نبتدي منين الحكاية / سُهيل كيوان

نبتدي منين الحكاية / سُهيل كيوان

أحسَّ برغبة أن يضع كفّيه في عنقها ويخنقها، ولكنّه ما لبث أن شعر بشفقة عليها، ما ذنبها هي! يا إلهي كم نحن مقصّرون بحقّ الأجيال الجديدة! شعر بأنّ ابنته تضيع منه وقال: يا بنتي الله يرضى عليكِ .. هذه أغنية لعبد الحليم حافظ.. اسمها “نبتدي منين الحكاية”

|سُهيل كيوان| 

سُهيل كيوان

سُهيل كيوان

 

بلا شكّ أنّك تنتبه للموسيقى الّتي يبثّها هاتف صديقك أو أحد أفراد أسرتك، وأعتقد أنّك مثلي تحاول الرّبط بين الشّخص والموسيقى الّتي اختارَها لهاتفه، بل تستطيع أن تأخذ فكرة أوليّة عن شخصيّته من خلال رنّة هاتفه.. فمَن يختار موسيقى (موطني موطني…)، ليس كمَن يختار (بوس الواوا أح)!

لهذا السّبب كان عبد الودود منزعجًا جدًّا من الأغاني الّتي تختارها ابنته لهاتفها، فهي، بمعظمها، من الأغاني الّتي لا يعرف عنها شيئًا بل ويصنّفها في باب التفاهة والهشّك بشّك!

-         ما الّذي تحبّينه بهذا النهيق!

-         نهيق؟!

-         وماذا نسمّي هذا!

تكشّر ابنته وتتمتم وتتبرّم، ورغم ذلك لا تمرّ ساعات حتى تغيّر الأغنية علّها ترضيه فتأتي النتيجةُ أسوأ!

-         ماذا فعلتِ؟! استبدلتِ النّهيقَ بالجعير!

وطبعا تزعل ابنته مرّة أخرى! حاول تحسينَ ذوقها إلى أن يئس من الإصلاح وسلّم أمره للغثاء، واعترف بأنّ ابنته تعيشُ ذوقًا غير ذوقه وزمانًا غير زمانه.

في يوم ما فوجئ بهاتف ابنته يبُثُّ لحن أغنية يعرفها، بعد هنيهة تأمُّلٍ عرفَ أنّها مقدّمة “نبتدي منين الحكاية” لعبد الحليم حافظ. فغمرته غبطة كبيرة، وانشرح صدره وكأنما ربح جائزة كبيرة غير منتظرة. نظر إلى ابنته بحنان وإعجاب، بل لا نبالغ لو قلنا إنّ عينيه كادتا تدمعان. واخيرًا اهتدت إلى شيء مقبول، اللحن والأداء لعملاقيْن في الغناء والتلحين. صحيح هو لا يعتبرها من روائع عبد الحليم، ولكنّه عبد الحليم وليس أي مطرب آخر، وهذه ألحان اللواء عبد الوهاب، صاحب الكثير من الروائع!

كلّما سمع اللحن من هاتف ابنته خفقَ قلبُه لها، إلى أن لاحت الفرصة كي يجاهر ابنته بإعجابه بخيارها الموسيقيّ الجديد، فقال لها: يابا أنا مبسوط منّك كثير كثير.. وهذه بوسة على جبينك.

-         ليش يابا؟ – ردّت وقد لمعت عيناها بفرح طفوليّ.

-         لأنّك اخترتِ عبد الحليم!

-         أي عبد الحليم؟

-         أقصد اختيارك لأغنية “نبتدي منين الحكاية” رنّةً لهاتفك!

-         شو؟.. مش فاهمة!

-         الأغنية الّتي يبثّها هاتفك عند الاستقبال.. تذكّرني بأيّام العزوبيّة! بالأيام الجميلة الّتي كنت أرقصُ فيها ساعاتٍ بلا تعب.. هذه موسيقى راقية!

-         أنا لا أفهم ممّا تقول شيئًا! ما علاقة هذا بهاتفي..؟

-         يعني أقصد القول إنّ الموسيقى التي اخترتِها لهاتفِكِ هذه المرّة ذات مستوى، وليست من الأغاني التافهة..

-         أنت تقصد أغنية (زوهَر)..

-         لا، بل أقصد أغنية عبد الحليم..

-         أي عبد الحليم؟!

-         ولو.. عبد الحليم حافظ!

-         يبدو أنّك لا تتحدّث عن هاتفي..

-         بل عن هاتفك..! ورغم أنّ الشّكوك ساورتْه، فقد ضغط على رقمها من هاتفه وما هي سوى لحظات حتى بدأت موسيقى “نبتدي منين الحكاية” من هاتفها، وقال: هل تسمعين، أقصد هذه الموسيقى.. ردّت ابنته مصحِّحةً: هذه موسيقى (زوهر أرغوف) وليس عبد الحليم..

-         زوهر.. مين؟! ردّ مذهولًا .. وهو يكادُ يصفعها..

-         ردّت مؤكِّدةً: زوهر مين يعني! زوهر أَرغوف..

أحسَّ برغبة أن يضع كفّيه في عنقها ويخنقها، ولكنّه ما لبث أن شعر بشفقة عليها، ما ذنبها هي! يا إلهي كم نحن مقصّرون بحقّ الأجيال الجديدة! شعر بأنّ ابنته تضيع منه وقال: يا بنتي الله يرضى عليكِ .. هذه أغنية لعبد الحليم حافظ.. اسمها “نبتدي منين الحكاية” وملحّنها عبد الوهاب، ولا يمكن أن أخطئ فيها أبدًا.. حتى أنّ فيها رتمًا هنديًّا.. وراح يدندن باللحن ثم بالكلمات..

-         يابا إنت غلطان. هذه أغنية عبريّة لزوهر أَرغوف.. إسمها..

حينئذ قاطَعَها صارخًا بوجهها بحزم:

-         خلص.. افهمي.. هذا لحن لطَشه زوهر أَرغوف من عبد الحليم..

وكما يعهدها ردّت بعناد:

-         ولماذا لا يكون عبد الحليم هو الّذي لطش هذا اللحن من زوهر أَرغوف!

-         يا ابنتي الله يرضى عليكِ.. معظم ألحان الأغاني العبريّة، وما يسمّونها “أغاني الاكتئاب” في الأسواق، هي في الأصل ألحان عربيّة أو تركيّة أو يونانيّة.. وهذا اللحن لعبد الوهاب.. هل فهمتِ الان؟!

-         يابا .. أنت متأكد؟

-         طبعًا متأكد. ولو، العمى.. سأقتني لك الأغنية الأصليّة كي تسمعيها، إنها منذ الثمانينات،بل منذ السبعينات، لأن عبد الحليم توفي في الثلاثين من آذار عام 77، الذكرى الأولى لـ “يوم الأرض”.. يا إلهي كيف يمرّ الزمن..

-         ولكن ما علاقة عبد الحليم بـ “يوم الأرض”؟!

-         “يوم الأرض” حصل عندنا عام 1976، وفي العام 1977، كانت الذكرى الأولى. بالضّبط في الثلاثين من آذار توفي عبد الحليم حافظ، ولهذا لا أنسى تاريخ وفاته.

-         آه، فهمت..

-         شو فهمتِ؟

-         هذه أغنية عبد الحليم حافظ عن “يوم الأرض”، وزوهر أرغوف سرقها منه!

-         ردّ يائسًا:

-         – آه، صحيح صحيح. سرقوا الأرضَ ثمّ سرقوا الموسيقى.. ده احنا قصّة حبِّنا ليها أكتر من بداية…

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>