غَرناطَة/ سهيل مطر

ننشر هنا نصوصًا من مجموعة ” شمال الأندلس، غرب الوطن” للكاتب الفلسطيني سهيل مطر، الحاصل مؤخرًا على جائزة عبد المحسن القطان للكاتب الشاب في حقل القصة القصيرة للعام 2012

غَرناطَة/ سهيل مطر

فرانسيس كوك، "غروب، غرناطة من فندق الهمبرا بالاس"

>

|سهيل مطر|

“…لنرَ إن كان يعمل الآن. أجل – ها هو”. سمع عايد الجزء الثاني من الجملة داخل محل الشّوارما الذي يعمل فيه في شارع ‘إلبيرا’، فالتفت واسترجع في ذهنه جزءها الأوّل الذي قيل في زحمة الشّارع المسائيّة. “أسّالامو ألاَيكُن، آيِد!”

“وعليكم السّلام. كيف حالك، يا طوني؟” أجاب بالعربيّة. كان أنتونيو، صديق عايد، شابًّا بشوشًا، يكثر من المزاح الذي يطغى عليه الطّابع الجنسي ويتعلّم العربيّة الفُصحى في أحد المراكز العديدة في غرناطة. كان عايد يحبُّه لطيبته ولأنّه كان همزة وصل عايد بكلّ ما يحدث في غرناطة على مستوى الحياة اللّيليّة. فكثيرًا ما كان يأتي مصحوبًا بفتاة أو أكثر – سائحات على وجه العموم – ليلقي على عايد التّحية في مكان عمله ويدعوه، قبل أن يغمزه، إلى الانضمام إليهم بعد انتهائه من العمل. لهذا السَّبب تفاجَأ عايد عندما رأى أنتونيو بصحبة شابٍّ نحيلٍ وقصير القامة بدا على وجهه الارتباك الواضح المُموّه بنصف ابتسامة، والذي حيّا عايد بإيماءة من رأسه وقوله “عوافي”.

“الامدو-لي-لاه”، أجاب أنتونيو بتلهّف، وتابع مشيرًا إلى الشّاب “آذا آدي!”

“هادي،” قال الشّاب لأنتونيو، متبسّمًا، ثُمَّ التفت إلى عايد وقال، مُبرّرًا: “أنا هادي، الشّاب هون قلّي إنّه في واحد صاحبه من غَزِّة، فجينا نسلِّم عليك.”

“أهلين فيك، أنا عايد”، أجابه عايد ضاحكًا وقال مخاطبًا صديقه: “وَلَك طوني،‘هادي’، هااااادي، مش ‘آدي’!”. ضحك الثّلاثة وتمتم أنتونيو شيئًا ما بالإسبانيّة مفاده أن يقوم عايد بوضع أحرفه العجيبة هذه حيث يدري. “صحاب إنتَ وطوني؟” سأل هادي فابتسم الأخير وأجاب: “لأ، والله. قبل شوي تعرّفت عليه بشي محل هُناك” وأشار إلى يمينه، فضحك عايد وقال “من وين، هادي؟”

“من حِيفا”، أجابه هادي وقد اختفت الابتسامة “بس إسّا بتعلّم بِمَدريد”. ابتسم عايد بمرارة: “أهلين، كِيف حَيفا؟”

“حيفا… منيحة، حلوة كثير. وبتستنّاكو…” أجابه بارتباك. أومأ عايد برأسه شاكرًا، فاستطرد هادي: “إنت قدّيش وقت صار لَك هون؟”

- “ست سنين إلي في أَسبانيا.”

- “آه… يعني قبل الحصار… وعيلتك؟ كمان هون؟”

- “لأ، عيلتي في غَزَّة.”

- “وكيف هُنِّ؟ كيف الوضع هناك؟” سأله هادي. كان يكثر من استخدام يديه عند الكلام، “صعب، أكيد..؟” استهلّ لفظ هذا السّؤال الأخير بصيغة الجزم، ولكنّه لطّفه بكلمة “أكيد” نحو صيغة الاستفهام. يا له من شاب غريب الأطوار، وجد عايد نفسه يفكّر، قبل أن يجيب بجفاف “الحمدُ لله”. كانت قد مرّت سنتان تقريبًا منذ أن توقّف عن قصدِ هذه العبارات – الحمد لله، إن شاء الله – بمعناها الحرفي.

