نعي فيسوافا شيمبورسكا: سخرية الشعر الدقيقة

جريدة “غارديان” البريطانية تودع صاحبة نوبل بنصّ معلوماتيّ ومُضيء ● قصائد مترجمة من شعرها وضعها هاتف الجنابي

نعي فيسوافا شيمبورسكا: سخرية الشعر الدقيقة

فيسوافا شيمبورسك عام 2009، من خلال أشعارها الساخرة وصفت قضايا جدية وأوضاع حرجة. تصوير Janek Skarzynski/AFP/Getty

|جورج غوموري، “غارديان”|

|ترجمة: ميساء شقير، خاص بـ “قديتا”|

عندما استلمت الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا جائزة نوبل للآداب عام 1996 (توفيت عن عمر يناهز 88؛ ولدت في 2 تموز 1923 وتوفيت في 1 شباط 2012)، قامت الأكاديمية السويدية باقتباس التالي: “من خلال السّخرية الدقيقة لشعرها، سمحت للسياق التاريخي والبيولوجي بالبزوغ إلى الضوء، في ظلّ تشرذم الواقع الإنسانيّ”. يلخص هذا الاقتباس بدقة أعمال شاعرة عاشت حياتها خلال القرن العشرين من تاريخ بولندا، حيث سمح لها استقلالها بالابتعاد عن الأجواء المتوترة للحياة السياسية اليومية في بولندا.

ولدت شيمبورسك في كورنيك غرب بولندا. عندما كانت في الثامنة انتقلت مع عائلتها إلى كراكوف والتحقت هناك بالمدرسة ثم بجامعة جاجيلونيان، حيث درست علم الاجتماع والأدب البولندي. بداياتها الشعرية كانت في عام 1945 عندما نشرت في جريدة كراكوف “Dziennik Polski “. نُشرت مجموعتها الأولى عام 1952، وتبعتها مجموعة أخرى عام 1954، واعتبرت تلك الأعمال ذات أسلوب واقعيّ اشتراكي، ولا تشبه إعمالها اللاحقة، ولكن حملت هذه الأعمال مؤشرات لبعض الأفكار التي تطوّرت لاحقا في عملها Wołanie Do Yeti والتي صدرت عام 1957.

يمثل عام 1956 عام انتقال فيسوافا شيمبورسك من آمال وتوقعات الإشتراكية المبكرة، ويمكن رصد خيبة أملها تلك من خلال سخريتها الوحشية في قصيدة “جنازة” التي كتبتها بعد إعادة دفن الشيوعي الهنغاري لازلوك راجك László Rajk، الذي كان قد أعدم قبل 7 سنوات بتهمة الإنتماء إلى Titoism (تنظيم بديل للماركسية اللينينية  عام 1948 في يوغسلافيا، ينسب إلى مؤسسه Josip Broz Tito)، لكنها بقيت عضوًا في الحزب الشيوعي لعشر سنوات بعد ذلك، لتدير ظهرها للحزب عام 1966 حين شاركت في مظاهرة احتجاجية ضدّ الإجراء العقابي ضد الفيلسوف ليسزيك كولاكوفسكي، الذي كان انتقد النظام علانية.

في أعمالها الشعرية التالية المعنونة “ملح، 1962″ تظهر شيمبورسكا قدرتها الاستثنائية على الدّمج ما بين ما هو تاريخيّ وشخصيّ، إذ تعبر عن ذلك بنضارة ومقاطع شعرية خالية من السخرية في أحيان أخرى. ما بين 1953 و1981 قامت شيمبورسكا بتحرير مجلة كاركاوف الثقافية ” Zycie Literackie” (الحياة الأدبية) حيث قامت بنشر عمود خاص بالنقد الأدبيّ وبعض المقالات، بالإضافة إلى أعمالها الشعرية.

بقيت شيمبورسك متدارية عن الأنظار خلال فترة التضامن في بداية الثمانينيات والسنوات اللاحقة من فترة الأحكام العرفية، حيث ظهرت أعمالها الشعرية ” Ludzie Na Moscie” (ناس على  الجسر) عام 1986. في هذا العمل، يظهر جوهر شيمبورسكا من خلال السطور التالية:

معجزة (ماذا يمكن أن نسميها غير ذلك)

اليوم، تمام الثالثة والربع صباحًا، أشرقت الشمس

وستغيب بعد الثامنة بدقيقة واحدة

معجزة أضعناها:

حقيقة، اليد تحوي أقل من ستّ أصابع،

ولكنها أكثر من أربعة

معجزة، أنظر حولك

الأرض التي لا مناص منها

معجزة أخرى، أخرى وعادية:

