مطلع “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”/ خالد خليفة

مطلع “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”/ خالد خليفة

صدرت في الأيام القليلة الماضية رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” للروائي العربي السوري خالد خليفة، عن دار “العين” المصرية. وقد خصّ الروائي موقع “قديتا” بهذا المقطع من مطلع الرواية.

104291

.

|خالد خليفة|

صدرت في الأيام القليلة الماضية رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” للروائي العربي السوري خالد خليفة، عن دار “العين” المصرية. وقد خصّ الروائي موقع “قديتا” بهذا المقطع من مطلع الرواية.

 .

الفصل الأول: حقول الخسّ

‏في طريقي إلى المنزل تذكرت أن أمي لم تبلغ الخامسة والستين من عمرها كي تموت بهذه ‏الطريقة المفاجئة، فرحت في سري واعتبرت هذا الحدث تأخر عشر سنوات بسبب تشكيها الدائم ‏من نقص الأوكسجين، أخبرني خالي نزار بأنها نهضت بعد الظهيرة من سريرها العفن، وبدأت ‏تكتب رسالة طويلة لكائن مجهول كنا نظنه عشيقًا أو صديقة قديمة تشاركها الحديث طوال الوقت ‏عن أزمنة ماضية لم تعد تعني أحدًا، لكن أمي في سنواتها الأخيرة أقامت فيها ولم ترغب بهجرها، ‏لم تصدق بأن الرئيس مات كأي كائن، رغم مراسم العزاء والحداد الوطني، التليفزيون بث صوره ‏وخطاباته القديمة، استضاف مئات من الأشخاص عدّدوا خصاله، ذكروا ألقابه اللامتناهية بخشوع ‏كبير، غصت عيونهم بالدمع وهم يذكرون فضائل الأب القائد، قائد الحرب والسلم، حكيم العرب، ‏الرياضي الأول، القاضي الأول والمهندس الأول.. يشعرون بغصة كبيرة لأنهم لم يقولوا الإله ‏الأول.‏

‏كانت أمي تقول: القوة والبطش لا يموتان، مضيفةً: دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت، إنه باب ‏موارب يزداد ضيقًا حتى يخنق القاتل. تشرُد وتنتقي كلمات مناسبة لحكاياتها الأثيرة عن الماضي، ‏تصف بحماس ثياب رفيقاتها الأنيقة وروائحهن العطرة المفعمة بالأمل، تستعرض صور ‏متظاهِرات يشبهن ثمار قطن غير مقطوف، ناصع البياض تحت شمس غاربة، تتابع مديحها ‏للماضي، تستحضره بلذة منتقمةً من حياتها الذليلة، تصف الشمس القديمة، تشتاق إلى رائحة ‏التراب القديم بعد أول مطر، تُشعرنا أنّ كل شيء تغير فعلًا، وكم نحن بؤساء لأننا لم نعش ذلك ‏الزمن الجميل، حيث الخس أكثر طراوة والنساء أكثر أنوثة.‏

الروائي خالد خليفة

الروائي خالد خليفة

‏تركت المسودات على الطاولة لأيام، كالعادة لم نهتم بشأنها كبقية الرسائل القديمة التي كسا الغبار ‏حروفها المكتوبة بحبر صيني خاص، طوال عشرين سنة أحضرته من مكتبة خالي عبد المنعم ‏في مدخل باب النصر. اعتادتْ زيارته والسؤال عن ورق مسطر تفوح منه رائحة القرفة، اعتاد ‏سؤالها ولم يعد يتبادل معها الذكريات عن زمن الترامواي الجميل كما كانا يسميان طفولتهما ‏الشائكة وعلاقتهما المعقدة، يناولها بصمت دستة أوراق بيضاء، يعيد لها النقود ولا يسمعها حين ‏تطلب منه الصبر، يعود للجلوس في ركنه المظلم، محدقًا في صورة عائلية بهتت ألوانها ولم ‏تفارقه، في منتصفها يقف ابنه يحيى مبتسمًا، شعره ملمع بالزيت، يحيطه أخواه حسن وحسين ‏بذراعيهما بحركة قوية، واثقة ومعبرة عن طموح أبناء العائلة بوئام دائم.‏

