عصفور صفورية الغِرِّيد.. وداعًا/ سامر خير

. |سامر خير| رَحَل عصفور صفورية الغِرِّيد بذكراها والحن […]

عصفور صفورية الغِرِّيد.. وداعًا/ سامر خير

طه محمد علي في قراءة شعرية

.

|سامر خير|

سامر خير

رَحَل عصفور صفورية الغِرِّيد بذكراها والحنين إلى بيوتها وأزقَّتها وأهلها وأفراحها وأحزانها في لوحةٍ من الماضي طالَما رَسَمَها أمام عينيه كأنَّها مَشْهَد مستقبلي يستَشْرِفُهُ، فيغلبه الحزن كُلَّما اكتشف أنَّهُ لا يقبض سوى على ماء.

طه محمد علي، الطفل الكبير كُنتُ أسمِّيه، وما زلتُ أُسَمِّيه. أتخيَّل الموت يحضنه الآنَ كأبٍ حانٍ أو كأُمٍّ حانية، لأنّ براءة طفولته لا بُدَّ أن تقوى حتى على الموت، رغمَ تجاعيد جبينه التي كانت توحي بأنّه عمَّر أكثر من سيّدنا نوح.

ما سرُّ نجاح قصيدة طه محمد علي في النفاذ عبر الجلد السّميك المُتَمْسِح في أيّامنا إلى جُرحِ القلب مباشرةً؟ لستُ ناقِدًا لأحاول الإجابة عن هذا السؤال، ولستُ بشاعِرٍ في هذه العُجالَة لأحاوِل الغَوْص في أعماقِ قصائده العذبة باحثًا عن منبع خلودها. لكنّني أظنّ أنها البَساطة وأنَّهُ الصدق وربّما السّذاجة –الممقوتة في أيّامنا– هي التي مكَّنَتْهُ من اجتراحِ معانيه التي يظنّ المرء أنها كانت ملقاةً دائمًا على قارعة الطريق. كيفَ كانت كذلك وهو الوحيد الذي استطاعَ التقاطَها؟ هل يستطيع الجاحظ أن يجيب على هذا السؤال؟

هل رأيْتَ أعمَقَ من هذه البساطة عندما كتَبَ في إحدى قصائده:

“لو رأيتَني وأنا أحترق

لما عرفتَني يا سيِّدي!

أيُّ حُزنٍ هذا

الذي لا تُذيبُهُ النِّيران؟!

لو دَنَوْتَ مِنِّي وأنا أصرخ

لألفيْتَني وجْدَ غمام

تتداوله السَّموم

أيُّ فجيعةٍ هذه

التي لا يُجمِّدُها الصقيع؟!”

سيبقى أبو نزار حاضرًا عندي. كانَ مُقِلًّا في الكتابة، ولكنّ القليل الذي بناه بحجارة صفورية العتيقة يبدو لي أمتَنَ من بنايات حديثة من خمسين أو ستِّين طابقًا بناها سواه وزيَّنها بأرقى أنواع حجارة مآسي وعذابات الآخرين. رُبَّما السرّ إذًا هو في التجربة الصادقة.

ولأَنَّ طه محمد علي كان كذلك، فقد “غفرنا” له مشاركته في مهرجان الشعراء العالمي الإسرائيلي في القدس بتاريخ الخامس من حزيران عام 1999. وقتها كنتُ أنا أحد الشعراء العرب الذين قاطعوا هذا المهرجان، بسبب توقيته، وبعد إعلان عدد من الشعراء العبريّين على رأسهم مئير فزلطير ويتسحاك لاؤور عن مقاطعتهم للمهرجان وكتبوا أنه “لا ينبغي للشعراء أن يحضروا إلى مدينة يتم فيها انتهاك حقوق الإنسان برعاية السلطات، حيثُ يُطَرَدُ الفلسطينيون من بيوتِهِم وبيوتُهُم تُهدَم”. فكيف لشاعر عربي فلسطيني أن يُشارِك في مهرجان كهذا يقاطعه حتى الشعراء اليهود؟!