اللاممكن، ممكن

تعتبر شيمبورسك  شاعرة ومفكرة “تتناول قضايا العالم من خلال الشعر” حسب رأي الناقد Jerzy Jarzebski لكنها تتميز أيضًا بأسلوب واضح للقارئ العادي. تتميز أعمالها بأوصاف ساخرة لأوضاع جدية وحرجة. ويضيف الناقد Jerzy Jarzebski: “أحبّ بشكل خاص قصيدة “قطة في شقة فارغة”، حيث تعبّر عن وجهة نظر قطة مستاءة تركها أصحابها وحدها ولم يعودوا، حيث تبدأ القصيدة بـ:

مت، لا يمكن أن تفعل هذا بقطة…

عندما إلتقيت شيمبورسك  في كواركوف قبل سنوات عديدة، كانت تحمل قطة في حضنها، لا زلت أحتفظ بصورة لها مع القطة.

حصلت شيمبورسك على العديد من الجوائز، منها جائزة Kallenbach من مؤسسة Koscielski عام 1990، وجائزة  Goethe عام 1991. عندما حصلت على جائزة نوبل للآداب، أعلنت أنها ستمنح الجائزة لمشاريع اجتماعية، وأضافت بأنّ الشاعرين البولنديين Zbigniew Herbert و Tadeusz Rózewicz, يستحقان هذه الجائزة أيضًا. وحصلت في العام الماضي على وسام النسر الأبيض والذي يعتبر من أرفع الأوسمة الرسمية في بولندا. تمت ترجمت العديد من أعمال شيمبورسك إلى لغات عدة منها الإنجليزية والعربية، من ضمنها أعمالها المختارة المعنونة “مع حبة رمل” الصادرة عام 1995.

تزوجت شيمبورسك  من الشاعر آدم فلودك ولكن زواجهما لم يدم إذا تطلقا، لكنها عاشت بعد ذلك مع شريكها كورنيل فيلبيوفتش، الذي  مات عام 1990.

.

قصائد مختارة / فيسوافا شيمبورسكا

|ترجمة: هاتف الجنابي|

.

السماء          

من هنا كان ينبغي البدء: من السماء

نافذة بلا عتبة، بلا إطار، بلا زجاج.

فتحة ولا شيء سواها،

غير أنها مشرعة على اتساعها.

.

لستُ مضطرةً لأنْ أنتظر ليلة رائقة،

ولا أنْ أمدّ رأسي إلى أعلى

كي أُبصِرَ السماء.

السماء خلف ظهري، تحت يديّ وفوق الجفون.

السماء تلفّني بإحكام

وترفعني من الأسفل.

.

حتى أعلى الجبال

هي ليست أقرب إلى السماء

من الوديان السحيقة.

ليست هي في مكان أكثر

منها في آخر.

الغيمةُ على حدّ سواء بلا رحمة

مطوحّة كقبر في السماء.

الخُلد على حدّ سواء مرفوع

مثل بومة متمايلة بجناحيها.

الشيء الذي يسقط في الهاوية،

يسقط من السماء إلى السماء.

مذرورة، سيّالة، صخرية،

مضطرمة ومتطايرة

رُقَعُ السماء، دقائقُ السماء،

نفثاتُ السماء، وكِدَسُها.

السماءُ كليةُ الحضور

حتى في العتمة تحت الجلد.

.

آكلُ سماءً، أُفْرغُ  سماء.

أنا شرَكٌ في شرك،

ساكنٌ مسكون،

احتضانٌ محضون،

سؤالٌ في جواب على سؤال.

.

القسمةُ على أرض وسماء

ليست طريقة مناسبة

للتفكير بهذا الكل.

هي تسمح لي أنْ أعيشَ وحسب

بعنوان أكثر دقة،

أسرعَ على العثور عليه،

فيما لو كنتُ مطلوبة.

علاماتي الفارقة

الجذلُ  واليأس.

(من ديوان “النهاية والبداية”(1993).)


لا شيء يحدث مرتين

لا شيء يحدث مرتين

ولن يحدث. لهذا السبب

ولدنا بدون مهارة

وسنموت بدون ممارسة.

.

حتى لو كنا التلاميذ

الأكثر بلادة في مدرسة العالم,

فلنْ نُعيدَ درسَ

أيّ شتاء، ولا أيّ صيف.

.

ما من يوم سيُكرّر نفسَه

لا توجد ليلتان متماثلتان

ولا قبلتان متساويتان

ولا نظرتان في الأعين متطابقتان.