‏خالي عبد المنعم لم يعد يرى من الصورة سوى ابنه يحيى، الذي رآه لآخر مرة جثة مسجاة في ‏مشرحة مشفى الجامعة، محترق الوجه ودون أصابع، على جسمه كدمات كابلات كهربائية وشقوق ‏سكاكين متقيحة لم تندمل بعد. اكتفى بنظرة واحدة ليتعرف إليه، أغلق بعدها الطبيب الشرعي ‏الصندوق الحديدي كأنه يقوم بعمل روتيني، ولم يستمع لرجائه الحار بالسماح له بتلمس وجهه. ‏طلب منه ببرود إجراء معاملة استلام الجثة، ودفنها دون عزاء، تحت حراسة ستة جنود مظليين ‏كانوا يتجولون ببنادقهم ولباسهم الحربيّ الكامل في ممرات المشرحة.‏

قبل صلاة الفجر حضر إلى المشفى مع ابنيه حسن وحسين وصديق تم طرده بقسوة. حملوا الجثة ‏إلى سيارة دفن الموتى الفولكس فاغن القديمة، صعدوا إليها والتفوا حول التابوت، حدقوا في عيون ‏بعضهم بعضًا وبكوا بصمت.‏

‏الموت يتمدد ثقيلًا في شوارع حلب الموحشة إلى درجة لا تطاق، وصلوا إلى مقبرة العائلة، طلب ‏الجنود منهم حمل التابوت ليصلي عليه شيخ كان بانتظارهم، خالي عبد المنعم هز رأسه كمعتوه، ‏تمتم بكلمات قليلة لم يفهم أحد منها شيئًا، الشيخ صلى عليه على عجل، اصطف خلفه ابنا خالي، ‏لم يرفعا نظرهما عن التابوت الذي أخرج منه الجنود كتلة لحمية ملفوفة بكفن قذر. لم يسمحوا ‏لهما بالتحديق في العينين المنطفئتين واحتضانه كما يليق بدفن شقيق. تحجرت الدموع في عيونهما ‏واكتفيا بالنظر إلى أبيهما الذي لم يتوقف عن البكاء بصمت، والتمتمة بكلمات غامضة لم يهتم أحد ‏بفك طلاسمها.‏

استيقظت أمي من غيبوبتها الطويلة، جلست إلى طاولة الطعام المتهالكة القوائم قرب نزار الذي ‏يصدر طنينًا ساكنًا كذبابة صماء، قرأت له أسطر رسالة كتبت لرجل تصفه بالصديق العزيز: أن ‏كل شيء قد انتهى، لم تعد تنتظر وعده لها بالرقص على أنغام التانغو على سطح باخرة عابرة ‏للمحيطات. تخلت عن كلمات رسائلها الماضية المشفرة، كتبت بوضوح أنه لا يمكن الوثوق ‏برجال تفوح من جلودهم رائحة الجرذان. غيرَ خائفة من وقوع رسالتها بيد رقيب البريد، أعلنت ‏في لحظةِ شجاعةٍ أخيرة أن كل الأشياء تساوت لديها، لم يعد يعنيها الرضا، لم تفكر للحظةٍ بأنها ‏امرأة ارتكبت ذنوبًا، بل كانت تفكر بأن الذهاب إلى الموت بقوة يليق بأحلامها الكبيرة التي ماتت ‏قبلها، ولم يعد لديها ما تخفيه من هزيمتها.‏

‏في الأشهر الأخيرة، قبل موت أمي، اعتاد نزار هذه الأمسيات، يجلس وحيدًا على كرسي خشبي ‏قديم، يستمع إلى هذيان أخته حين تستيقظ من غيبوبتها بين وقت وآخر، تخبره عن أخيلتها بيقين ‏كامل كأنها تشاهد بمفردها فيلمًا سينمائيًا غير مرئيّ لآخرين. ببساطة تتحدث عن أشباح تطارد ‏أخي رشيد، تسأله عن أحوال البلاد، وقبل أن تعود إلى صمتها تتحدث بقوة تدهشه وبجمل ‏واضحة دون توقف ولساعات عن أسعار الخضار، وذكرى لياليها مع أبي في ذلك البيت الحجري ‏القديم على أطراف محطة ميدان أكبس، تضحك كأية امرأة طبيعية، تتذكر بحسرة أنها قدمت ‏القهوة لإيلينا وعلمتها صنع مربى المشمش، يبدو مشهدهما لمن لا يعرفهما طبيعيًا، أخَّان اختارا ‏قضاء شيخوختهما معًا في الثرثرة وقلي البزر، وتصفية حساباتهما مع ماضي عائلتهما الذي لا ‏يتركهما فيندفعان بإعادة تقييم ومحاسبة أشخاص ماضيهما وحين يكتشفان أن الجميع قد مات أو ‏تشرد منذ زمن بعيد يصمتان، ويفكر الاثنان أن الماضي رغم كل جماله لم يمنحهما سوى التعاسة. ‏

