العودة إلى الحذاء، التعويل على الحفاء/ إسماعيل ناشف

قراءة في “سيمفونية الولد الحافي-ما يْكون” ■ الفعل الإبداعي هنا يتناول المأساة الإنسانية الأولى، تلك التركيبة الاجتماعية التي تسلب إمكانية العيش للفرد وتردُّه إلى أسفله. والسّؤال هل هذا من طبيعة التركيب الاجتماعي بما هو كذلك؟ أم أنه محصور على نوع محدد منها؟

العودة إلى الحذاء، التعويل على الحفاء/ إسماعيل ناشف

"حذاء"، فينسنت فان غوخ، زيت على قماش، 1888

.

|إسماعيل ناشف|

إسماعيل ناشف

سأبدأ من النهاية؛

طه محمد علي يكتب من بنية/طينة إبداعية استعمالية. تتميز نصوصه الأدبية، الشعرية كما النثرية إن أمكن هذا التمييز أصلاً، بكونها غير قابلة للتبادل البضائعيّ؛ فالتجربة التي يمر فيها المتلقي هي مجموعة من التحويرات على رحلة عودة إلى فضاء حسيّ-ذهنيّ ثريّ ومكثف، من الممكن تسميته “حدثًا”. جمالية النصّ/الحدث تتولد من حيث كونها بنية تعبير عما هو استعمالي، لا تحمل سوى تعبيريتها كحركة في الاستعمال. من هنا، فإنّ السؤال القابع جمالياً في ثنايا النص/الحدث هو حركة توليد/تحوير على ما هو حسّيّ-ذهنيّ. بهذا فمن الممكن القول إن نص طه محمد علي أنسن مداخلة لوسيان جولدمان حول كون الشخصية الرئيسية الروائية مسارَ خروج من التبادلية البضائعية باتجاه استعمالية القيم الانسانية، حيث أنّ الألف باء الإنساني هو الحس-الذهن. والتحدي الذي نحن بصدده هو النص بما هو تحقق للعودة وتقويض للتبادلية.

سأعود إلى البداية؛

“سيمفونية الولد الحافي-ما يْكون” قصة قصيرة نشرت في مجموعة قصصية تحمل ذات العنوان، نشرت في عام 2003، بينما ذيلت القصة بتاريخ ومكان كتابتها “الناصرة، تشرين الأول 1996″. تتمحور القصة حول خالد الحافي، حيث تدور الأحداث السردية من خلال نسيج تفاصيل الحفاء وما يترتب عليه من صراعات يومية بين الأرض والقدم العارية وصاحب القدم ووالديه والبيئة الاجتماعية المحسوسة التي تنظر إلى حفائه. من جانب آخر، يتميز خالد بمحاولاته الدؤوبة للتغلب على الحفاء من خلال شراء حذاء. بالرغم من رغبتهما في توفير الحذاء لخالد، إلا أنّ والديه لا يستطيعان توفير المبلغ المطلوب لذلك. يتميّز النسيج السردي للحالة الوجودية “حفاء” بوصف دقيق لما تتكبده القدم الحافية من جروح وصدمات، والأساليب والأدوات التي تستخدمها أم خالد في علاج قدم ابنها. الحدث الأساسي في القصة هو قدوم بائع أحذية متجول إلى القرية، وهذا البائع ليس محلياً وإنما مغربيّاً. خالد في هذه المرحلة من حالة الحفاء لم يعد يأمل أن يحصل في يوم ما على حذاء، فلم يذهب لمشاهدة أحذية البائع المتجول. يحصل التحول عندما يبلغه أحد أقرانه بأن المغربيّ يبيع الحذاء بثمن بخس جداً مقارنة بالسعر في قريتهم. يجند خالد والديه اللذين يقومان باقتراض المبلغ الزهيد من جيرانهما، وعندما يصل خالد إلى البائع يكون هذا قد باع جلّ بضاعته سوى فردتيْن يمينيتيْن. بعد عدة محاولات يقنعه خالد ببيعيه الفردتين، ولكن عند عودته إلى البيت ومحاولته انتعالهما يفشل في الوقوف ويقع على الأرض في كل مرة يحاول من جديد. يجبره والده على إرجاع الحذاء، فيقوم بذلك ويسترد المبلغ الزهيد.

خالد لا يملك حذاءً، خالد لن يملك الحذاء.

قد تكون هذه التيمة حول الولد الحافي من أكثر الموضوعات تكراراً في الأدب والفن والسياسة، وعلى الأغلب في العديد من الثقافات، وذلك لكونية العلاقات الاجتماعية التي تفرز الهرمية بين من يملك ومن لا يملك القدرة على الحصول على مقومات العيش الأولية من مسكن وملبس ومأكل. إلا أن التحوير الذي أمامنا استطاع أن ينقل مادة التناقضات الاجتماعية “الخام”، عبر خاميتها، إلى أفق أدبي جماليّ أصيل. ثمة في القصة درجة عالية من المتانة في البناء نابعة في الدرجة الأولى من تطابق مذهل بين الموضوع واللغة والشخصيات والحدث والحركة بينهما. فخالد، بعكس سندريلا، لا يقابل أميرات، بل بائع متجول من طينته الاجتماعية الاقتصادية، والبائع ليس من القرية التي لن يحدث فيها حراك أو تحوّل كما يزعم الخطاب التنويري الأدبي، بل وباختيار دقيق هو “مغربي”، غريب قريب. واللغة رشيقة بسعيها بين العامية والعامية المُفصحة، حسية ذهنية ببلاغتها العالية التي تقارب حد التحقق التاريخي للحدث وإن لا تدعي المطابقة. الحذاء هو الحذاء، بكل ما ينوء به من حمل، وما قد يدوس عليه من أرض. للوهلة الأولى لا يستطيع المرء ألا يرى التطابق الفذّ، إبداعياً، بين محاور التاريخ الفلسطيني الحديث من حيث مقومات المأساة المتكررة، وبين المحاور التالية في البناء الأدبي لهذه القصة: مالك الأرض لا يستطيع الوقوف عليها، وهو لا يستطيع بسبب الهرمية الاجتماعية الاقتصادية، تستنزفه الأرض ولا يفتأ يحاول استرداد استخدامه لها عبر شراء الحذاء من خلال إعادة تفعيل جماعيّة القرية من جديد، والداه وجيرانهم، لا تنجح المحاولة العينية في الحصول على حذاء، وتبقى بنية التناقض القصصي مفتوحة باستمرار مأساوي. هذه الإمكانية في التفسير واردة، إلا أنّ الشحنة الحسية-الذهنية تحمل ما هو أكثر تجذّراً من الحالة الفلسطينية العينية: الفعل الإبداعي هنا يتناول المأساة الإنسانية الأولى، تلك التركيبة الاجتماعية التي تسلب إمكانية العيش للفرد وتردُّه إلى أسفله. والسّؤال هل هذا من طبيعة التركيب الاجتماعي بما هو كذلك؟ أم أنه محصور على نوع محدد منها؟

سأعود إلى بداية النهاية؛

في الأدبيات حول الأدب التي تسعى إلى حثه لإطلاق العنان للتحرّر، كان الفرد/البطل هو الحامل للنصر كما للهزيمة. تعلمت من قراءتي لطه محمد علي أنّ هناك حلاً تركيبيًا من الممكن أن يرتقي بنا أدباً على الأقل: النصّ قد يكون هو القيمة الإستعمالية النافية لأخلاقيات القيمة التبادلية في سوق الأدب. النصّ الحافي هنا هو البطل.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>