن يعطي النص بناءً صورياً إلا أنّ المفصل الجسديّ للنصّ يعصى على القالب الصوريّ السينمائيّ، وهذا ليس بصدفة، بل هو ناتج عن الشرط الموضوعي للوسيط النصّيّ المستخدم، أي الكتاب وجسده. فهذا عليه أن يبدأ من غلاف ما وينتهي بعد عدد من الصفحات، مرتبة بشكل تسلسلي خطي. فيبدأ الجسد الحدثيّ/النصّيّ بجسد الكتاب، وإن لا يتحدّد به ضرورة، ليسعى من ثم لأن يصبح فيلماً، وهنا عملية تحوّل غير ممكنة موضوعياً، وإنما هي مداخلة في تشكيل الرغبة، على حد تعبير باولو بازوليني، والذي في مقالته عن السنياريو يقول إن هذا النوع من الكتابة هو الوحيد الذي تسعى فيه البنية لأن تصبح حدثاً، أي أنّ وظيفة السيناريو الأساسية هي أن يتحوّل إلى فيلم، لا أن يُقرأ. وبالنسبة لراجي، فإنه مخضرم يحمل تناقضات المرحلة المطبوعة عاش الانتقال إلى البصرية ونحن الآن/هنا في مملكة المرئيات. يأخذ المؤلف من هذه العمليات السّهولة التقنية في عملية التركيب والشّبك والتفكيك للمشهد أو المشاهد الممكنة ليوظفها من ثم في سعيه في مسارات الجسد الأخرى.

العرض الأول للجسد وعمله يبدأ من كون الجسد يقبع تحت نظام أبويّ/هترو/طبقيّ. يقول في ص 9 في الفقرة الأولى من النصّ:

يخرج الجموع من الشاطئ بتخايل يشبه مرحلة ما بعد الترف المتكلف… ذلك الذي لا يطرح أوراقه على الرصيف الملتهب… فتاة مسكينة تقطع هي وطفلها وكلبها بالبكيني طريقا طويلة… (بعدها بسطرين)

يحتضن شاب مفتول العضلات فتاته الضئيلة ويسحبها كالشاة إلى الذبح أو إلى مبالغة توصيفية مطلوبة (ملاحظة: هم أيضاً شبه عراة)… تهبط طائرة… تقلع طائرة… أكاد أن أنهر عليه: هيا لماذا لا تناكحها هنا على الإسفلت قرب هذا المقهى

الإنعزالي بإمتياز، يتدافع الجموع نحو ندوة جنسية قيمة… لا وقت لليل البحر وسذاجة بوحه… يتجمع المتشردون حول جثة فتاة غريقة…

في هذه الفقرة يكثف راجي تناقضات تقسيم العمل الأبويّ/الهترو/الطبقي ، ويحلها عن طريق الغرق، وهي ميتة من نوع محدّد، تقوم فيها الطبيعة بقتل من لا يجيد العيش فيها وبحسب قوانينها. لكن الطبيعة الأم هنا تقتل جزءًا منها تصرف بحسب قانون غير طبيعيّ، وبذلك يقوم راجي باستخدام خطابيّ لمنظومة الهترو ليقلب السّحر على السّاحر، إن جاز التعبير. فالمرحلة الأولى من عرض التناقضات المنبثقة عن تقسيم العمل الأبوي/الهترو/الطبقي، عمل الرعاية والعمل الجنسي للأنثى، العمل الجسدي واستغلال جسد الأنثى من الذكر، هو ببنية جمالية تكثف دراما التناقضات وتشير إلى لا-طبيعيتها. ومن ثم في العنوانيْن الفرعييْن التالييْن يشير المؤلف، بشكل انزياحيّ ومكثف، إلى الحلّ الذي سيطوّره لاحقا بشكل جماليّ، وهو علاقة الراوي مع أبيه، ومن ثم علاقته مع ابنه. نقرأ في الصفحة العاشرة:

أستيقظ إلى صباح جديد… أقف أمام الصباح… أنظر إلى السقف. أين أنا اليوم؟ أحجية الصباح!! لديك أربع إجابات لا خامس لها… ولكن رائحة ملابس أبي الخاضعة لعملية توزيع عبثية تجيب لوحدها… وكذا أوراقه العتيقة التي لم أفرزها بعد… كسلاً ربما أو خوفاً…

هذا بالنسبة للأب، ولا أعتقد أننا بحاجة لشرح الشارح هنا، أما بالنسبة للابن، أي بداية الحلّ:

نمضي على طريق البحر الآن… أنا وذاك الصبي الأجمل… ينظر… يتأملني… يبتسم… يتثاءب… يغفو قليلاً… يصحو… يبتسم… يمد يده الضئيلة… (وبعد سطرين) أشتري لنا بوظة… –أرتكب خطأ فادحا- أحاول افتعال لحظة نخبوية أمام شاطئ الكرمل عن الأبوة والبنوة وما بينهما من أعماق… أسلمه البوظة الصفراء التي تم إنتاجها على شكل دمية الإسفنج الشهيرة… لا يحبها… يحاول إعادتها إلي بطريقته فيغرسها في قميصي الذي كلفني “الشيء الفلاني”… لااااااااااا… يتأمل بوظتي الشخصية التي أحمل والتي بدأت تسيل على أصابعي وكوعي ومفرش السيارة… يبكي… يريد بوظتي… تعلّم: لا يوجد حسابات شخصية بينك وبين طفل رضيع… أمضي بهندامي المصمم من جديد وبشكل… إلى لقاء قريب!

هناك في كل النص مشهدان حَدَثيان ذوا طبيعة حل جماليّ لهما طاقة خلق، هذا الحدث هو أحدهما، والثاني هو إلى حد بعيد تطوير تناظري لهذا المشهد وهو مشهد جنسيّ مثليّ. بين المشهدين هناك مسارات وتعرّجات مختلفة للجسد تهدم إما مباشرة و/أو بعدة خطوات انزياحية نظام الهترو لتصل نظام الواحد اجتماعياً ونظامًا جنسيًا مثليًّا، وهذه التطورات تتم عبر تفكيك منظومة العمل لفتحات الفم والشرج كما ذكرت أعلاه. مثلاً، في العلاقة السلطوية بين الراوي وعامل المونتاج، المنفذ الوحيد هو إما الأكل و/أو الضراط والتغوّط، وكعادته يبدأ المؤلف من التناقض المباشر (ص 44):

هل تريد استراحة تدخين أو تبوّل… يمكنك تتبول هنا أيضاً

أو (ص 59):

حاول أن تنفس الإيقاع المرتبك هنا وتحرره وكأنك تمارس الضراط لوحدك في غرفة معزولة بعد أكلة مجدرة

أو (ص 69):

حسنا … استراحة تغوّط

أو (ص 81):

إن كنت متعبا يمكنك التدخين… آه آسف يبدو أنك منتصباً

ففي هذه الأمثلة تُبقي العلاقة السّلطوية القامعة على تقسيم العمل بين الفتحتين كما هو سائد في النظام الأبوي الهترو، من جانب، ولكن هناك درجة عالية من القلق والتوتر غير القابليْن للحلّ بسبب من تقاطع أنواع مختلفة من أنظمة تقسيم العمل: الجسدي والأبوي والطبقيّ الرأسمالي. الحل الذي يستخدمه المؤلف والذي يبدو إلى حدّ ما نوعًا من النكوص في بنية المضمون للتناقض المطروح، يأتي بعد مشهد من ممارسة الجنس المثليّ الفعليّ الوحيد في النص والذي من الممكن رؤيته كإشارة لحلّ جماليّ اجتماعيّ،[11] حيث يفسّر الراوي المشهد لعامل المونتاج بشكل اعتذاريّ كالآتي (ص 82):

هل استرحت الآن… أرجوك ألا تفهمني خطأ إنه مجرد عمل فنيّ… وفي الفن كل شيء مباح.