فتح هادي فمه وكأنّه أراد أن يسأل شيئًا آخر، ولكنّه أطبقه ولزم الصّمت. تابع أنتونيو الحوار باهتمام وبابتسامة عريضة لم تفارق محيّاه. كان عايد يعلم أنّه لم يفهم الكثير ممّا قيل ولم يُقَل، حتّى وإن فهم الكلمات نفسها باللّغة العامية. بعد أن صمت الاثنان تكلّم أنتونيو مجدّدًا: “خَسنًا، ساوفا ناذابا… ناذابو؟ ناذابو ألان، وناراكَ لاخيكًا، ماشي، ابيبي؟”. عاد الآخران إلى الضّحك المقتضب. “يعطيك العافية، تشرّفنا!” قال هادي ومدّ يده نحو عايد الذي صافحه، قائلاً “فرصَة سعيدَة”.

*

كان لقاؤهما الثّاني بعد يومين، وكان قصيرًا. كان عايد واقفًا خارج محلّ الشّوارما وقد حلّ الظّلام على شارع ‘إلبيرا’. في تلك السّاعة، كان الشّارع يعجّ بالمارّة المرحى المتوافدين على الحانات المصطفّة على جهتي الطّريق الضّيق، ناشدين وُجَيبات الطّعام المجانية التي تُقدَّم مع كل كأسٍ من الجعة، والتي تتميّز فيها غرناطة عن غيرها من المدن الإيبيريّة. أخرج عايد من جيبه بعض التّبغ. لفّ سيجارة ودسّها بين شفتيه، لكنّه عندما حاول إشعالها اكتشف أنّ ولّاعته قد فرغت، فتنهّد.

فاجأه صوت يصيح باسمه “عايد!”. التفت حوله ليرى هادي، وحده، قادمًا نحوه. حدث مرارًا أن التقى بزوّارٍ فلسطينيّين في غرناطة، ولكن لم يحدث مسبقًا أن عاد والتقى بأحدهم. تصافحا وسأله هادي: “بتقدر تقلّي وين بتيجي ‘بلازا رومانيّا’؟” أعطاه عايد الإرشادات اللّازمة، “… وأوّل ما توصل ع المَكان بتشوف تمثال لزلمة وحمار حامل مَيَّة”. بعد أن شكره هادي، سأل: “حَتلتقي إنتَ وطوني؟”. أجابه هادي أنّه سيذهب للقاء أصدقاء تعرّف إليهم عن طريق أنتونيو، الذي قد ينضم لاحقًا. هكذا هي الحياة في غرناطة، فكّر عايد في نفسه: إن أردت، فقبل أن يمضي يومان على وصولك إلى المدينة تكون قد أسّست شبكة متشعّبة من الأصدقاء والمعارف. المشكلة تكمن في حتميّة زوال هذه الشّبكة بعد انقضاء وقت ما؛ فإنّ شحّ فرص العمل ووفود الكثير من الطّلبة الجامعيين إلى غرناطة تجعل المجموعة السّكانيّة هناك تتبدّل بسرعة غير مؤاتية لإنشاء علاقات طويلة الأمد.

“طيّب، شكرًا خيّا، يعطيك العافية”، قالها هادي باسمًا وبدأ يرحل. استوقفه عايد: “إسمع، هادي! معك وَلّاعة؟” وقام بالحركة المتعارف عليها بإبهامه. ابتسم هادي بطفوليّة وأجابه “لأ، أنا بدخّنش شيلي. فلتك من الدّخان، ياخي، أحسنلك. بقتل، هاد، بقتل!”، صاح نحوه مُمازحًا قبل أن ينسلّ بين الجموع. راقبه عايد وهو يختفي. ما الذي يعرفه هذا الصّبي عن القتل، تحديدًا؟

*

كانت أيّام الثّلاثاء أيّام عطلة بالنّسبة لعايد، وكان يقضي ساعاتها في السّير في شوارع المدينة، خاصّة في المدينة القديمة حيث يعرفه الكثيرون. كان لحي ‘البائسين’، الذي يقع على التّلّة خلف شارع ‘إلبيرا’، وقعه الخاص على عايد. كان يحبّ أن يجوب شوارعه المتشعّبة والمتداخلة كالمتاهة، وأزقّته المنحدرة والضّيقة والهادئة ببياضها النّاصع، حيث لم يكن غريبًا أن يرى عبارات مثل “تحيا فلسطين!” مرسومة على الجدران.

