ما بين سعاد ماسي، الأصمعي والخليفة أبو جعفر المنصور/ فايد بدارنة

ما بين سعاد ماسي، الأصمعي والخليفة أبو جعفر المنصور/ فايد بدارنة

يتميز عمل سعاد ماسي الجديد بالذهاب لاختيار نصوص تتسم باشتمالها على خطاب سياسي ثقافي، وحتى إن كانت هذه النصوص غزلية فهي تعكس واقعًا سياسيًا معينًا له علاقة وطيدة بمعاني الحرية والرأي.

Souad-Massi-06

| فايد بدارنة |

“المتكلمون” هو عنوان العمل الموسيقي الغنائي الجديد للفنانة الجزائرية سعاد ماسي، وقد لا نجد عنوانًا لهذا العمل الموسيقي ولهذه المرحلة الحرجة من تاريخ الحضارة العربية، أكثر تعبيرًا من عنوان “المتكلمون”.

لا شك أن الغالبية العظمى من المستمعين عادة ما ينتظرون جديد فنانهم المحبوب، لكنهم يميلون للجديد المألوف، جديد غير مجازف، لا يستفز أو يُنفِّر ذوقهم وآذانهم الموسيقية. فالتجارب الجديدة المجازفة تستغرق وقتًا لكي تتدفق لعروق المستمعين. وهذا العمل الذي نحن بصدده هو من نوعية الأعمال التي لم تراهن على الكم بل راهنت على المجازفة بالكيف والنوع.

يتميز عمل سعاد ماسي الجديد بالذهاب لاختيار نصوص تتسم باشتمالها على خطاب سياسي ثقافي، وحتى إن كانت هذه النصوص غزلية فهي تعكس واقعًا سياسيًا معينًا  له علاقة وطيدة بمعاني الحرية والرأي. وجزء من هذه القصائد هي لشعراء كتبوا تحت نير وبطش الحكام. وتنقل ماسي هذه القصائد بألحان موسيقية لم يعتد عليها الكثير من مستمعيها. فتراوحت بين الروح الموسيقية الشرقية والجاز الغربي وموسيقى إثنية أخرى مثل الريغي، وهذا التنوع بحد ذاته يشكّل انتقالًا وتجديدًا موسيقيًا ملفتًا، خصوصًا لمن اعتاد على چيتار سعاد ماسي  بكونه حرًا طليقًا متميزًا لكنه متفردًا ومهيمنًا في معظم أعمالها الموسيقية. وهذا اللقاء بين نوعية القصائد ونوعية الموسيقى يشكّل علامة هامة للمستمع، كونه يتيح فرصة لإدراك هذا المدى وهذا الكم من الاحتمالات والإمكانيات الموسيقية الكامنة في القصائد الكلاسيكية بشكل عام والقديمة منها بشكل خاص.

واكثر ما شدني للكتابة عن هذا الإنتاج الموسيقي الجديد هو استحضار الماضي البعيد من السردية التاريخية الشعرية إلى حاضرنا عن طريق الموسيقى. ويبرز في العمل حادثة انتصار الشاعر العباسي الكبير الأصمعي لحق جمهور الشعراء أمام هيمنة الطغمة السياسية الحاكمة التي أرادت أن تتحكم بمساحة الكلمة الحرة حتى وصل الحد بالخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بمصادرة حقوق الشعراء بنظم القصائد.

 في أغنية “البلبل”، عن قصيدة ” صوت صفير البلبل”، تقلب سهاد ماسي الطاولة على الجمود والرزانة المتطرفة في غناء قصائد كلاسيكيات الشعر العربي. “البلبل” هي القصيدة التي تحدى بها الشاعر العباسي الأصمعي الخليفة أبو جعفر المنصور الذي نهج مرة تلو المرة على إحباط الشعراء بان يُخفِّظ قصائدهم للغلمان والجواري، وحين يطلب من الشاعر إلقاء القصيدة يكون هو وغلامه وجاريته حافظين لكل كلماتها، فيدّعي الخليفة بأنها من نظمه هو نفسه ويصادر حق الشعراء بملكيتهم لقصائدهم. فجاء الأصمعي بهذه القصيدة المتحدية لتسلط أبو جعفر المنصور بالشعراء. وتتحدى بدورها سعاد ماسي من يمسك برتم القصيدة الكلاسيكية بدوغماتية متواصلة وتعرض رقصًا جنونيًا غنائيًا مشاكسًا كما أراد لها الأصمعي أن تكون. ومن بين أبيات هذه القصيدة الذكية المربكة والمتحايلة:

