تحيّة طيف قوْس قَزَح/ وئام مختار

تحيّة طيف قوْس قَزَح/ وئام مختار

تحيّة هي ما نريد أن نكونه دائماً، ما نسعى إليه نحن النساء في الحيَاة، موهبة جبّارة وذكاء لا يُحد، ترقص بفن وتمكُّن في أي مساحة، ولو متر مربّع واحد.

Taheya Karioka

|وئام مختار|

مصر 

تحيّة كاريوكا طبعاً، ومن غيرها يُمكنه أن يحوِي كُل الألوان؟ خبيرة الحياة كما أحّب أن أسمّيها، ثمانون عاماً من “التجربة”، تدفعُها هشاشة الأولى إلى رَحِم الثانية، ويدفعها الفَنْ إلى الثقَافة، وتدفعُها الثقافة إلى السياسة، ويدفعها الكُل إلى الحُب، لتُجرّب حظّها مع الرجال 14 مرّة تقريباً في زيجات رسميّة.

weam

وئام مختار

عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 وجاءت بجمال عبد الناصر، قالت تحيّة بجُرأة سنعهدها فيها بعد ذلك: “ذهب فاروق وهايِجي بعدُه فواريق”، ودفعت ثمنها مائة يوم حبس في سجن الاستئناف بعد أن اتهمت مع زوجها مصطفى كمال صدقي بالانخراط في تنظيم سياسي يساري معادٍ للثورة. كانت راقصة معروفة وقتها بالفعل، تربّت على أيدي أسطوات، بعد انضمامها إلى فرقة كازينو بديعة مصابني في عشرينيّات القرن الماضي، تعلمّت تحيّة رقصة الكلاكيت من الفنان روجيه، والرقص الشّرْقيّ من الراقصة المصرية حُورية محمد، والصاجات من نوسة والدة الراقصة نبوية مصطفى.

لم يمنعها هذا، من حركة “حقوقيّة” صغيرة داخل السجن، مطالبةً بمعاملة أفضل للسجينات ومنع تعذيبهن، وحاثّة إيّاهن على الإضراب والمطالبة بطعام وظروف حبس أفضَل.

قبلها بعدّة أعوام، رفضت أن ترقُص تحيّة أمام “أتاتورك” لأنه أهان السفير المصري أمامها. وفي إحدَى المرات جلس أحد الأشخاص على طاولته في “كازينو بديعة”، وبهره رقصها حتّى أراد جزءاً منها، وتطاوَل عليها، فصفعته! وعندما نهرها الأصدقاء قائلين: “هذا أمير من الأسرة الملكيّة”، ردّت تحيّة بتحدّ وبساطة: “وأنا رقّاصة من الأسرة الراقصِة”.

 هذا التحدّي والقوّة، لم يكن اعتباطياً أبداً، كان معجونًا بذكائها الأصيل. ولها قصّة مع مهرجان”كان” السينمائي الدولي سنة 1956، فعندما وصلت إلى هناك مع فيلمها العظيم “شباب امرأة” إخراج صلاح أبو سيف لنفس العام، لاحظت تجاهل وسائل الإعلام للوفد المصري، واهتمامهم بالوفد الإسرائيلي المُبالغ فيه، ففكّرت وصعدت إلى غرفتها، ارتدت “الملاية اللّف” والمنديل “أبو أويَة”، ليترَك الجميع كُل شيء وتهرع الكاميرات إليها، وتتسابَق عليها الميكروفونات، بحركة بسيطة وذكيّة، أعطت الإعلام القصّة التي يُريدها.

وإن كانت تحيّة طاقة مُتجدّدة دائماً، وأرواح عديدة في جسد واحد، فإنها فرضت “رقصَها” حتّى قال عنها محمد عبد الوهاب أنها “ظاهرة وطنيّة”، وأنّها كانت تستطيع أن تُعطيك كل ما عندها من فنّ وحركة بكُل جسمها في مساحة لا تزيد على متر مربع واحد، لا تحتاج إلى جري حول المكان “رايحة جايّة” لتُبهرك أبدًا.

كثيرون منّا يقيسون النساء والموهبة إلى “السِّت” أم كلثوم، لكّن كان لتحيّة معها معاملة خاصّة، التقِت السيّدتان لأوّل مرة في زفاف الملك فاروق. ثم بمُناسبة حصول النادي الأهلي على بطُولة الدوري العام في كُرة القدَم، وهما المرتّان الوحيدتان تقريباً اللتان وافقت فيهما السِّت على الغناء أمام راقصة، وصفّق الجمهور مرّتين، مرّة لصُوت السِّت ومرة لرقص تحيّة، لدرجة أن أم كلثوم قالت لها: “تحيّة.. أنتي بتغنّي بوسطِك”.

تحيّة هي ما نريد أن نكونه دائماً، ما نسعى إليه نحن النساء في الحيَاة، موهبة جبّارة وذكاء لا يُحد، ترقص بفن وتمكُّن في أي مساحة، ولو متر مربّع واحد، وتنطلق في دوائر على المسرح الواسع أيضاً، بحركتها المُميّزة التي تبدأ بهزّة البطن ورفع الأذرع لأعلى، إسقاط الوشاح، ثم الحركة بحريّة أكثر، الساق اليُمنى للأمام بنغَم شرقِي قديم، ثم تنساب في دائرة صوفيّة لا نهائيّة، ببُطء أغلَب الوقت، في حركات متصلّة تأخذ في الهدوء حتى النقطة قبل الأخيرَة، ثم تُولد من جَديد، إحساس مُتفرِّد بالموسيقى والإيقاع، التقطهُ “محمود كفاءة”، أشهر “ضابِط إيقاع” في شارع “محمد علي” وقال عنها: “وِدنها مليَانة طبْلة”، لأن الرقص الشرقيّ هو ذلك الفن الذي يجمع بين نوعين من الإيقاع: المسمُوع والمرئي عبر “نبْض الجسَد” وضربات القَلب وإيقاع “الرِق والطبْلة.”

تحيّة هيَ الانسجام التام مع الموسيقَى، والانغماس المُتناهِي في حركَات الجسد، هيَ التفاعُل مع الجمهور في الصالة أيضاً، والسيطرة على المزاج فيها، فَن تقديم ما تريدُه هيَ وتحويلُه إلى ما يُريده الجميع، حركاتها المُتأنيّة الواثِقة، هي موازَنة دقيقة بين ارتجالها مع الموسيقى كما يتراءى لها، وما يطلبه روّاد الصالة. رقصَة واحِدة من تحيّة يُكتب فيها أوراق ومقالات، كما يُكتب عن حياتها ومواقفِها وحُبّها وثقافتها أيضاً، فلم يعد الأمر بعدها حركات جسديّة مُثيرة وفقط، لقد أعطَت تحيّة “لهز البَطْن” التعقِيد الذي يستحقَّه.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>