الموت، محو مسبق للمستقبل (1-2)/ رياض مصاروة

الموت، محو مسبق للمستقبل (1-2)/ رياض مصاروة

محاولة لتجاوز مفهوم جاك دريدا للزمن والطيفية. تجاوز ليس بمعنى النفي، وانما بمعنى السكن والإقامة في التجربة الفكرية

سلفادور دالي، "إصرار الذاكرة"، 1931.

سلفادور دالي، “إصرار الذاكرة”، 1931.

.

|رياض مصاروة|

رياض مصاروة

رياض مصاروة

لقد توصل الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، قبل ماركس وانجلس، قبل أكثر من 2500 سنة، إلى ما يلي: “ليس زيوس، بل الصراع هو الذي يحكم العالم”، وأكّد أيضا أنّ حياة الكون هي صراع دائم وصيرورة مستمرة، ورأى أيضا أنّ الأشياء في جريان دائم، وأن كل شيء يجري، ولا شيء يبقى مكانه، ويشبه الأشياء بمجرى النهر، حيث لا يمكن النزول مرتين إلى النهر نفسه: “إنّ أولئك الذين ينزلون في الأنهار عينها تغمرهم مياه متجدّدة باستمرار وبالتالي، لا يمكن النزول مرتين إلى النهر نفسه” (هيراقليطس). ولا يمكننا فهم ما ورد بمعزل عن مفهومه للزمن، اذ يقول: “كل الآن، غير الآن… أن الزمن هو الأول والأخير بين كل الأشياء، يتضمن كل شيء، ووحده يوجد ولا يوجد. يخرج دائما مما هو موجود ويعود من الجهة المقابلة، لأن اليوم هو الأمس بالنسبة لنا وقد كان الأمس غدا”، وبهذا الصدد يرى القديس أوغسطين أنّ الزمن وليد الانقطاع المتواصل بين ثلاثة مظاهر للحاضر وهي: التوقع الذي يسميه “حاضر المستقبل”، والتذكر الذي يسميه “حاضر الماضي”، والانتباه الذي يسميه “حاضر الحاضر”.

الإنسان مشتت بين ثلاثة حواضر: حاضر الماضي وحاضر المستقبل وحاضر الحاضر، والسؤال عن ماهية الوجود مستخرج من حالة التشتت هذه، ونتيجة للانقطاع المتواصل، والسؤال الوجودي الذي يطرحه هاملت “أكون أو لا أكون” لا يمكن فهمه وتحليله بمعزل عن الصراع الأزلي والأبدي مع حالة الانقطاع المتواصل. ويتوصل هاملت أيضا إلى “أن الزمان مخلع من مفاصله ورتاج بابه” (ترجمة حسين البرغوتي لجملة هاملت:The time is out of joint ).

يتحدّث جاك دريدا في هذا الصدد (في كتابه أرواح ماركس) عن “عالم الانفصال الصدغيّ”: لكون الزمن “كائنًا خارج الوصل” وهو مفكك المفاصل، ومخلوع، ومفكوك، ومتصدع. الزمن مخرب ومطارد، مختل، وهو معطل ومجنون في الوقت نفسه، والزمن لقائم خارج مفاصله، منفي، بعيدا عن نفسه”.

لأول وهلة عند قراءتنا لدريدا يصيبنا التشاؤم بأنّ لا جدوى من الصراع مع الزمن لأنه معطى خارج عن إرادتنا، وكينونتنا تتأرجح بين مفاصله المخلعة، المفكّكة، المتصدعة ولا أمل بأن نستطيع أن نعيده إلى نصابه الأولي الأزلي بحيث ننفي مظاهره الثلاثة بإدراكنا لحاضر الحاضر، من دون أن نلجأ إلى استباق الماضي من المستقبل. إنّ عدم ادراكنا للحاضر هو أصل كلّ الأسئلة الوجوديّة وأصل السؤال الأبديّ: نكون أو لا نكون. إنّه سؤال اللحظة، التي يعتبرها أوغسطين “توتر النفس”، فيها نستجمع الماضي ونتهيأ للمستقبل.