في متن جسد النصّ هناك تيار من الوعي، أي حالة لا-جسدية بامتياز بحسب النظام السائد، وهذا التيار هو ما يجرف مُشكّلاً لبًا، أو للدقة لبّ السيولة الجسدية، للتجربة ككل. فإن كانت الأطر الزمنية للنصّ عبارة عن إحداثيات ثابتة لدائرية ما، فإن في هذا الجرف النهري -وهو، بعكس الفهم السائد، شكل من أشكال الجسد بتجليه كوعي- تُمارَس عملية جذريّة من تفكيك النظام الحسيّ-اللغويّ، وهذه التركيبة ما بين الحس واللغة هي من أسس العمل الأدبي الجمالي. والقصد هنا، بتلك الممارسات اللغوية وتركيباتها التي تقود إلى فتح مسامات الحس التي تكلّست، إما قمعاً و/أو بسبب العادة، وهي تقود إلى ذلك عبر المتخيّل الاجتماعي المشترك للجماعة/ات التي ينتمي إليها المؤلف. تصبح في هذا النوع من الكتابة ممارسة المداخلة في اللغة، من خلال قراءتها، ممارسة في تشكيل الذائقة الحسّية للجّسد، أي محطاته المادية الأولى. ويكثف العنوان هذا الجرف النهريّ ويعمل كنموذج ضابط له ولذلك سأعرض لبعض من مستويات العنوان ذات الصلة بالتراكيب الحسّية-اللغوية،[12] وهي مثال ونموذج مكثف لباقي النصّ.

مما لا شكّ فيه أنّ أول هذه التراكيب هو العنوان: بر-حيرة-بحر: بورتريه منثور. ففي المخيلة هناك ربط ما بين البرّ والبحر؛ فحين يقوم المؤلف بغرس كلمة “حيرة” بينهما تقف أمام تشكيل حسي-لغوي، أي أن التسلسل بر حيرة/حيرة بحر، حيث الحيرة هي الوسيط ما بين حالتين ألفنا العبور بينهما من دون تردّد حسّيّ-لغويّ، على الأقلّ، يثير بداية حقول من المعاني التي تجلس عادة في الخلفية ليتم استحضارها بقالب جديد إلى أمامية الوعي فتثار منظومة حسّية ما بطريقة متجدّدة، أحياناً، وجديدة، في أحيان أخرى، وذلك تبعاً لأنواع المتلقين وتجاربهم. إنّ الإثارة تبدأ من النسيج الصّوتيّ، أي البناء الجرسيّ للعنوان،[13] فهو غير حاضر في المخزون السائد ولكنه ليس بغرائبيّ، وإنما منحوت من الجسد الصوتي للغة العربية، أي أنه امتداد حسّيّ مختلف. لتنتقل الإثارة بمستواها الثاني إلى غياب الشاطئ واستبداله بالحيرة، حيث أنّ الشاطئ لم يكن أبداً سوى “بين بين”، حالة هلامية غير معرّفة، تثير الارتباك والتردّد لأنّ من يقف عليه لا يدري أين هو بالضرورة. فالحيرة هي خلاصة الحالة الشاطئية، إلا أنّ الإثارة تأتي من اختيار وسيط ليس من مجموعة البر والبحر، أي من الطبيعة، بل من حالة هي وجدانية اجتماعية بالأساس. وبذلك فالتوتر الناجم عن مجابهة مفاجأة الوسيط، عبر القراءة، يفتح مسامات حسّية بين مكلسة وأخرى مقموعة وثالثة متجدّدة. أما المستوى الثالث للإثارة فهو السّرديّ، حيث أنّ البنية السّردية التي تنبثق من العنوان هي: الـ “بر” هو بر-صلب-ثابت وبهذا فهو مغلق، أما “حيرة” فهي حيرة-حالة وعي/طاقة-نشطة فهي فاتحة، أما “بحر” فهو بحر-سائل-متحرك وبهذا فهو مفتوح. سردياً، القول هو أن عمل الحيرة في البر تأتي بنا إلى البحر، أي أن نوع وعي ما ينقلنا من حالة المغلق نظاماً إلى حالة المفتوح تاريخياً، وذلك لأنّ الحيرة هي انبثاق عن مجمل الخيارات الوجودية بما هي عمل التاريخ الاجتماعي. وقد يكون العنوان الفرعي التعريفيّ -حيث عادة ما يتم هنا موضعة اسم النوع الأدبيّ للنصّ، من مثل رواية شعر مسرحية وما إلى ذلك- هو أول تحوير على هذه المستويات الإثارية الثلاثة. فبداية هناك النسيج الصوتي المنحوت والذي هو امتداد حسّيّ مختلف، ثم تتفاجأ بأنّ مصطلحاً غريباً دخل هذا الحيّز، وثانياً أنه مبني على علاقة تناقضية هي أنّ البورتريه هو ذو منطق تحديد، أي مغلق، بينما المنثور هو ذو منطق توزيعيّ غير محدّد، أي مفتوح.

إنّ هذه المستويات المختلفة للجسد، والتي تبدأ من جسد الكتاب ولا تنتهي بجسد اللغة، تمرّ بشكل تناظري متزامن بأحداث عدة من الممكن وصفها بأنها ذات طابع تحوليّ. وهذا ما يدفعنا إلى وصف الجسد في نص راجي بأنه تحوّليّ، بما هو في حالة تحوّل مستمرة لا تستقر على شكل واحد، ولعلّ الأهم في حالة التحوّل هذه هو العبور من الحالة البريّة، أي من كون الجسد برًا ثابتًا مغلقًا، إلى الحالة البحرية، أي كون الجسد متحركًا مفتوحًا، والعبور يتم عن طريق شكل محدّد من الوعي الوجدانيّ الذي هو حالة من الطاقة النشطة، الحيرة. في حال حاولنا فحص إمكانية ترجمة هذه التشكيلات النصية إلى خطاب الواقع الاجتماعيّ الأبوي/الهترو/الطبقي فإننا سنقف أمام مقولة نقد جذرية وعضوية اتجاه حالة نظاميّة ذات نسق قمعيّ بما هو إغلاق تام ستفتحه طاقة/عمل وعي باتجاه التحوّل نحو نوع من تقسيم العمل المتحرّك، والذي يبدأ بالجّسد الماديّ ولا ينتهي بالجسد الاجتماعيّ، وبهذه الحركة والتنوّع فهو لا يخضع لقوانين الملكية الخاصة بالضرورة. ولهذا الموضوع سأتطرق لاحقا في نهاية هذا المقال، بعد أن أمر على الجسد الجمعي في تشكله كمدينة في نص راجي الأخير.

