شيء عن البصر والبصيرة/ رمزي سليمان

.. |رمزي سليمان| أحبّ النظر في ليالي الصيف إلى السماء ا […]

شيء عن البصر والبصيرة/ رمزي سليمان

"سماء"، بريشة أليس رادينوفك، أكريليك على قماش

..

|رمزي سليمان|

رمزي سليمان

أحبّ النظر في ليالي الصيف إلى السماء الصافية. القمر، إن كان طالعاً، هو أول ما يشد نظري، خاصةً حين يهلّ هلاله أو يبلغ تمامه. من بعده، أجيل بصري بين النجوم الكبيرة بضوئها الأخّاذ المتلألئ، ثم في النجوم الكثيرة الصغيرة واللامعة كالذهب الأصفر. أبقى هكذا بعضًا من الوقت، أجدني بعده، وأنا أنتقل لأحدِّقُ، من دون أن أدري، في المساحات المعتمة المعلقة فوق رأسي، المُطبقة من علِيٍّ بسواد داكن ومغلق كسِرّ. ثمة حدس غامض وإحساس مبهم ينتابانني عندها عن أني ربما أفتش عن شيءٍ ما غائر في السواد. بعد أن تنبهت لما أفعل، صرت أمعن النظر عن قصد لدقائق طوالٍ في بقعةٍ دكناء واحدة، أو بالأصح، صرت أفتح عيني على وسعهما وأبقى محدقّا في السواد بعينين مرخيتين، لا أزيح رأسي البتة، لئلا يتيه بصري إلى مواضع أخرى. بعد أن صرت أفعل ذلك، بدأت تتجلى أمامي نجومٌ كثيرة لم أكن أبصرها من قبل. في البدء تنجلي نجمةٌ واحدة، فأراها باهتة خجولة، ثم سرعان ما ينجذب نظري إلى نقطة ضوء أخرى صغيرة، حتى أنها تكاد لا ترى، تنجلي لعيني ثم تختفي، تغور في العمق الأسود، لتعود وتطفو على غلالته، تظهر أمام عيني رويداً رويداً، فأراها هي الأخرى باهتةً خجولة، ثم سرعان ما تطفو على السطح نجمةٌ ثالثة وأحياناً رابعة وخامسة بل وأكثر. أظلّ أرى نجومًا بقدر ما تسعفني عضلات الرقبة وتعين عينيّ الشاخصتين المأخوذتين بنجوم السماء.

قبل أسبوع ونيف فكرت في لعبتي، أو إن شئتم، في رحلاتي الفضائية هذه. كنت خارجًا من عيادة طبيبة العيون وبيدي مغلف فيه نتيجة فحص قالت إنه اختبار لمجال البصر. من أجرى هذا الفحص ولو مرة واحدة لا يستطيع أن ينساه. لقد وضعت الطبيبة ذقني برفق (ولكن بحزم) على متكئ بلاستيكي مجوف كقوس، وأمرتني أن أغلق عيني اليمنى وأنظر باليُسرى داخل أنبوبة معدنية تفضي إلى مجالٍ أسود داكن، وأن أرقب بروز ومضات سريعة، تارةً تًبرق من ناحية اليمين وتارةً تًشعّ من ناحية اليسار، وأن أضغط على مفتاح يصدر طنينًا معدنيًا في كل مرة أرى فيها واحدة من النقاط المشعة. بعدها كان عليّ أن أعيد الكرّة وأنا مغلق لعيني اليسرى وفاتح اليمنى.

لم أكن بحاجة لفتح الملف الذي احتوى نتيجة الفحص، إذ أن الطبيبة أخبرتني، بلغة عبرية ركيكة ولهجة روسية ثقيلة، أن الوضع ليس سيئاً تمامًا، لكن ثمة مشكلة في مجال البصر.

دائمًا كنت أفكر أن من المحتمل أن تكون لدي مشكلةً في البصيرة والرؤيا، أو هكذا على الأقل كنت أسمع بأن الناس تقول عني. كثيرًا ما كان يأتيني من يقول لي إنه يشعر بأنّ عليه، من دافع مصلحتي، أن يعلمني بأنّ الناس من حولي تتذمر من كوني أتبحّر في أمور صغيرة أكثر مما يليق وأضيع عليها من وقتي ووقتهم أكثر مما تستحقّ؛ أني أسأل أسئلة لا طائل من ورائها لأحد وأبحث عن أجوبة لأسئلة لم تخطر على بال أحد. هكذا، على الأقل قيل لي مرّات ليست قليلة، حتى أني بدأت أظن بأنّ ما أحسبه بصيرة نافذة هو عكس ذلك، وأنّ ما أحسبه رؤيا صحيحة هو في حقيقته اعوجاج فاضح.

قد يكون كل هذا صحيحًا، لكنه لا يمتّ بأيّ صلة لمجال بصري وشبكة عيني وقرنيتها وما أرى وما لا أرى. أنا متأكد من أن بصري ورؤيتي ومجالهما سليمان لا غبار عليهما. لهذا لم أكترث بما قالته الطبيبة أو بما كتبته في تقريرها، والحقيقة هي أني قد ألقيت بالمغلف الذي احتوى نتيجة الفحص في أول صندوق قمامة صادفته. ذلك لأنّ ما أعرفه لم يكن بمستطاع الطبيبة، مهما كانت خبرتها، أن تتوصّل إليه، كما لم يكن باستطاعة أجهزتها، مهما علت تقنيتها، أن تكتشفه. نظري سليم معافى، وكل ما في الأمر هو أني، وأنا أنظر في الأنبوبة المعدنية، لم أكن أتابع النقاط اللامعة المنبعثة من اليسار أو اليمين، بل كنت أسرح بنظري، كعادتي دائمًا، إلى مواضع داكنة في طرف الأنبوب، على أمل أن يطفو بغتةً ضوءُ ما، يبدأ خجولاً باهتًا، ثم سرعان ما يتعاظم نوره.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. البداية كانت رائعة ، توقعت نهاية مختلفة تماما، ان يكون فلسفيًا اكثر من كونه حكايتك مع طبيبة عيون .. هذه النجوم الصغيرة التي تتلألأ على استحياء ، كثيرا ما تحدث التغيير.
    نصّ جميل على اية حال :)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>