.

أمس، حينما اسمك

ردّده أحدٌ على مسمعي

شعرتُ كما لو أنّ وردة

قُذفتْ في غرفتي من نافذة مشرعة.

.

اليومَ ونحن معًا,

أدرتُ وجهي للحائط.

الوردةُ ؟ كيف تبدو الوردة ؟

هل هي زهر؟ أو ربما حجر؟

.

لماذا أنت أيتها الساعة السيئة

تضطربين بحذر لا داعيَ له؟

أنت موجودة- إذن ينبغي أن تنقضي.

ستنقضين- وهذا شيء جميل.

.

مبتسمين, نصف متعانقين

نحاول البحث عن الوئام,

رغم كوننا مختلفين عن بعضنا

كقطرتين من الماء الزلال.

علانية

هذانِ نحن، عاشقان عاريان

جميلان لأنفسنا -وهذا كثير-

بأوراق الأجفان مُتدثران

مستلقيان في عمق الليل.

.

لكنها تعرفنا بلى تعرفنا

هذه الزوايا الأربع والمدفئةُ الخامسة،

الظلانِ المفترضان الجالسانِ على الكرسيين،

والمنضدةُ التي تستغرق في صمتها ذي المغزى.

.

ويعرف القدحان لماذا بقايا

الشايِ تبرد في القاع

أما السّقفُ فلا رجاء له

إذْ لا أحد الليلةَ يقرأه.

.

والطيورُ؟ لا تُعَوّلْ أبدا على الأوهام:

أمسِ رأيتُ كيف كانتْ فوق السماء

تخطُّ بوقاحةٍ ووضوح

هذا الاسمَ الذي أُناديك به.

.

والأشجارُ؟ قلْ لي ماذا يعني

همسُها الذي لا يكلّ؟

تقول: ربما الريحُ بمعرفتها تمنّ

وإلا فمنْ أين لها أنْ تعرف الريحُ عنا؟

.

دخلتْ فراشةٌ ليليةٌ عبر النافذة

وراحتْ ذهابا وإياباً

بجناحيها الأزغبينِ تحلّقُ 

تحفّ بعزمٍ فوقنا

.

ربما ترى هي أكثرَ منّا

بحدّةِ النظر الحشريّ؟

أنا لم أحِسَّ أنك خمّنتَ،

أنّ قلبينا ينيران في الظلام.

(من ديوان”نداء ييتي”(1957))

الغياب

كان ينقص القليل

كي تتزوج أمي

السيد زبيغنيف باء من منطقة (زْدونْسْكا فولا).

لو كانت لهما بنتٌ– لما كنتُ أنا هي.

ربما ستكون لها ذاكرة أفضل على تذكر الأسماء والوجوه،

وكل لحن تسمعه مرة واحدة.

ستميز كل طائر بدقة.

ستكون لها درجات عالية في الفيزياء والكيمياء،

غير أنها ستكون أسوأ في اللغة البولندية،

لكنها ستكتب سرًا قصائد أكثر

متعة من قصائدي.

.

كان ينقص القليل

كي يتزوج أبي في الوقت ذاته

الآنسة يادفيغا راء من مدينة (زاكوبانه).

لو كانت لهما بنت– لما كنتُ أنا هي.

ربما تكون أكثر مني إصرارًا على رأيها.

ستقفز بدون خوف للماء العميق.

وأكثر مرونة للتأثر بالمشاعر الجماعية.

وتُرَى بلا انقطاع في آنٍ واحد في أماكن عدة،

نادرًا أمام كتاب، غالبا في السّاحة،

حيث تركل الكرة مع الأولاد.

.

ربما ستلتقيان معا

في نفس المدرسة ونفس الصف.

لكنهما لن تكونا زميلتين،

لن تكونا قريبتين،

وفي الصورة الجماعية ستكونان مفترقتين.

.

يا بنات، قِفْنَ هنا،

-ينادي المصور-

القصيرات في الأمام، وخلفهن الطويلات.

ابتَسِمْنَ جيدًا، عند الإشارة.

لكن تأكدنَ مرة أخرى،

هل الكل حاضرات؟

.

نعم، أيها السيد، كلنا.  

•                                                         

ألف باء

لن أعرف أبدا،

بماذا كان يفكر حولي ألف.

وهل باء سامحتني للنهاية.

لماذا تاء تظاهر بأنّ كل شيء على ما يرام.

وماذا كان دور ثاء في صمت جيم.

ماذا كان يتوقع حاء، إن كان يتوقع.