في مستهل كتابه “أرواح ماركس” يتمركز دريدا في سؤال الزمن، ارتباطا بظهور طيفين (شبحين)، طيف أبو هاملت، وطيف الشيوعيّة الذي اجتاح أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، والذي أعلن عنه كارل ماركس في البيان الشيوعي. وظهور الشبح، الطيف، لا يأتي من اللاشيء، وظهوره ليس ظهورًا وهميًّا، أو تهيّؤًا في لحظة مرضيّة، أو تنبؤيّة، وليس نتيجة منام كابوسيّ؛ إنه ظهور الحتميّة الظرفيّة، أو التاريخية، والظرفية هنا بمعنى لحظة التوتر الناتجة عن حدث عيني في مجرى التاريخ.

طيف هاملت الأب يظهر في لحظة عدم ادراك هاملت الابن لسلوك أمه، التي قبلت بزواج عمه ولم يمر شهر واحد على موت أبيه: “أهكذا تنتهي الأمور – لم يمر على موته شهران- بل أقلّ من شهرين… شهر قصير مضى، ولم يعتق ذلك الحذاء الذي مشت به وراء جثمان أبي المسكين… شهر واحد لم يكف فيه ملح دمعها الأثيم بعد عن تحمير عينيها المعذبتين”. ما يؤرق هاملت أنّ أمه عبثت بالزمن، لم تعط للزمن فرصة أن يكون وسيطا بين صدمة الفاجعة والتأقلم معها. هل هذا يعني أننا نعبث بالزمن، وليس الزمن الذي يعبث فينا؟ وماذا يعني هذا الاستنتاج حيال نقمة هاملت على الزمن: “الزمن مخلع من مفاصله”؟ وهل علينا أن نحيل كل ما يفجعنا إلى الزمن ونستكين إلى مقولة سوفوكليس في مسرحية إلكترا: “الزمان هو الاله الذي يسوّي كل شيء”؟ أمّ هاملت كانت على ما يبدو في حالة “سباق مع الزمن”، وذلك يعني أنها كانت في سباق مع المستقبل كي يصبح ماضيًا، وما لحظة حاضر الحاضر إلّا سباقًا مع الزمن… الحاضر، اللحظة العابرة، وهي مجرد لحظة عبور إلى ماض، أصله المستقبل: “العبور يأتي من المستقبل… إنّ عبور الزمن الحاضر ليأتي من المستقبل كي يذهب نحو الماضي ونحو ذهاب الذهاب فيه” (جاك دريدا، أطياف ماركس).

الطيف الشكسبيريّ، طيف أبو هاملت (وسنرى فيما بعد الطيف الماركسي) لا يستطيع أن يستكين إلى مقولة سوفوكليس، فهو أيضًا في سباق مع الزمن، ولا يستطيع أن يستكين أيضًا في ماضيه كجسد ميت، ونريد أن نؤكّد أننا لا نستطيع أن نفسر ظهور الطيف كظاهرة “بعث” مسيحيّة، تبشيريّة، إنّه ظهور حتميّ، ظهور سياسيّ، يطلب الفعل، يطلب الانتقام والثأر بواسطة العنف، يطلب القتل مقابل القتل، يطلب الثأر، يطلب ذلك من ابنه المتأرجح بين مفاصل الزمن المخلعة على أرض الفساد والعفن، يطلب ذلك من الابن هاملت الذي سيتردد نتيجة لتأرجحه بين مفاصل الزمن، الذي أصبح زمن الثأر، والمطلوب من هاملت أن يعيد للزمن نصابه بواسطة ذلك الثأر الشخصيّ، الذي أصبح عبئًا عليه، وهو يشعر بهذا العبء مباشرة بعد غياب الطيف، الذي سيعود طالبا القسم، ليقول هاملت: “إنّ الزمان مخلع من مفاصله… قدر لعين أن أكون ولدت لأعيده إلى نصابه”. إنّ في قوله هذا شكوى، كون الحق يتمسّك بالثأر: “وإذا كان الحق يتمسك بالثأر، كما يبدو هاملت متشكيا منه… فهل يستطيع أن نتوق إلى عدل في يوم، في يوم لم يعد ينتمي إلى التاريخ، في يوم شبيه بالمنقذ، وقد تخلص أخيرا من قدر الثأر؟” (جاك دريدا، أرواح ماركس).