6

مما لا شك فيه أن المؤلف/راجي يبحث في مدينة لم تكن محط بحث مُعلن لدى المؤلفين الفلسطينيين الأوائل، وإنما كان هؤلاء يبحثون في مدن أخرى، تحددت بحسب موقع المؤلف في التجربة الفلسطينية ذات الأوجه المتعددة والمتشابكة. فمن بيروت درويش، إلى بغداد جبرا، فخليج كنفاني، فحيفا حبيبي، كلها لعبت أدواراً كمحطات يتحرك فيها الفلسطيني الباحث عن ذاته، والمتجوّل في أوطان عدة كامتداد مرتد إلى رحلة البحث في وعن ذات الذات في ذات المدينة وجسدها. مدينة راجي الأولى، الناصرة، والثانية حيفا، أما الثالثة فهي تل-أبيب.[14] وهي مقارنة الحدث، الوعي من الدرجة الأولى، وفي تل أبيب يعي أشكال وعيه بحدثيته. هذه الصياغة ليست ضرورة وإنما هي تاريخية تحتمها الشروط الكولونيالية في فلسطين التاريخية. بمعنى صريح ومباشر، المقولة هنا لا تتضمن أن الفلسطيني يعي ذاته كحدث عبر الوعي المتشكل بعلاقاته مع مُستعمِرَه ومدينته، فقط، إلا أن الشرط التاريخي الموضوعي بتشكله كنظام استعماري لم يبق للفلسطينيين بعد 1948 من فضاء مدينيّ إلا موقعًا ما محددًا داخل بنية مدينته.[15] راجي، مثل العديد من كتاب القصة من فلسطينيي 48 عبر أجيالهم المختلفة، يسعى في الفضاء المتشكل ما بين الناصرة وحيفا وتل أبيب. ولكن وبعكس من سبقوه، الذين نقلوا أجسادهم بين القرى والمدن المختلفة، تتنقل هذه المدن في مواقع جسد راجي/الراوي المختلفة، أي يصبح جسد الفاعل فضاء تتحول فيه المدن، وتحويراتها الكولونيالية، إلى فصول محدّدة في تاريخ الجسد/النصّ. فالراوي يصف ما يقوم فيه جسده في الناصرة وحيفا وتل-أبيب، هذا بحيث تتغير ملامح هذه المدن عبر ممارسة الوظائف الجسدية المتعددة. تبعاً لذلك، سأتتبع مسارات المدن الثلاث بما هي فصول في جسد الراوي ذاته.

الأدب هو، جزئياً على الأقل، عملية إسقاط البحث على شاشة نصية، من خلال الأداء؛ فهو قصة ما يحكيها المجتمع عن ذاته، ولكنه في لحظة سردها/قراءتها تصبح القصة مسعىً في تجريب تشكيل الذات عبر تناقضاتها المتعددة، أو تقنين النظام القائم

إن أغلب المشاهد النصية التي تتمحوّر حول الناصرة تحدث في زمن النص الآني، أي في لحظة القراءة. وهي عبارة عن استحضار لأحداث تمت في ماضي الراوي الشخصي، حيث يقوم الراوي بإعادة تركيب وانتشال ومَنْتجَة لذلك الفصل من حياته وتحديداً من جسده. هناك مشهدان يبدآن من “الآن العام” ليتحوّلا سريعاً إلى زمن النص واستحضار الماضي عبره. يبدأ راجي باستحضار الناصرة من خلال إعادة فحص علاقاته مع أبيه حيث يقول بعد فحص ما تركه له أبوه من إرث (ص 11):

لأستحضر … أسرار أبي، صوت دلال الخضار، دفء بائع البرغل، رائحة المجدرة، آذان الجمعة، سوق البلد، إلحاح المتسولين، جادة النساء المنسيات، لوعة المساء، حزنه، طفولتي المتربصة هناك … ذلك الانتظار … ذلك الانتظار … ذلك الانتظار …

الآن، صيف 2009 بحسب النص، والهنا، الفضاء النصي، تُمَكِن الراوي من إعادة صياغة هذه التجارب التي لم تمرّ في زمن وقوعها بعملية “عَجْن” وإنما حدثت وشكلت طفولة متربّصة، أي أنها تتحيّن لحظة الانقضاض على الوعي وبنائه. إنّ عملية بثها من جديد في النصّ لا تشكّل الراوي فقط، بل تضيء الأب بظلال وألوان أخرى، كما تفتح قضية الناصرة التي تنبني هنا كتجربة حسية لا بدّ من العمل عليها لنفي مغلقها باتجاه الآن وانفتاحه وعياً. ولكن هذا التحوّل لا يمكن له أن يتمّ عن طريق الأب. فممّا لا شكّ فيه أنّ الرّاوي يسعى إلى قتل الأب بطريقة تذكّر إلى حد بعيد بالقتل الناعم، بحسب وصف فوكو لأشكال العقاب الحداثية، حيث المشهد الثاني يعلن عن نزول الأب من على المسرح بسبب خسارته للبحر (ص 40):

8

لحظة سُرِقَ البحر من أبي، علمني ألا أسأل عنه-عن البحر- ليس هذا بحرنا يا ولدي ولا الرمل حقيقي ولا ذاك السرطان الزاحف باتجاهنا يقصدنا نحن بل أنه في الواقع سيبصق قربنا ويمضي إلى من جهزوا له عشباً طرياً عذباً منذ دهر، فلنشتري سمكتين من المقصف الجبلي المنسي ونفر عبر الهضاب والمرج إلى مخبأنا ومثوانا ومرتع انتظارنا على ضفاف نبع جف …

في هذا المشهد من فصل بعنوان “بر-بحر” في ربع “خريف”، يتم تنحي الأب عن أبوته ويتخلى عن الحياة منتظراً مثواه. الفصل ككل مبنيّ من مقاطع مرقّمة، وهي وإن كانت تبحث في تيمة فقدان البحر وانعكاسات هذا الفقدان على علاقات الراوي العائلية، إلا أنها معروضة كشظايا حدثت في الماضي. وبهذا فإنّ التقطيع هو جزء من عملية إعادة صياغة لهذا الماضي وأحداثه النصراوية ومن ضمنها، أو للدقة التي تشكّل ما هي الناصرة. في المقطع رقم 8 المقتبس أعلاه هناك عدة مستويات أو دلالات من الممكن إثارتها عبر التداعي العلائقي. فمن جانب، هناك المفهوم الاستعماري فالفقدان هو فقدان فلسطين، ومن جانب آخر هناك فقدان صورة الأب بما هو سلطة، ومن جانب ثالث هناك فقدان البراءة للراوي الذي يدخل التاريخ وعياً، وكل هذه العمليات من الفقدان إذ تحدث وتتحقق عبر الخروج من الناصرة. فالناصرة بما هي حدث، هي بالضرورة التاريخية، بحسب الراوي، حيز للقفز إلى أمكنة أخرى حيث لا تملك سوى حدثيتها الأولى وحتى تلك سيبصق عليه السرطان، ذلك المخلوق الأولي بامتياز. بعد هذا الخروج للأب من مسرح التاريخ والراوي من الناصرة، تدخل الأم، وتقول، أو يُقَوَل صمتها، في صياغة من جديد لم تكن ممكنة في عهد نظام الأب البائد، ولأهميتها في متن النصّ العام سأطيل الاقتباس (ص 86):