‏في أيامها الأخيرة كان رشيد مفقودًا، لم تعد تحتمل غيابه، تذكره في صحوتها وهذيانها، تخبرنا ‏أنه لم يمت وسيعود، أصمت ولا أستطيع تأليف قصص وهمية عن غيابه، كنت مقتنعًا بأنها عاشت ‏ما يكفيها من الأوهام، لا حاجة لجرح إحساسها بقصة كاذبة عن أخي المفقود، حزنت لأن رشيد ‏لن ينظر إلى جسد أمي الميتة الممدد باستسلام، لن يبكي حرقة على ضياع كل أحلامنا، تمنيت ‏وجوده ليقاسمني لأول مرة مسؤولية الوقوف على باب صالة العزاء التي قام خالي نزار ‏باستئجارها، ليجنبنا إحراج نظر الناس إلى منزلنا الذي مجرد نظرة واحدة إليه تكفي كي يعرف ‏الجميع نهاية أحلام عائلة.‏

لم تفكر للحظةٍ بأنها ‏امرأة ارتكبت ذنوبًا، بل كانت تفكر بأن الذهاب إلى الموت بقوة يليق بأحلامها الكبيرة التي ماتت ‏قبلها، ولم يعد لديها ما تخفيه من هزيمتها

‏خالي نزار طلب مني البحث عن سوسن المرحة وإحضارها بالقوة، انفجر بالبكاء، صوته كان ‏حازمًا يشبه صوت أمي، حين أخبرتنا بأن أبي هجرنا مع امرأة أمريكية تكبره بثلاثين سنة تدعى ‏إيلينا إلى نيويورك، واختفت كل أخباره، أضافت إنه لم يمت لكن لا داعي لانتظاره، فردت ‏أمامنا قطعة قماش جوخ إنجليزي، وثلاثة صقور محنطة ومجموعة قليلة من قمصانه المخططة، ‏وبناطيله البالية وشارات موظفي السكك الحديدية وقبعاتهم المميزة، قالت بلهجة باردة تستطيعون ‏اقتسام إرثه، وحين خرجت مغلقة الباب بقوة، سمعنا صوت نحيبها وتشممنا رائحة الكارثة المقبلة.‏

‏فكرت بأنني أمتلك الوقت الكافي لتصفح ألبوم أمي الميتة المغلف بجلد غزال لم يبهت لونه، حافظ ‏على ملمسه الناعم، اكتسب قدسيته كقطعة وحيدة لم تتحطم في منزلنا، أحسست براحة كبيرة، ‏سأرى صور أختي سعاد التي لم نعرف سبب شحوب وجهها وصراخها طوال الليل كابن آوى ‏وحيد في الجبال.‏

‏هذيان سعاد المتواصل قبل موتها بأسابيع قليلة جعلنا نفكر بمصيرنا، أصبحت صورتنا العائلية ‏المعلقة على جدار الصالون مصدر ثقل نفسي نحاول تحاشيه وكذبًا فاحشًا لا يمكن إخفاؤه، أب ‏هجرنا مع منقبة آثار عجوز علمتها أمي صنع مربى المشمش، وأخت بائسة لا نعرف لماذا تهذي، ‏تفتح فمها محاولة التنفس بصعوبة فائقة، نحبها وتعتبرها أمي عارًا شخصيًا يجب إخفاؤه عن ‏الجميع.‏

‏كنت أدخل عامي العاشر ولا نعرف شيئًا عن الموت والعار، سوسن هزت سعاد من صدرها، كما ‏كانتا تفعلان حين تتشاجران لكنها لم تتحرك، انتظرت أمي بزوغ الفجر لتحملها ملفوفة بحرام ‏صوفي إلى المقبرة مع صديقتها ناريمان وخالي نزار، أخبرتنا مساء بأنّ سعاد لن تعود، شارحة ‏بكلمات مقتضبة أن الموت يعني ذهابًا وغيابًا أبديين، ولم تذكر شيئًا عن الإحساس حين ندفن عارنا ‏بيدنا.‏

‏لم نصدق غياب سعاد الحلوة، قلت لسوسن يجب أن نبحث عنها، قد تكون مختبئة في حقول الخس ‏كما كانت تفعل دائمًا، أو قرب سكة القطار القريبة تصنع من المسامير سيوفًا، تلوِّح بها لمسافرين ‏غير موجودين.‏