رُغم تردّده، وتأرجحه، ورغم لعنته للقدر الذي نصبه منقذا، ينصب نفسه هاملت منقذا، ويفشل بذلك، لأنّ “انقاذ الزمن- التاريخ” هو بمثابة خطف للحظة تاريخية كما هي الحال في كل الانقلابات و”الثورات العربية”، وهنا يكمن أيضا الفارق بين الطيفين: الطيف الشكسبيري والطيف الماركسي. الطيف الشكسبيري يطلب لنفسه حاضرًا في لحظة التوتّر، يطلب الفعل، يطلب فعلا في زمن مخلع من مفاصله، يطلب العدل، الذي يعيد للزمن نصابه. فهل يستطيع هاملت الابن أن يكون ذلك المنقذ بواسطة الثأر لأب مغدور، اغتيل في الأوج من خطاياه: “لقد اغتالني وأنا في الأوج من خطاياي/ بلا اعتراف ولا قربان ولا زيت مقدس/ بلا حساب لما اقترفت، لكي أجابه الله وآثامي وعيوبي كلها على رأسي”. وفي حمى الغضب يقرّر أن يمحو حِكَم الكتب كلها، أن يمحو ماضيًا، وبذلك يقوم من دون وعي بمحو للمستقبل: “أجل من لوح ذاكرتي سأمحو كلّ تدوين سخيف أحمق/ حِكَم الكتب كلها، كل شكل وكل انطباع مضى/ ممّا نسخ الشباب هناك وسجلته الملاحظة/ ولن يبقى في كتاب ذهني إلا أمرك وحده (أمر الطيف) دون غيره لا تخالطه مادّة رخيصة”. والمحو المسبق للمستقبل يتجلّى في موته، الذي ينصب أجنبيًّا ملكًا للدانمارك. وهنا بودّي أن أسجل تلك الهفوة الشكسبيرية، التي أسقطت البديل الذي يتجسد بهوراتسيو، صديق هاملت، الذي كان بإمكانه أن يقوم بدور المنقذ.

إنّها لحظة التوتر التي تحيلنا إلى التعامل مع الزمن، إلى التعامل مع مفاصله المفككة، في لحظة عدم إدراكنا لحاضر الحاضر، ذلك المفصل بين الماضي والمستقبل، وكلّ مستقبل سيتوارى في الماضي عابرًا لحظة التوتر. الكائن هو في مركز الزمن، وما الزمن إلّا تأرجحنا بين مفاصله “المخلعة”، التي تغلف صراع الانسان مع حالات فعل “كون” الثلاث: كنت، أكون، سأكون. والسؤال “أكون أو لا أكون” نابع من حالة التأرجح الكيفيّة المستمدّة من المستقبل، وهو يتوجّه أيضًا إلى خلاصة الكينونة: كيف ولماذا وإلى أين؟ وهاملت يسأل عن هذه الخلاصة: “والانسان ما أروع صنعه! ما أنبله عقلا، وما أقصى حدود قدرته ومواهبه! في الشكل والحركة ما ألبقه وما أروعه! في العمل ما أشبهه بالملائكة! في الادراك ما أشبهه بالآلهة! إنّه زينة الدنيا ومثل الحيوانات الأكمل ومع ذلك كله، ما خلاصة التراب هذه؟”.

إنّ السؤال عن الخلاصة ليس معزولا عن ظرفيّته الزمانيّة، عن ظرفية ظهور الطيف: “شيء ما يفسد دولة الدانمارك” أو “شيء ما عفن في دولة الدانمارك”. وهل نحن بحاجة إلى ظهور الطيف كي ينبهنا إلى لحظة حاضرنا أن شيئا ما فاسد، أو عفن؟ وهل طيف ماركس، أي شبح الشيوعية الذي يطوف حول أوروبا ظهر نتيجة “ظرف اللحظة” أم نتيجة عملية تاريخية متكاملة جوهرها الفساد والعفن؟ في الحالتين، انه ليس طيفا لاهوتيا يقوم بعملية تبشير، أو تهدئة مخدرة أن الخير سيأتي من عند الرب، انه ليس طيفا ميتافيزيقيا. إنه طيف يطلب الفعل، وينفي الانتظار لمعجزة ربانية.

( في الحلقة الثانية سنتطرّق إلى “الشبح الشيوعي” في بيان ماركس وإنجلز ونطرح السؤال: هل الفكر العروبيّ العلمانيّ شبح ظهر، وغاب من دون بيان، وهل حقا نحن في حالة انتظار لعودته؟)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>