قد تكون الحقيقة أسهل من هذا … يا غلام … ولكن أثر الوقت المسروق. المقتطع. الضائع. لا زال يلازمني. أمشي وزمن ليس من حقي يركب على أكتافي. يلعق ظلال السواد تحت عيوني. أقِّلُ أمي إلى حي المطران المُطل على … الطريق إلى هناك. إلى الجنوب … جنين. القدس. المطار. الأردن. تل أبيب … أدخل الحي رجلاً آخراً ليس ككل مرة. أحاول أن أراقب ذلك الصبي اللاهي برمال تشييد الشارع وهو يسألها تلك الرمال. هل سيتغير شيء؟ هل ستبقى الحياة هكذا. أم أنها قد تقترب من حكاية “حمى ليلة السبت” الذي شاهدته خلسة في الأسبوع الماضي في سينما الناصرة. وها أنا آدمياً آخراً يدخل بعربته إلى حقل الألغام. … أعبر شوارع بريئة من مخططاتي القديمة. أعود إلى منطقة ديانا عبر العمارة. … ومع ذلك قد تكون الحقيقة أعطر مما تظن … يا رجل …

في هذا المشهد، الذي قد يذكّرك بـ”عودة الابن الضائع”، محاولة من الراوي لإعادة تشكيل التفاصيل الجغرافيةّ عله يجد في ذلك منفذاً للتصالح معها، مع مدينته الأولى، الناصرة، بكل ما تحمل هذه من ثقل وهموم تاريخية قد لا يعبأ بها الراوي. وهذا يتم من خلال الأم، حيث يثار السؤال: لماذا لا يمكن للناصرة أن تكون أماً؟ هي حقل يستطيع أن يحضن، ولكن هذا الحقل ملغوم، حيث لا تضع رِجلاً فيه للحظة وإذ بك تتفجر وتطير إرباً. ولكن قد تكون الحقيقة أعطرَ مما تظن إذا كنت رجلاً. وماذا عن غير-الرجال؟ هل تنتظرهم الألغام في مدينة السلام؟ هذا هو فصل الناصرة في جسد الراوي، جرح مفتوح جراء لغم وضعه طفل لأبيه، فقتل أمه، وخرج بنبوة أخرى.

حيفا محطة انتقال من فصل الناصرة إلى فصل تل-أبيب. لا نجد في حيفا سوى انتقاليتها، وعلى الأغلب، المرور عبرها لا يتم من خلال جسدها كمدينة وإنما عبر شاطئها. فعندما كان الراوي يدرس في إحدى جامعتيها تشكلت ذكريات العبور بين الطهارة والدنس على الشارع الذي يربط الناصرة بحيفا، لم تستطع حيفا أن تحتوي هذا الدنس النصراويّ، فهي هشة إلى حد بعيد مقارنة بالعمق التاريخي، وعياً على الأقل، القابع والمشكل لجسد مدينة الناصرة، كما لابنها، راوينا (ص 49-50):

حواف الخطر

: شغل الشريط من فضلك …

1

نهاية الأسبوع، طريق الناصرة-حيفا، لا أعرف كم من السنين المتراصة قضيت على هذه الطريق

ذهابا

إيابا

محاولات حب

هروب من عبث

….

2

نهاية أسبوع

إياب

من حيفا إلى الناصرة

ها أنا أحتفل بالذكرى الرابعة أو ربما الخامسة ل…. لماذا؟

في مقابل هذه الانتقالية لحيفا، نلاحظ أنّ الراوي لا يستطيع العودة من تل-أبيب مباشرة إلى الناصرة، حيث عليه في عودته أن يمرّ عبر حيفا، وكأنما حيفا تنظفه مما عَلِق به والتقطه جسده في تل-أبيب. من الملاحظ أنّ العودة إلى الناصرة عبر حيفا هي، على الأغلب، غير واضحة المعالم، فهو لا يرجع إلى الناصرة كمدينة أبداً، بل يزور فيها مستودع الأسرار ليخرج منه في كل مرة بما استطاع حمله بعد حَيْفَنَتِه. تبرز هذه العلاقة عندما يحاول الراوي أن يطرح حلاً من خلال لقائه بابنه والمتوقع أن يكون في الناصرة، ولكننا لا نفاجأ، بأثر رجعي، أي بعد الانتهاء من قراءة النص كاملة، من أنّ اللقاء تم على شاطئ الكرمل (ص 11؛ 41-42). اللافت للنظر، أنّ الراوي يقول إنّ لا ذكريات له بعد بين تل-أبيب وحيفا، و/أو بالعكس، وكأنما الذكريات كانت، ويبدو أنها لا زالت، ممكنة بين الناصرة وحيفا فقط (ص 49). ولكن ما هي حيفا بالنسبة لتل-أبيب؟ نقطة انطلاق؟ هل يستطيع الشخص القادم من الناصرة أو أية قرية أخرى، مثلاً، أن يكتفي بتجربة حيفا؟ ما الذي يدفع باتجاه أكل “تفاحة” تل-أبيب؟ هل هي البنية الشمولية للتناقض الاستعماري التي تتطلب حلاً أدبياً جمالياً شمولياً؟ أم هو نوع محدد من الأدب والفعل الجمالي؟ ولعلّ التقاء نوع من هذا الأدب بتلك الشمولية؟ لنذهب إلى تل-أبيب.

الكتابة هنا هي، إذاً، كتابة خلفية تحمل الهامش وتحتفي وتحتفل به، وحتى وإن كان عَجْراً وفجاً، فهذا اللب الخلفي للتفاحة، كما هو مرحلتها الأولى، أيضاً

لعلّ تل-أبيب هي المدينة الحداثية الوحيدة في النظام الاستعماري الصهيوني؛ فباستثناء القدس، ما تبقى من تجمعات سكنية هو في الحقيقة أقرب إلى البلدات منها إلى المدن. وهذه البلدات هي، على الأغلب، ذات طابع قروي-ريفي، بما في ذلك حيفا، حيث أنّ العلاقات الاجتماعية الاقتصادية مبنية على نوع من الحضور المباشر، والمعرفة المسبقة، فقلما تجد فضاء من العلاقات غير المعرّفة مسبقاً anonymity التي تميز المدينة الحداثية. من هنا، فإنّ الفلسطيني في انشباكه مع هذه التجمعات الاستعمارية لا يستطيع أن يكون إلا فلسطينياً نموذجياً. أما في تل-أبيب، وبعكس المتوقع، فإنه يستطيع أن يذوب في تفاصيل اليومي من دون أن يكون فلسطينياً بالمعنى المباشر والصداميّ لتعريف الذات مقابل الآخر الاستعماريّ. وبما أنّ أيّ تفاعل حقيقي وملموس يردّ العلاقة إلى صداميّة المواجهة بين قطبي الصراع الاستعماريّ، فإنّ هذه الفسحة الهشة هي المدخل السرديّ الذي ينطلق منه راجي وراويه في رحلة البحث في تل-أبيب، حيث يتشكل المشهد عبر لوح من الزجاج، أو قناع يلبسه الراوي، ليمارس من خلفه عمليتين أساسيتين: النظر بتمعّن في المُستعمِر، والنظر بتمعن تفكيكيّ في الذات المُستَعمَرة. تتم هاتان العمليتان بوحدة فعل واحدة، أي أنّ لحظة التبصّر في الجاني هي لحظة انعتاق الضحية، ومن هنا فإنّ الثغرة في بنية القوى الاستعمارية والتي نتجت عن هذا النوع من الاستعمار الاستيطاني -أي غرس وتشكيل مدينة أوروبية حداثية في جسد المشرق العربي الإسلامي- تُمَكِّن فعل الانعتاق في حال تمت صياغتها من جديد كما مورِسَت على يد المؤلف وراويته. فما هي لحظة التبصر النصية هذه؟