والعـــود دندن دنا لي *** والطبل طبطب طب لـي

طب طبطب طب طبطب *** طب طبطب طبطب طب لي

والسقف سق سق سق لي *** والرقص قد طاب لي

شـوى شـوى وشــــاهش *** على ورق ســـفرجلي

وغرد القمري يصـــــيح *** ملل فـــــــــــي مللي

ولــــــــــــو تراني راكبا *** علــــى حمار اهزلي

يمشي علــــــــــــى ثلاثة *** كمـــــشية العرنجلي

وكانت نتيجة جولة التحدي أمام الخليفة هو انتصار الأصمعي وانتزاعه وعدًا بألا تُسرق كلمة الشعراء من قبل الحاكم. وهنا توظف ماسي صوتها وموسيقاها بهذا الأداء من أجل حقنا بأن نتكلم ونعبّر دون مرجعية، فوقية وأفضلية لبلاط سياسي على كلام المبدعين. ويسجّل للأصمعي في هذه الحادثة أنه رفض هدية مال من الخليفة مقابل قصيدته هذه بادعاء بأن هذا المال هو مال عام وليس لشخص.

محاولة أخرى لتنصيب الشعراء والمبدعين، أصحاب الكلمة، في المقدمة رغم تراجع مكانتهم في هذا الزمن الرديء نجدها في حلّة جديدة متميزة لقصيدة أبو الطيب المتنبي “واحر قلباه ممن قلبه شبم”  المشهورة بـ ” الخيل والليل والبيداء تعرفني”، ومعروف عن المتنبي نزعته العروبية ومواقفه السياسية. هذا القالب الذي تقدمه ماسي يمكن الاجتهاد ذاتيًا وقراءته كخطاب مغاربي عربي يرفض التقسيم والنزعات الطائفية والجغرافية، حيث تقدّم هذه القصيدة بشكل غنائي جماعي لأصوات من المغرب العربي. قد يحتاج المستمع سماعها أكثر من مرة ليبدأ باكتشاف أبعاد هذا المزيج الموسيقي والتاريخي في محاكاة أزمة الهوية التي يعاني منها الكثير من الشباب العربي في مناطق مختلفة من المحيط إلى الخليج.

يمكن للمستمع أن يلحظ سطوع الهوية العربية وسط التعدد الثقافي الموسيقي للعمل من خلال امتداد آلة العود للكثير من مقطوعات العمل لتخلق جملة موسيقية هامة حول الأنا العربي السياسي، الفلسفي صاحب المساهمة الكبير في تاريخ الحضارات.

هذا الميل نحو إبراز المجد الإبداعي الشعري والموسيقي سنجده مرة أخرى في عودتنا لقصيدة “البلبل” للأصمعي، التي قد تبدو قصيدة خفيفة لطيفة عابرة مقارنة بقصيدة المتنبي. إلا أنها تحمل بين أبيات الغزل في بلاط الخليفة المنصور حضورًا قويًا وملفتًا لآلة العود “دن دن دن…” وللإيقاع “والطبل طب طب طب”. يسبقها إلى ذلك التشديد الطربي في أبيات أخرى من القصيدة :”الخود مالت طربًا… من فعل هذا الرجل.. فولولت وولولت ولى ولى يا ويل لى.. فقلت لا تولولى وبينى اللؤلؤ لى”. ويمكن قراءات أبعاد هذا الاختيار في هذا العمل أمام وحش التحريم الذي يجتاح مشرقنا ومغربنا.

“المتكلمون”، هو عمل جدير بالاستماع لما فيه من ربط بين التراث والحداثة وبين حرية الكلمة. “المتكلمون” الذين يغيب صوتهم في يومنا هذا تستحضرهم سعاد ماسي في تحديث نوعي من حيث الرتم الموسيقي، الجملة الموسيقية وفوضى مرتبة وجميلة لآلات وأساليب موسيقية متعددة. وهذا الجانب في التحديث المدروس بعناية يرفع راية المساحات الشاسعة المتاحة للتوغل المستحب في الفكر، الغناء والتلحين على عكس الكثير من أعمال الموسيقيين الذين دخلوا في مأزق التكرار. تلخص ماسي هذا التحديث، التوق للحرية والشغف الإنساني للعيش بكرامة برسالتها للظالم المستبد عدو الحياة في أغنية “حذاري”:

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>