مرثيات أيلول/ راجي بطحيش

|راجي بطحيش|   1 وأنا أجلس في المكتب المكيف أحصى ما تبق […]

مرثيات أيلول/ راجي بطحيش

بين الموت والإباحية

|راجي بطحيش|

 

1

وأنا أجلس في المكتب المكيف أحصى ما تبقى لي من عمر لا أعرف كيف سألملمه بهذه الأصابع المشققة وأتصفح بعض الأخبار الخفيفة عن الراقصات على الزجاج الملتهب والتماسيح التي تلتهم المتلصصين، أنتظر نهاية النهار لا لشيء هام سوى شوقي إلى القيظ الرتيب عند التقاطع بين اليأس وذلك الوهج المتبقي. ثمة وهج خفيف في قاع فنجان إسبرسو لا زال يجعلني أنتصب، وثمة  شارع طويل يقضم قلب البلاد المؤقتة من الوريد إلى الوريد.. وفي نهاية الشارع العريض توجد يافا ومن ثم البحر، ولنعد قليلا إلى الوراء… ففي يافا -وتحديدًا في جنوب دوران الخسارة- ثمة جثة مستلقية على أريكة بأناقة شديدة (وبنبل).. لم يكتشف وجودها أحد بعد.

..

2

نرتمي أنا وصديقي داخل المقهى. يحدثني عن الحجر الأخير الذي سيقلبه علّه يجد ذاك الوهج… لا أنصت كثيرا لما يقول، فأنا قذر لا ينصت سوى لذاته ولأصواته الداخلية. يحدّثني عن الشمعة الأخيرة التي انطفأت وأنا أتأمل الخارج وأستعرض الأجساد الجميلة الفاتنة التي يرتطم ظلها على الزجاج… تتدافع الأجساد الفتية… ذاك الخجل وتلك الهشاشة التي لا تزيد الأمر سوى سوءًا. أضع مزيدا من السكر في قهوتي المدعمة بالحزن اللذيذ، المؤخرات الفتية الصلبة.. الأكتاف… تلك الانثناءات عند البطن والخاصرة والمنزلقة نحو العانة، الأحاجي الماجنة حول ما يختبئ وراء تعرق السّراويل الداخلية التي كانت شاهدة على متعة عابرة منذ برهة في هذه الرطوبة القاتلة والحرّ الذي يأبى مفارقتنا، والذي يجعل من تلك الأجساد الفاتنة جدلا فكريا وحيدا. يسألني صديقي: هل تفكر في الحياة والموت؟…

ولنعد قليلا إلى الوراء؛ فقد قال أحد النقاد مرة إنني أزاوج دائما بين الإباحية والموت..

..

3

تفوح رائحة الخريف حتى أكاد أرتمي تحت أرجل أول الطغاة. يحدّثني صديقي عن الشقق التي زارها ضمن مغامرات جنسية شبقية عابرة وكيف بقيت ملامح تلك الشقق بوضوح مقلق، وكيف محيت ملامح الأسرة والأجساد والروائح التي تميّز كل شخص عن الآخر. يا ويلي كم من شقق عشاق اللحظة دخلت… تحوي جميعها رفوف كتب ورفوف إسطوانات كما تحوي صورًا لأمهات وجدات وخالات بألبسة طريفة كُنّ قد انتحرن، كما أن هناك تذكرة طائرة جاهزة للاستخدام ومجلات سياحية عليها بقع دماء ودموع الرحلة الأخيرة، شقق باريس المعلقة على القمر وشقق القاهرة ولندن وتل أبيب. أهذا ما أملكه الآن في هذه اللحظة الخريفية التي تألقت لتوّها وندمت على ذلك بسرعة؟ أهذا ما أملكه الآن مما سأكثفه وأحشره وأعبئه في قوارير صغيرة تحرس قبري؟ تلك الشقق إذًا التي لا أعرف من مات من أصحابها. ولنعد قليلا إلى الوراء.. منذ زمن لم أحلّ ضيفا على شقة أسطورية التصميم في مدينة لقصائد المجهولين.. وتلك في حدّ ذاتها معضلة لا تبشر ببقاء..

..

4

أنهض في الصباح. ثمة سخونة كالهالات اللاصقة حول عينيّ. نمت قليلا هذه الليلة كما أنني شاهدت أمورا سيئة في المنام. أتجه إلى الحمام مصدومًا ومغدورًا. أنظر على خوفي في المرآة وعلى الصّدأ المتكدس على حاجبي؛ هل غادرت غيبوبتي وعدت إلى ديار الأرق… الأرق.. الأرق.. أرق.. أرق.. أقولها بصوت مرتفع ولكن منضبط.عدت إلى ديار الأرق.. إلى تلك الغمامة الساخنة… الرطبة.. الدبقة التي سترافقني أنى ذهبت وستجعلني أضغط على أعلى أنفي كالفلاسفة حيث يثبتون نظاراتهم… الأرق… ها قد عدت إلى حقيقتي.. إلى الاحمرار الخفيف في الأعين وتلك الرعشات التي تسكن جسدي بفارق حافة وأخرى للانكسار.. وذلك القلق من الغد وخفقان القلب غير المبرّر الذي يشبه النوبات والقيام عن الكرسي لإتمام كل شيء قبل انفجار الرأس والموت فجأة، أو فلنقل من دون منطق طبي كاف… أنظر إلى خوفي في المرآة.. هذه النظرة أعمق وأهمّ وتجتاحها المرارة… وتلك الشفة النافرة ستلعق منذ اليوم اللذة بشراهة ويأس خوفا على سحرها من العجز والتساقط. وفرشاة الأسنان هذه ستشهد أياما أخرى وأيضا حلبة الاستحمام والمرحاض وألوان المناشف، وسكين الحلاقة ستجرح وجنتي التي ستنزف لساعات حزنا بطيئا بلون العذوبة. ولنعد قليلا إلى الوراء فحلبة الأرق هي ملعبي..

..

5

ها انا أمضي إلى قبور الأحبة.. العشاق منهم والأموات، كل مساء تسللا عبر حدود اللؤم. أشتري في الطريق رداءًا أسودَ جديدًا وأثبت عليه وردة زهرية. أحمل كوبا كرتونيا من الكابوتشينو وأبحث عن سيجارة عليها آثار أحمر شفاه بين الركام، ثم أستقل حافلة فارغة. بتّ أتجول بين القبور من دون شعور بالقرف… لا أفكر بالديدان وتلاشي الملامح عن الجمجمة كثيرا الخ.. الخ.. ولنعد قليلا إلى الوراء.. فقد وجدت في تلك الليلة عظمة سميكة خارج قبر أعنف عشاقي.. فأخذتها وذهبت…

(سبتمبر 2011، الناصرة-تل أبيب-حيفا)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>