لعلّ من أهم ما يميز هذا النصّ هو عدم وجود سبب معلن لتواجد الراوي في تل-أبيب. فهو لا يكون أبداً في مسكنه، أو في عمله، حيث غير واضح مثلاً أين تقع غرفة المونتاج، أو لا نراه يصف غرفة نومه أو ما شابه، إلا أننا نستقي من حركته المتنقلة بين تل-أبيب وحيفا والناصرة أنه يقيم بشكل أو بآخر في تل-أبيب. إنّ الحفاظ على هذه الضبابية في العلاقة مع هذه المدينة يُخوِّل الراوي ممارسة الوظائف المتعددة التي يبتغيها من دون أن يخلّ بالبناء السّردي بل يعطيه هامشاً أوسع للحركة. فنراه مثلاً يجلس في الشارع العام كأيّ مقيم آخر في المدينة (ص 25)، أو يجلس في مقهى ليحتسي القهوة (ص 35)، أو يمارس السياحة خارج المدينة التي يقيم فيها (ص 43) أو ينتظر شخصاً ما ليعطيه طردًا ليوصله إلى صديق مشترك (ص 89)، أو ينتظر نتيجة فحص طبيّ هام (ص 107). ولكن هذه المشاهد التي تبدو عادية لدى سائر مقيمي المدن الأخرى، تتجلى كلحظات تنكسر فيها استمرارية الجسد المدينيّ الحامل لها. فالجلوس في الشارع العام هو تحوير على مجموعة أكاذيب صيفية صغيرة، أما الجلوس في المقهى فيثير قضية سلب هوية/لغة الضحية من طرف الجاني وإنكار الضحية لذاتها لكي لا تدخل في مواجهة لم تخطط لها؛ الشخص الذي سيأخذ الطرد هو متتياهو الذي سيوصله إلى القاهرة، أما الفحص الطبي فسيؤدّي إلى مواجهة الحقيقة النهائية والتي تقفل السّرد. إنّ هذه الانكسارات هي التي تفتح ثغرات في جسد المدينة للحظة ينظر الراوي من خلالها ثاقباً بنية القوى كما بنية ذاته التابعة والمشتقة من علاقات القوى الاستعمارية. لنأخذ مثالاً على هذه الآلية من العمل السرديّ. الفصل الأخير من النص (ص 107):

نصف الساعة التي مضت

فرصتك الأخيرة لفهم المقروء المرئي

1

00:30

أجلس على مقعد في جادة “يهوديت” حيث كانت تسكن نتاشا التي أطلقت على نفسها اسم “نيتاع” عندما صعدت من موسكو إلى أرض الحليب والعسل والمخلفات العضوية الأخرى في بداية التسعينيات من القرن الماضي ومعنى “نيتاع” هو الشتلة … وأنا لا أفهم كيف أفكر في نتاشا هذه وأنا مقدم على تلقي نتائج الفحص الطبي الموعود … ذلك الذي قد يقلب كياني … ويكرّس الخوف الذي لازمني ويلازمني أنى حللت … وفي الأحلام … أيضاً.

هذا المقطع/المشهد يبدأ من عنوان يُموضعنا في سياق الانتظار بشكل عكسي، أي نحن الآن في لحظة ما بعده، ومن ثم فإن الجملة الموجهة لعامل المونتاج تحمل التهديد والتربية معاً، كأي علاقة أبوية كلاسيكية، يأتي رقم 1 ليعلن أن الفصل مشاهد متسلسلة، ثم يأتي عدّاد الزمن المتبقي لإعلان النتائج، وهو يبدأ من 30 دقيقة ويتناقص في كل مشهد 5 دقائق إلى أن يصل إلى النهاية، لحظة إعلان النتائج. أما المشهد ذاته فهو يبدأ من مشهد مديني، الجلوس في جادة مقابل مبنى كان يقطنه أحد معارفك، مقارنة بالقرية والناصرة حيث يسكن كل فرد في ذات البناية كلّ عمره، ثم الإعلان من طرف الراوي على أنّ هناك طبقة من الأحداث هي أهم من المشهد المديني ولذلك فهي تكسره؛ أي أنّ الفحص الطبي أهم من نتاشا وما تثيره من ذكريات. وفي مستوى ثان، من الممكن قراءة “وأنا لا أفهم” كتعبير عن المفارقة، حيث أنه يجلس قبالة الشقة التي سكنتها مرة من كانت السبب الذي أدّى إلى الحاجة إلى الفحص الطبي. وهذه المفارقة هي بعدة مستويات؛ الأول فرديّ، أي الاحتمال الوارد أن أذهب إلى تلقي نتائج فحص طبي فأجد نفسي قبالة بيت من سبّبت لي الشكّ بأني مصاب بداء ما، إلا أنّ المقطع الأول من المشهد يحيل إلى مستوى جمعيّ من المفارقة. فنتاشا هذه هي شتلة غربية غريبة في جسد الجماعة التي ينتمي إليها الراوي، وزراعة الأعضاء هذه لم تنجح، وبالرغم من ذلك فهي لا تزال مغروسة وحيّة، ممّا يؤدّي إلى ضرورة إجراء الفحص الطبيّ. بهذا، وفي مستوى ثالث، فإنّ “وأنا لا أفهم” هي تعبير سيمبتوماتي لعدم قدرة الراوي على جسر هوة بين التناقض الفعلي وبين الحديث عن هذا التناقض بمشهدية متشظية من حيث سرديّتها ولكن متواصلة خطياً من حيث زمنها. هذا الشكل من البناء السردي يميّز الطريقة الأساس التي تنبني عبرها تل-أبيب المدينة التي يتبصّر من خلالها الرّاوي سائر وجوده الاجتماعيّ. من هنا، فإن اكتشاف/اختطاف تل-أبيب، وتعرية بنية القوى، هو تفكيك للذات الحدثية الفلسطينية، على الأقل تلك التي حدثت في الناصرة، لترتقي وعياً، عبر حيفا.