‏حين يمرّ القطار قرب منزلنا يطلق صفارته لحنًا شجيًا، سعاد تفتح الباب وتهرع مسرعة، تعد ‏القاطرات، مبتهجة تخبرنا بأنّ سائق القطار يستطيع الطيران، تؤكّد أنها رأت أجنحته، نهزّ ‏رؤوسنا مصدّقين ونتخيّل القطار بعد غيابه في المنعطف يطير فوق الحقول ويحلق في السماء، ‏وحين سألناها أين يحطّ في النهاية؟ شرحت بجدية من كان يتوقع هذا السؤال بأنه لا يتوقف عن ‏الطيران حتى يموت، أشارت بمرح طفولي إلى جسدها الضئيل وأكملت مثلي تمامًا.‏

‏سرنا في حقول الخس، وصلنا إلى المقبرة، سألنا حارسها عن منزل سعاد، أشار إلى كومة تراب، ‏سوسن قرعت التراب بيديها الغاضبتين، تهالكت متعبة، أمرتُها بعدم البكاء وضرورة العودة قبل ‏هبوط الظلام. سرنا تحت المطر الغزير، دون أي إحساس بالندم أخبرت رشيد أن سعاد كرهتنا، ‏ولن تعود أبدًا لأنه انتزع منها قطارها الخشبي، وافقت سوسن بمرح وفي الليلة ذاتها رأيت منامًا ‏لم أخبره لأحد، كانت سعاد تقود قطارًا طويلًا محملًا بمجموعة طيور دون أجنحة، مناقيرهم ‏طويلة، ينشدون لها أناشيد تستعذبها، شعرها أبيض وطويل، تنظر إلى الأمام مبتسمة، ملاكٌ لا ‏يراه أحد.‏

‏أخبرت سوسن عن منامي وصورة سعاد المتكررة بشعرها الأبيض الطويل، ضحكت وقادتني إلى ‏المقبرة مرة ثانية، حملنا زهورًا برية ووقفنا قرب شاهدة لم يكتب عليها أي شيء، استمعت إلى ‏صوت سوسن تخبرني بجدية مبالغ فيها أن سعاد هنا لا تستطيع الضحك والتنفس والديدان نهشتها، ‏فهمت بعد شرحها الطويل لصورة الموت بأنه غياب من نحب.‏

‏بعد سنوات طويلة رأيتها مصادفة في بار إكسبريس الرخيص ذكرتها بشروحها الطويلة، أخبرتها ‏أن الموت هو اكتمال الذكريات وليس غيابًا أبديًا، وافقتني وهزت برأسها مخمورة، سألتني إن ‏كنت أرى سعاد، كذبت وأخبرتها بأنني أراها يوميًا، أطرقت برأسها حزينة، أمسكت يدي وأضافت ‏بأن ثلاثين عامًا كافية للنسيان، انتبهت فجأة أنها تستعير مفردات أمي نفسها عن الموت وتشير ‏مثلها بيديها ببطء وتكلف، حزنت أن سوسن بدأت تشبه أمي، كدت أسألها عن طعم التماهي مع ‏امرأة تكرهها.‏

‏أقنعني رشيد بأن سوسن تكذب لن تتذكرني، وأضاف ثلاثون عامًا ليست كافية لنسيان من نحب، ‏أدركت بعدها بأن النسيان إعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما، لكنها في النهاية ‏تفاصيل نظنها حقيقية، لا نصدق أنها وهم من أوهامنا، كما بدأ يحدث لي في الفترة الأخيرة حين ‏بدأت أستعذب السير في شارع الملك فيصل الهادئ والتفكير بأن حلب مكانًا زائلًا كما النسيان، ‏كل ما سيبقى من صورها الحقيقية أكذوبة نعيد اختراعها كل يوم كي لا نموت. ‏

‏موت سعاد جعلنا نفكر بالهرب من الموت، نحمل أنا ورشيد أغطية أسرتنا، نتمدد قرب سوسن ‏التي تلتصق بنا خائفة من شبح سعاد الذي يؤكد رشيد أنه يحوم حول النافذة المغلقة كل ليلة، يغرق ‏في تفاصيل وصفه مستعيرًا مصطلحات السلم الموسيقي، وأسماء المعزوفات المكتوبة خصيصًا ‏للكمان، نبدو نحن الثلاثة هاربين من قدر محتم ينتظرنا حين يهبط الظلام، ويغرق المنزل ‏بالسكون، تأمرنا سوسن بالصمت، نصمت ونقترب من جسدها الحار، تضمنا بين ذراعيها كأنها ‏تستنجد بنا لتطرد خوفها أيضًا.‏

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>