لماذا تظاهرت خاء، رغم أنها عرفتْ جيدا.

ماذا كان يخفي دال.

ماذا أرادتْ ذال أن تضيف.

هل حقيقة كوني كنتُ بالقرب،

كان له أيّ معنى

بالنسبة لراء، وزاي وبقية الألف باء. 

منظور

تقابلا في الطريق مثل غريبين،

دون إشارة أو كلمة،

هي في طريقها للحانوت،

وهو إلى السيارة.

.

ربما بفزع،

أو ذهول،

أو نسيان،

هما وبوقت قصير

قد أحبّ بعضهما الآخر حتى النهاية.

.

لا شيء يضمن،

أنهما قد كانا هما.

نعم، ربما من بعيد،

لا من قريب أبدا.

.

رأيتهما من النافذة،

مَنْ ينظر من الأعلى،

من السهل أنْ يخطئ.

.

هي غابت وراء الأبواب الزجاجية،

وهو جلس وراء المقود

وانطلق بسرعة.

يعني لم يحدث شيء

حتى لو أنه قد حدث.

وأنا متأكدة مما رأيتُ

عبر لحظة فقط،

أحاول الآن في قصيدة عرضية

أن أقنعكم، أيها القراء،

بأنّ ذلك كان حزينا.

بعد غدٍ – بدوننا

يتوقع أن يكون الصباح باردا وضبابيا.

تأخذ السحب الممطرة بالتجمع

من الغرب.

ستكون الرؤية ضعيفة.

والطرقات زلقة.

.

تدريجيا سيكون ثمة صحو محليّ

أثناء النهار،

تحت تأثير الضغط العالي من الشمال

لكنه لدى هبوب رياح شديدة متغيرة في عصفها

قد تقع العواصف.

.

ليلا

سيعم الصحو كلّ البلاد تقريبا،

فقط في الجنوب الشرقي

لا يستبعد سقوط المطر.

.

ستنخفض الحرارة إلى حدٍّ ما

لكن الضغط سيرتفع.

.

من المتوقع أن يكون

اليوم التالي مشمسًا،

لكنّ المظلة ستكون

مفيدة لمن سيبقون على قيد الحياة.

دماثة العميان

يقرأ الشاعر قصائده للعميان.

لم يكن يتوقع أن يكون ذلك صعبًا إلى هذا الحد.

يهتز صوته

ترتعشُ يداه.

.

يشعر أنّ كلّ جملة

ها هنا تمر بامتحان العتمة.

وعليها أن تعتمد على نفسها،

بلا أضواء بلا ألوان.

.

مغامرة خطرة

للنجوم في شعره،

للفجر، لقوس قزح، للغيوم، للنِّيوناتِ، للقمر،

للسمكة التي ما تزال حتى اللحظة فضية تحت الماء

وللصقر المحلق بلا ضجيج، عاليا في السماء

.

هو يقرأ –لأنّ الوقت قد فات على عدم قراءته-

حول غلام بقمصلةٍ صفراء في مرج أخضر،

حول سطوح حمراء يمكن عدّها في الوادي،

حول أرقام متحرّكة على قمصان اللاعبين،

وعارية غريبة في فتحة الباب.

.

أراد أن يتجاهل -رغم أن هذا غير ممكن-

 كل القديسين في سقف الكاتدرائية،

وإشارة الوداع من نافذة القطار،

وعدسة الميكروسكوب والإشعاع في الخاتم

والشاشات والمرايا وألبومَ الوجوه.

.

لكنّ دماثة العميان كبيرة،

كبيرٌ تفهّمهم، ورحابة صدرهم.

هم يصغون، يضحكون ويصفقون.

.

حتى أنّ أحدهم يدنو

بكتاب مفتوح بالمقلوب

ليطلبَ توقيعا لا مرئيا بالنسبة له.

تمثال إغريقي

بمساعدة الناس وعناصر الطبيعة الأخرى

لم يكن عمل الزمن به سيئا.

في البدء أفقده الأنف، وبعده الجهاز التناسلي،

وفيما بعد الأصابع لدى اليدين وثمة القدمين،

وبمرور السنوات الكتفين، الواحدة تلو الأخرى،

الفخذ اليمنى والفخذَ اليسرى،

الظهرَ والوركين، الرأسَ والرّدفين،

وهذا الذي قد سقط، جزّأه الزمان على أجزاء،

على حطام، على حصباء، على رمل. 

.

حينما يموت الحيّ بهذه الطريقة،

يتدفق كثير من دمه لدى كل طعنة.