من الممكن القول بأنّ المدينة بما هي مفتاح للولوج إلى نصّ بر-حيرة-بحر، فإنها ذات طبيعة جيولوجية لها ثلاث طبقات مرتبة عمودياً وهي من الأسفل إلى الأعلى: الناصرة، فحيفا، فتل-أبيب. ولكن هذه العموديّة ليست ذات طبيعة ارتقائية بالمعنى التقليدي الاستشراقيّ، وإن كانت هناك أصداء لـ قلب الظلام وموسم الهجرة إلى الشمال من حيث خروج الذات إلى أناها في الآخر عبر تدمير كليهما الصوريّ، حيث الوعي من الدرجة الثانية يتمعن في حدثه من جديد. فهذه قام المؤلف بتغييبها علناً في حال روما ولندن، فهو يعرضهما كحالة من اللا-جدوى النصيّة، الأهم في فهم مفتاح المدينة هو تغييب القدس الصامت، والتي تُذكر في النص مرة واحدة على أنها موقع ثانوي على طريق الجنوب، جنوب الناصرة. والسؤال، أين القدس نصياً؟

7

إنّ الغياب لا يعني عدم الفاعلية، بل هو نوع آخر من القوة الفاعلة في التاريخ الأدبيّ والجماليّ، تحديداً، وفي التاريخ الاجتماعي، عامةً. هناك من فاضل بين الحضور والغياب، فرفع أحدهما على الآخر زمناً ومرتبةً ومن ثم تفسيراً وشرحاً، ونحن في سياق انشباكنا مع ها النص لا نفاضل مسبقاً، بل ندعو بالأساس إلى فك وتركيب العلاقة بينهما كمحور من محاور التفسير الممكنة.[16] ومن الممكن فحص هذه العلاقة بمستويات عدة، منها التفصيليّ ومنها البنيويّ العام، حيث أنّ كل لحظة تَشَكُل للنص حضوراً تحمل غيابات متعددة كما أن كل فعل تغييب يحمل عدة أشكال من الحضور. لهذا لا توجد وصفة معدة مسبقة لأشكال الحضور والغياب، بل هي احتمالات متعددة قد يتحقق بعضها وقد يخفق الآخر منها في أن يتشكّل وذلك تبعاً لتفاعلات بين عوامل شتى لا مجال للخوض فيها هنا بأكثر من الإشارة بأنها قائمة وفاعلة.

ثلاثة حضور غيابها بارز للعيان في بر-حيرة-بحر: الزمن المقدس على أنواعه المختلفة؛ قضيب جسد الراوي؛ القدس بما هي المدينة الفلسطينية الأم. هذه الغيابات الثلاثة هي حقول تشكلت في النص على أنها جزء من النظام النصراويّ، أي أنها نوع من الأنموذج للعلاقات السائدة في النظام الذي مكّن الحدث الطفولي الذي يستحضره الراوي من التحقق. حفرت هذه النماذج أقطاب حقل التناقضات الأساس الذي يحدّده النص: في مقابل المقدس هناك العادي صيف/خريف/شتاء/ربيع، والذي يرد إلى ما هو قبل توحيديّ. ومقابل القضيب، يركز النص على تقسيم العمل الاجتماعي عبر فتحات الجسد العلوية والسفلية للراوي ليعيد من ثمّ تقسيمه من جديد. وعوضاً عن السعي للقدس ليجد ذاته مُعدة له مسبقاً فهو ينطلق إلى تل-أبيب، ليدمِّر ببصره الثاقب وعيَ ما تحمله له وما يحمله لها. إن هذا التحديد لشكل التناقضات الاجتماعية التاريخية عبر تنصيصها، أي معالجتها أدبياً وجمالياً، هو أوليّ يشير إلى نوع من عدم نضج التناقض ليُحل، أو في الاصطلاح الماركسي لا يمكن حل التناقض عبر أقطابه الآنية. لذلك نجد المؤلف يلجأ إلى تقنيات سردية هي أقرب إلى مبدأ الحلم والتداعي الحرّ والسريالية والكولاج والترقيع والتسطيح pastiche، وذلك إلى جانب مبدأ الواقع المألوف في النظام السائد من سرد الأحداث. فبعد تثبيت الإطار الزمني وعلاقات السلطة اتجاه عامل المونتاج يصبح من الأمان بمكان أن ينهمر هذا التيار الجرفيّ عبر هذه التقنيات ليعبر ومن ثم يصوغ المرحلة الأولية لحقل التناقضات كما حددناه أعلاه. والسؤال المفصليّ، في تفسير النص وشرحه، كما في الأبعاد الجمالية الاجتماعية العامة للحدث السّرديّ الفلسطيني: كيف نفسّر مراوحة التناقض الأساسي في هذه المرحلة الأولية من حياته النصية؟ وهل تتناظر هذه مع الواقع الفلسطيني عبر بنية كونية بتعبير لوسيان جولدمان وغيره؟ لنبدأ بالسؤال الأول، ونترك الثاني لقسم التلخيص من هذا المقال.

المقولة بأنّ النصّ في حالة مراوحة في المرحلة الأولية للتناقض، هي مقولة نقدية حداثية بامتياز. وهي تعتمد على جملة من المفاهيم والمواقف التي كانت سائدة في الحداثة الكلاسيكية، مثل: أولي-متقدم، فجّ-ناضج، سطح-عمق، واقع-نص تمثيليّ، وما إلى ذلك. ولكن، وهذا الأهم هنا، أننا نقرأ عبر عدسة عمودية، أي أنّ قراءتنا ترتب الأحداث والشخصيات، وما إلى ذلك عبر ترتبيها من جديد من الأسفل إلى الأعلى، ولا يمكن لأيّ جانب من النص أن يُفهم إلا من خلال حركته هذه من الأسفل إلى الأعلى. من هنا فالتناقض في مرحلة أولية، أسفل، سيتحرك إلى أعلى، ليصبح في مرحلة متقدمة، وعندها سيستخدم المؤلف مبدأ الواقع فقط وتصبح سرديّته مألوفة وأليفة، بل وحتى جميلة بحسب معايير الذوق العام. هذا هو مأزق الحداثيين على اختلاف تشكيلاتهم الفكرية والفئوية. ففي حال نظرنا بشكل أفقيّ، فإن هذه المرحلة من التناقض ليست إلا الخلفية التي يتم في حيزها تجهيز/هدم المقدّمة أو واجهة خشبة المسرح.[17] اختيار خلفية المسرح كمكان للعرض المسرحيّ بدلاً من عرضها في مقدّمته هي مقولة جمالية؛ فوراء الزمن المقدس هناك الزمن الطبيعي، ومن خلف القضيب هناك فتحة الشرج، ووراء القدس تقف تل-أبيب. فالكتابة هنا هي، إذاً، كتابة خلفية تحمل الهامش وتحتفي وتحتفل به، وحتى وإن كان عَجْراً وفجاً، فهذا اللب الخلفي للتفاحة، كما هو مرحلتها الأولى، أيضاً.