أمّا ساعات العصر فكانت تجده يتسلّق ذلك الطّريق الشّهير الذي يؤدي بالسّيّاح إلى أكثر معالم إسبانيا زيارةً. لم يكن عايد يحب أن يذهب إلى موقع قصر الحمراء، بالضّبط، لكونه مغناطيسًا لآلات التّصوير التي يحملها ذلك الطّوفان من الأيادي البشريّة، والتي كانت تحرم الأعين من الانبهار المباشر بتلك الزّخرفات الأنيقة ومتناهية الدّقّة: “لا غالب إلّا الله”. كان قد زار ‘الحمرا’ عدّة مرّات، بطبيعة الحال، ولكن ليس قبل مضي عام واحد على تواجده في المدينة. كانت ‘الحمرا’ فخمة وجميلة، بالتّأكيد، ولكنّ ذاكرته لم تستطع أن تمحوَ صورة آلاف السّيّاح، خاصّة اليابانيين…

لكنّ عايد لم يكن يذهب إلى قصر الحمراء كلّما تسلّق التّل أيّام الثّلاثاء، بل كان يقصد حديقة صغيرة تقع على جانب التّلة. يستطيع المرء أن يمضي يومًا شاقًّا بأكمله في تعقّب كلّ المواقع “الإلزاميّة!” على الخارطة التي تعطى لزائري القصر عند دخولهم. وتؤدّي درجة إشباع السّائح المتوسّط بالجماليّة وإشباع البطاقة الصّغيرة في آلة تصويره بالصّور الرّقمية إلى إهمال هذه الحديقة التي أُطلق عليها اسم ‘إل كارمن دِه لوس مارتيرِس’ أي ‘كرم الشُّهداء’. لم يكن عايد يعرف سبب تلك التّسمية أو تاريخ الحديقة، ولم يشأ أن يعلم. لقد كان لديه تفسيره الشّخصي. كان يشق طريقه نحو الكرم فيتفادى، بمهارة، النّساء الغجريات اللّاتي تحاولن إيقافه لمباركته والدّعوة له بالحبّ والحظّ والزّواج بواسطة مسح رسغه ببعض أعشاب إكليل الجبل، ويكمل طريقه حتّى يصل إلى الحديقة. كان الطّقس الأسبوعي الذي طوّره مع الزّمن يقضي بأن يسير في أنحاء الحديقة وينظر إلى التّماثيل ناقصة الرؤوس والأيدي قبل أن يعتلي الدرج اللّولبي الذي يحيط بالبرج الحجري الصّغير الواقع على ضفّة بركة كبيرة، فيجلس على سطحه، مسندًا ظهره إلى أحد الحجارة ويراقب مناظر المدينة الممتدّة أمامه.

كان، في ذلك الثلاثاء، يجلس في موقعه المعهود، شاردًا، حين سمع صوتًا يتمتم أغنية ما بالإنجليزيّة:

أتيتُ للُقياك، وسؤالٌ في خطايَ

وتسلّقتُ التّلّة برحلة فيها بداية

اقترب الصّوت شيئًا فشيئًا، مصحوبًا بصوت خطًى، حتّى وصل السّطح. كان ذلك هادي. جفل عندما رأى عايد ولكنه تدارك نفسه وحيّاه “أهلاً، عايد!”. ابتسم عايد وأومأ برأسه محيّيًا. تابع هادي، “شو بتعمل هون؟”

لم يكن عايد يرغب بالكلام، فهو لم ينبس من قبل بأيّة كلمة في ذلك الموقع. لم يقصد أيضًا عدم الإجابة، ولكن بعد مرور لحظات الصّمت الأولى، لم يكن من ذلك مفرٌّ، فعاد ينظر نحو الأفُق. رأى بطرف عينه هيئة هادي المرتبكة التي تقدّمت بصمت متعمّد وجلست في أحد أطراف السّطح، مقابل عايد.