.

بينما تموت التماثيل المرمرية بيضاءَ

وليس دائما حتى النهاية.

.

بقي الجذعُ من هذا الذي حوله الكلام،

والنفَسُ كما لو أنه احتبس أثناء جهد،

لأنّ عليه الآن

أن يجلب

لنفسه

كل  فتنةِ وانتباهةِ

البقية المفتقدة.

.

وهذا ما يتحقق له،

هذا يتحقق له أكثر،

يتحقق ويُبهر،

يُبْهر ويدوم-

الزمن يستحق الثناء أيضًا،

لأنه توقف في صنيعه

وأجّلَ شيئا ما لوقت لاحق.

مونولوج كلب عالق بالتاريخ

ثمة كلاب وكلاب. أنا كنتُ كلبا مصطفى.

كانت لديّ أوراق صالحة وفي عروقي دم ذئبيّ.

سكنتُ على مرتفع، كنتُ أتنفس روائح المناظر

المطلة على المرج في الشمس، على الصنوبر بعد المطر

والتربة من تحت الثلج.

.

كان لديّ بيت معتبر وناس في خدمتي

كنتُ مغذى، مُحَمّما، ومُمَشّطا،

يُخرجونني لنزهات جميلة.

لكن باحترام، وبدون كلفةٍ.

كل واحد كان يتذكر جيدا، كلبَ مَنْ أنا.

.

كلّ هجين وغد بإمكانه امتلاكَ صاحب.

لكنْ حذار– من التجاسر على المقارنات.

فسيدي كان فريدا من نوعه.

كان لديه قطيع ضخم يمشي خلفه متتبعا خطاه

مُغرما به بإعجاب حذر.

.

كلها بالنسبة لي كانت مسخرات

بحسدٍ مُبَطّنٍ على نحو رديء.

لأنني أنا فقط من كان له الحق

في استقباله بقفزات هوائية،

أنا فقط  مَنْ يُودّعه– ويجرجره بعضّاتٍ من سرواله.

كان يُسْمَحُ لي فقط

ورأسي على ركبتيه

أن أبلغ ملاطفته وجرّ الأذن.

أنا فقط مَنْ كان يُمكنه التظاهر بالنوم جنبه،

وحينئذ كان ينحني ويهمس لي بشيء ما.

طالما كان يغضب وبصوتٍ عالٍ على الآخرين.

كان يزمجر، يصيح بهم،

يروح ويجيء من الحائط  للحائط،

أعتقد أنه كان يحبني فقط

ولا أكثر من ذلك بتاتا، لا أحد.

.

كانت عليّ واجبات أيضا: الانتظار والثقة.

لأنه كان يظهر لفترة وجيزة ثم يختفي بعدها طويلا.

ما الذي كان يستوقفه هناك، في الأودية، لا أدري.

مع ذلك خمّنتُ، أنها قضايا ملحة،

على الأقل مُلحة كالمعركة

مع القطط بالنسبة لي

وكل ما يتحرك بلا داعٍ.

.

هناك حظ وحظ. حظي تبدل فجأة.

حلّ ربيع ما،

ولم يكن هو قربي.

نشبَ في البيت اهتياج غريب.

أقفاص، حقائب، وصناديق حُشرتْ في السّيارات،

تحرّكتِ العجلاتُ وهي تصِرّ نحو الأسفل

وصمتتْ وراء المنعطف.

.

احترق عفشٌ ما على الطارمة، خِرَقٌ،

وبُلوزاتٌ صفراءُ، أشرطة بعلامات سوداء

وكثير، كثير جدا من علب الكارتون الممزقة،

حيث تساقطت منها اللافتات.

.

حلمتُ في خضمّ هذه الفوضى

منذهلا أكثر منه مستاء  

أحسستُ بنظرات غير ودّية على وبري،

كما لو كنتُ كلبا سائبا،

شريدا مزعجا،

يُطرَدُ من على السلالم بالمكنسة.

.

ثمة مَنْ فسخ طوقي المرصّعَ بالفضة.

ثمة من ركل صحني الفارغَ منذ عدة أيام.

وبعدها، آخرُ واحد، قبل أن ينطلق في طريقه،

أخْرَجَ رأسَه من المركبة

ورَماني بطلقتين.

 

حتى إنه لم يعرف كيف يصيب، كما ينبغي،

لأنني متّ ببطء وألم

وسط طنين الذباب الوقح.

أنا كلبُ صاحبي.

(من ديوان” نقطتان”، دار نشر ألف 5، كراكوف 2005،)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>