8

في الشكل التسجيلي للنصّ الروائي الفلسطيني كانت الأرض الفضاء هي محور الأرشيف الجمالي الاجتماعي، أما في نص بر-حير-بحر، ونصوص أخرى، فإن محور الأرشيف هو الزمن

إنّ البحث عن وفي الذات لهو موضوعة إنسانية عامة، ومن التحويرات الشائعة عليه ذلك الذي يتم عبر رحلة ما إلى المجهول الذي يشكّل نوعًا من المرآة، التي قد تمكِّن الباحث من الوقوف على بعد ما من ذاته ليتأملها، ذلك الفعل الأول في الصياغة. إنّ عملية البحث، والرحلة بما هي تحوير محدّد عليها، لم تقتصر على مجال فعل اجتماعي دون غيره، فنجدها بالإنتاج المادي كما بالإنتاج الرمزي، في فحص وتسخير الطبيعة للجماعة البشرية، في المقدس والديني، كما في الأدب والفن. الأدب هو، جزئياً على الأقل، عملية من إسقاط البحث على شاشة نصية، شفاهية كانت أم مكتوبة أم من خلال الأداء؛ فهو قصة ما يحكيها المجتمع عن ذاته، ولكنه في لحظة سردها/قراءتها تصبح القصة مسعىً في تجريب تشكيل الذات عبر تناقضاتها المتعددة، أو تقنين النظام القائم، أو -وهو الغالب- خلطة أدبية جمالية من كليهما. من ميزات الحداثة في هذا الجانب كونها مشروع مادته الأساسية، الزمن، والرواية بما هي الشكل الأدبي الحداثيّ بامتياز فهي تشكيل مادته، الزمن، ولذلك فإنّ المقولة الروائية الأساسية بحث تشكيليّ في ذات مادة الزمن، كتناظر مُوازٍ للبحث في الذات. فالرواية في هذا الجانب منها هي رحلة بحث زمنية يكتشف كاتبها/قارئها عبر ممارسة تأليفها/قراءتها تشكيلاته الزمنية الذاتية الممكنة حداثياً. وما هو غير ممكن حداثياً هو تحقق زمن المُستَعْمَر خارج الزمن الأورو-أمريكي السائد؛ فالاستعمار بما هو امتداد بنيويّ للمشروع الرأسمالي الحداثيّ ينفي الزمن عن المجتمعات المُستعمَرة لتتموضع من ثم فضاءً لا غير. ولكن هذا لا ينفي البحث والرحلة بل يجعلهما أكثر إلحاحاً وحتى في بعض الأحيان ضرورة للمُستَعْمَر، والذي في انتقاله من الفضاء إلى الزمن يسأل حول إحداثيات بنية القوى، وهو سؤال في النقد والتقويض. فلسطين التاريخية هي المُستعمَرة التي نحن بصددها هنا، ولنا في سرديات ويوميات رحلاتها البحثية شؤون وشجون.

يميل النص الروائي الفلسطيني، عامة، إلى البدء من التسجيل كمبدأ ناظم لسرديته، وكأنه أرشيف الزمن الفلسطيني الضائع والمُبذر على أعتاب المشروع الاستعماري الأوروبي بطبعته المحلية، أي الصهيونية. فالشاشة النصية الفلسطينية تسجل ما جرى ويجري في يوميات انتظار العودة على هودج ما يُنسَج من فشل المقاومة ونجاحاتها من حين إلى آخر. وبسبب من الحمولة الشعاراتيّة للتسجيل فهو ميز فترة ما، ولم يعد قادراً على حمل البنية الشعوريّة فيما جد من تحولات على المجتمع الفلسطيني ورحلاته في البحث عن ذاتيته كما في أشكال إسقاطاته الأدبية والفنية المتعددة والمتناقضة. نحن الآن لا نستطيع تحديد ميول ما هو سائد، كما التسجيل في الفترة السابقة، وعلى الأغلب فإنّ عصر السردية الفلسطينية الكبرى انتهت، وهذا جيد وإن كان من النوع الجيد الشائك. يأتي نصّ راجي بطحيش ماسكاً نقطة التحوّل هذه، حيث يستثمرها ويستنفد عصارتها إلى المدى الذي يحدّده التناقض الاستعماريّ، والذي لم يتبدل بقدر ما تبدلت أشكال التعبير عنه وعمّا تم تغييبه منه. في الشكل التسجيلي للنصّ الروائي الفلسطيني كانت الأرض الفضاء هي محور الأرشيف الجمالي الاجتماعي، أما في نص بر-حير-بحر، ونصوص أخرى، فإن محور الأرشيف هو الزمن. فأنت لست في الناصرة أو حيفا أو تل-أبيب، أنت في صيف أو خريف أو شتاء أو ربيع؛ لست في الحارة، بل في الصباح أو المساء من يوم الأربعاء؛ لست في مظاهرة على أطراف القرية لتواجه حقيقة أمرك، أنت في النصف ساعة الأخيرة قبل أن تعلن نتائج الفحص الطبي. قد يتبادر إلى الذهن أنّ الفلسطينيين كجماعة خسروا الأرض-الفضاء، أي حُسِم التناقض، والتعويل الآن على الزمن، ومن هنا فنص راجي هذا يبدو وكأنه يتنبأ بالقادم. ولكن تسقط هذه الإمكانية لأنّ الزمن ينمو جسداً ومدينةً، فهذان يخضعان لمنطق زمنيٍّ يعيد صوغهما من جديد فيتحركان وفقاً لإيقاع مختلف عمّا هو إيقاع الأرض-الفضاء المتعارف عليه. الاختلاف في هذا النص ليس مبنياً على النفي والإلغاء، حتى في حال القدس والمقدس والقضيب الذكوريّ، وإنما ناتج عن تفكيك تقسيم العمل السائد وانبثاق تقسيم عمل هو عبارة عن تركيبة مختلفة لأسس التناقض الاستعماري السائد، أي الأبوي/الهترو/الطبقي الفلسطيني في مقابل المُستعمِر الأبيض الأوروبي. من هنا تتضح معالم رحلة بحث فلسطينية مختلفة، تضيء تجربة فلسطينية راهنة إلى جانب رحلات سابقة، كما ولا بدّ رحلات قادمة.

بعد تتويج الزمن، كمبدأ ناظم للحدث النصّي، فإن العمل وتقسيمه هما المحور الأساسي الذي ينبني عليه بر-حيرة-بحر. والعمل الأساسي في هذا النص هو العمل الجنسي، أو الجنس بما هو طاقة عمل تضبط العلاقة بين المادة الأولى، الجسد، والمادة من الدرجة الثانية، أي الاجتماعية، مُتَمثِلة هنا بالمدينة. تبدأ الرحلة الباحثة فتصطدم المادة الأولى ببر العمل الذي تم تقسيمه بما يتلاءم مع الأبوي/الهترو/الطبقي، أي الرجل ثنائيّ الجنس التاجر الإقطاعي في تمفصله في البنية الاستعمارية السائدة (البنية الاجتماعية-الاقتصادية للناصرة). إلا أنّ العمل الجنسي في الزمن إيقاعه موجيّ متكرّر لا ينفد، فيغمر البر الجنس/الحياة، وهو مُوازٍ للقصّة الفلسطينية العامة، التي لا تفتأ تصطدم ببرٍّ من بنية القوى الاستعمارية التي تردها إلى أسفل جديد في كل مرة، ولكن هناك طاقة حياة أخرى، في الزمن وليس في الأرض، يقول لنا النصّ، فيخرج الراوي بجسده إلى مجهول هو سبب مباشر. لا يمكن فهم السفر من الناصرة إلى تل-أبيب إلا كرحلة إلى نواة المُستعمِر ومن هنا المباشرة، في تشكل البر بما هو عليه الآن. في الانتقال يتم التجهيز والتحضير لعملية إعادة تقسيم العمل الجنسي عبر ممارسة الخطيئة، بما هي عمل حرّ استعماليّ، وفتح المتعة الكامنة فيها. إنها حيرة عطشى تقف على الطريق وتسأل عن سائل المتعة/الحياة. لا يوجد نصّ فلسطيني لم يعطش على الطريق بعد خروجه إلى العمل، والعمل على إعادة إنتاج الذات هو عمل جنسي/حياتي بامتياز. فإن كان البر منطلقي والحيرة سفينتي، فلا بدّ للبحر أن يضمّني، وبحرنا في فلسطين تستعمره تل-أبيب. في البر، الجسد -المادة الأولى- يخضع لأحادية نظام العمل الجنسي الثنائيّ، ولكن بعد السعي في تقويض هذا التقسيم، يجد الراوي أنّ كل تقسيم هو نظام، ضرورة، أي أنّ تل-أبيب لا تقل نصراوية عن الناصرة ذاتها، وإن كان العكس غير مُتاح. لذلك تتكسّر بالتتالي مشاهد المدينة عند دخول الناصريّ وجلوسه فيها وممارسته لها، ليصل إلى حلّ التقسيم من خلال توزيع يتشكل في كل مرة من جديد بما يتلاءم ومنطق الزمن، فيطلق نبوءته (ص 81-82)، ويفتح الحقيقة كحيرة راحلة باستمرار (ص 112). فلسطين، هنا، هي السعي فيها.