بعد بضع دقائق من السّكون، علا صوت زقاء أحد طواويس الحديقة، فجأة. “شو هادا؟!” قفز هادي من مكانه مذعورًا. قهقه عايد وهدّأه بإشارة من يده وقال، بعد لحظة: “هاظا طاووس، طاووس”. “نقَّزني العرص!” أجابه هادي وعاد إلى الجلوس. بعد لحظتي صمتٍ، سأله عايد: “إيش جايبك هان، يا هادي؟” تردّد هادي قليلًا قبل أن يجيبه.

- “جيت عشان غنّاي؛ في غُنّاي بحبها، لمغنّية أُسْمها ‘سوزان ﭬـيـغـا’، بتحكي فيها عن هاد المَحَل”. احمرّ وجه هادي وصمت. سأله عايد:

- “وكنت بالحَمرا هَلقيت؟”

- “كنت، بس مش إسّا. رحت قبل يومين.”

- “وإيش رايك فيها؟ حلوَة، صح؟”

- “أكيد حلوِة. بس السّيّاح، يا زلمة… مش عارف…”، مطّ هادي شفتيه. أومأ عايد برأسه موافقًا.

لزما الصّمت مجدّدًا لبضع دقائق أخرى. قطعت حبله هذه المرّة حمحمة صدرت عن هادي. نظر عايد نحوه متسائلًا. تردّد هادي، ثمّ قال: “فْطِنِت بجُملة سْمِعتها وأنا بالحمرا. كنت واقف على واحد من هدول البراج، وكان في جنبي عيلة سبنيوليّة. كان معهن بنت – صغيرة – بدها تقعد عالسّور وتطل من فوق لتحت. فقالتلها إمها: ‘إسّا بتُقعي يا سيلفيا، وبيبَطّل في سيلفيا! بيضَل في بس عِجِّةْ سيلفيا!’”. حمحم هادي مجدّدًا وابتسم بخجلٍ. ردّ عايد بابتسامة، لا أكثر. هذا الشّاب فعلًا غريب بامتياز! الأمور التي يتفوّه بها… هنا! لكن هادي، وقد شجّعته ابتسامة عايد، أضاف: “إحنا… مننسى إنّه – مرّات – الواحد ممكن يموت موتة طبيعيّة أو… أو موتة بتضحّك، صح؟”

رغمًا عنه، فاضت كل القنوات المؤدّية إلى عيني عايد بالدّموع. حاول أن يتمالك نفسه. حاول، أي أمر وجهه بألّا يلتوي كما التوى، ونهر حنجرته لِئلّا تطلق حشرجة كالتي أطلقتها. وحدها يده انصاعت وغطّت سحنته بينما أخذ ينتحب. علا زقاء طاووسٍ آخر.

عندما هدأ بعض الشّيء، مسح عايد دموعه براحته ونظر أمامه. بطرف عينه رأى أنّ هادي كان قد تقدّم نحوه بهدوء وقرفص بجانبه. لم يقل هادي شيئًا حتّى انتظم تنفّس عايد مجدّدًا. “عايد، شو في؟ شو مالَك؟”

- “ولا حاجَة”، قال في البداية. لم يحرّك هادي ساكنًا. ظلّ عايد يشعر بعينيه تنظران إليه بثبات. “أخويا استشهد قبل سنتين – بالعدوان –” لم يدرِ لِمَ بدرت عنه، فجأة، ولكنّه شعر، للحظة، بأنّها لا تكفي، فأردف: “أسمه عصام. كان أسمه عصام”. زفر بقوّةٍ شعر معها بأنّ غيمة شفّافة انقشعت من حوله. أحسّ بيدٍ صغيرة تمسك بكتفه بثبات وتربّت مرّة، مرّتين. التفت إلى هادي. بدا وجهه شجبًا وبرتقاليًا في ساعة الغروب تلك، تشوبه بعض ظلال استفهام وقلق.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. جميل، هناك سحر وعطر في ثنايا الكلمات

    بالتوفيق يا سهيل

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>