[1] أغلب النصوص النقدية الفلسطينية تتم كتابته بحسب مناسبات مختلفة.اللافت للنظر في هذا السياق هو كتابات فيصل دراج في العقود الثلاثة الأخيرة والتي مما لا شك فيه أسّست لجسد نقدي أدبي فلسطيني، حيث نقل نوعياً هذا النوع من المعرفة إلى أفق عقلاني مُنْتِج. على سبيل المثال لا الحصر، أنظر:

دراج، فيصل، 1996. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية. بيروت: دار الآداب.

1999. نظرية الرواية والرواية العربية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

2002. ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

[3] أنظر، على سبيل المثال:

Goldmann, L., 1987. Towards a Sociology of the Novel. London: Routledge.

[4] أنظر، مثلاً:

Lukacs, G., 1974. The Theory of the Novel. Cambridge, M.A.: The M.I.T Press.

[5] حول موقع جمهور القراء في تشكيل النص في السياق العربي، أنظر مثلاً:

Hafiz, S., 1993. The Genesis of Arabic Narrative Discourse: A study in the sociology of modern Arabic literature. London: Al Saqi.

[6] النصوص المشار إليها هي:

1998. الظل والصدى: شعر. الناصرة: د.ن.

2002. العري وقصائد أخرى. عمان: دار الشروق.

2003. حديقة للشتاء-ظل ربيع ضاع: نصوص. عمان: دار الشروق.

2005. بدل الضائع: قصص. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

2007. غرفة في تل أبيب. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

2009. ملح كثير-أرض أقل. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

2011. بر-حيرة-بحر: بورتريه منثور. عمان: أزمنة.

[7] مصطلح مينوريّ هو تعريب لمصطلح جيل ديلوز وفيلكس غواتاري، أنظر:

Deleuze, G., & Guattari, F., 1986. Kafka: Towards a minor literature. Minneapolis: Minnesota University Press.

[8] بخصوص أهمية العنوان في النصوص الأدبية الفلسطينية والأخرى، أنظر:

Taha, I., 2009. Semiotics of Literary Titling: Three Categories of Reference. Applied Semiotics/Sémiotique Appliquée (AS/SA), 9:22, pp. 43-62.

Taha, I., 2000. The Power of the Title: Why Have You Left the Horse Alone? by Mahmud Darwish. Journal of Arabic and Islamic Studies, 3, pp. 66-83.

[9] إن قضية الزمن هنا أساسية في التشكيل المعماري للنص، للإطلاع على أهمية الزمن في النصوص الروائية عامة من الممكن مراجعة دراسات ميخائيل باختين عامة حول هذا الموضوع، وبالأخص دراسته التالية:

Bakhtin, M.M., 1984. Forms of time and of the chronotope in the novel. In M. M. Bakhtin The Dialogic Imagination: Four essays. Austin, TX: The University of Texas Press.

[10] للاطلاع على الأدبيات التي تقوم بهذا الربط، أنظر مثلاً (قسم منها تُرجِم للعربية ولكنها ترجمة إشكالية):

Butler, J., 2011. Bodies that Matter. London: Routledge Classics.

Douglas, M., 2002. Purity and Danger: An analysis of concepts of pollution and taboo. London: Rouledge Classics.

Foucault, M., 1990. History of sexuality: An introduction, vol. 1. N.Y.: Vintage.

[11] للتوسع في المفهوم “الحل الجمالي الاجتماعي” من الممكن الرجوع إلى:

Jameson, F., 2002. The Political Unconscious: Narrative as socially symbolic act. London: Routledge Classics.

[12] أنظر الهامش رقم 8 أعلاه.

[13] حول أهمية الجرس في الجماليّة العربية الإسلامية، أنظر:

داغر، شربل، 1998. مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية. عمان: الجمعية الملكية للفنون الجميلة.

[14] للتوسع في مفهوم المدينة في المشروع الصهيوني، أنظر:

ناشف، إسماعيل، 2005. فك الصهيونية: الفضاء والإيديولوجيا في المدينة الإسرائيلية. بير زيت: معهد أبو اللغد للدراسات الدولية.

[15] حول علاقة المُستَعمِر بمدينة المُستَعمر، أنظر:

فانون، فرانز، 1972. معذبو الأرض. بيروت: دار الطليعة.

[16] حول موقع الغياب في التشكيل النصي وطرق استخلاصه، أنظر:

Macherey, P., 2006. A Theory of Literary Production. London: Routledge Classics.

[17] لقد نادى إلى استخدام النقد الأفقي العديد من المفكرين\ات ذوي التوجهات المختلفة، منهم مارتن هايدجر وجورج بتاي.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. لقد قرأت هذه القراءة المثيرة لكتاب راجي بطحيش مرتين بينما قرات الكتاب نفسه مرة واحدة. في هذا المقال ابداع وعمق وجدية لا حدود لهم. اسماعيل الناشف يحترم نفسه والمتلقين لكتابته لانه يقدم لنا نصا محترما يليق به، بالكتاب وبهذا الموقع الرائع. أكثر ما استهواني هو قراءته لعنوان الكتاب (6)أما الأقسام الأخرى فتأخنا الى عوالم واسعة واسعة.
    هنيئا للقراء ولقديتا هذه المشاركة لاسماعيل وبانتظار المزيد

  2. بلله ” مرورًا بالمثلث “الأبوي/الهترو/الطبقي” وانتهاءً بتحول مركزية الأدب الفلسطيني من فضاء المكان إلى الزمن” ؟؟؟؟
    اظن اذا العنوان بكون معقد اكتر شوي كان بكون في قراء لهالدراسة الهامة اكتر شوي !

    صراحة – لو حطتولنا الكتاب نفسه كان بكون احسن… يعني اذا ولا بد نقرا هيك دراسة مفشخرة فعلى القليلة نكون قاريين الكتاب.. ولا شو ؟؟

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>