هل هي سذاجة حقًّا؟ أم هو التَّسامُح الإنساني؟ فأيّ وَقْعٍ أَقوى من قصيدة تُدينُ تاريخ سامِعِها وتقولُ له في وجهه: أُنْظُرْ ماذا فعلْتَ بي؟! هل من شيءٍ أشدّ وقعًا من الغفران والتسامح على قلبِ من أساءَ إليْك؟! أنظُرُ الآنَ إلى الوَراء وأقولُ رُبَّما كانَ أبو نزار على حقّ. كان قبل المهرجان طه محمد علي، وبقيَ بعد المهرجان طه محمد علي. هل كانَ مُخْطِئًا؟ أم كانَ شُجاعًا لأنَّهُ لم ينْتَمِ إلى أي إطارٍ حزبيٍّ؟ أم أنّ البراءةَ أخذَتْ منه كُلَّ مأخَذ؟

ينسَحِبُ هذا الكلام كذلك على الاحتفاء الذي حظيَ به في الولايات المتحدة الأمريكية بترجمة عدد من كتبه التي بيعَت هناك بعشرات آلاف النسخ ونفدت طبعاتها المتتالية. كأنَّهُ يطلّ الآن على منتقديه ويقول: “ما يْكُونْ؟!” so what. هَل غيَّرْتُ مسامةً واحدةً مِن جِلدي يا جماعة؟ فكيفَ يقولُ بعضُكُم إنَّهُم استغلُّوا شعري لتجميل صورة الفلسطيني الهندي الأحمر الباقي في أرضِهِ في حدود دولة إسرائيل؟! ما الخطأ في أن تصرخ صفورية متألِّمةً من أوجاعها في أمريكا؟!

.. يا عصفورَ صفورية الغِرِّيد بأوجاعها وداعًا. لن أنسى هذا الجبَل الحزين، الذي تطلُّ من عينيه وردتا فَرَحٍ عظيم كُلَّما تبَسَّم. قُيِّضَ لي أن نُشارك معًا قبل أكثر من 7 أعوام في مهرجان شعري بمدينة لئون في شمال إسبانيا. قالَ لي إنّ صفورية تبدو له كأندلُس صغيرة. حقًّا أيُّ فجيعةٍ أشدُّ من هذا الوصْف؟ رافقْتُهُ هُناكَ على حقيقته وعلى سجيَّتِهِ وهو الكَهْلُ المُتْعَب لأكْتشِفَ كم من جبالِ الحُزنِ يخبِّئ خلفَ عينيه المشرقتين، وكم من القَلَق والخَوف، وكَمْ من الأملِ أيْضًا. اعتنينا به –غيري وأنا– كأبٍ وجَدٍّ، طوالَ هذه الرحلة، واعتنى بنا بما يبُثُّهُ من نكتةٍ ومرح وكلام خفيف الظلّ. وكانَ لي الشرف أن تكون قصائده جارةً لقصائدي المتواضعة في أنطولوجيا باللغة الإسبانية لعدد من الشعراء المحليين أعدَّها الشاعر الإسباني الكبير كارلوس موراليس.

سأجدُك يا أبا نزار في حانوتك كُلَّما قصدْتُ سوقَ الناصرة القديم. سأجدُك ما زلتَ هُناكَ رغم رحيلك، تتكئ على عكاز البقاء، بقاء الكلمة التي كانت في البدء. لن نسمح لك بأخذِ كلّ براءتك معك، ولن نسمَح لك بأن تأخذ ما تبقّى من الصدق كلّه معك. نحن بحاجةٍ للقليل منه وللقليل منها كي نقول ما نريد أن نقول. فكُن كريمًا علينا، ولا تبخَلْ بما بخلنا به نحن على أنفسِنا.

سأجدك أيضًا في بيتك الجميل الدافئ. أعرف أشدّ ما يخيفك من الموت منذُ كتبْتَ بكلّ بَساطَة:

“ما أعجز فعلاً عن وصفه

في موتي

هو فقط

هذه الرعدة التلقائية

المدمرة

التي تجتاحنا….

عندما نؤمن ونحن نموت

أننا سننقطع عن أحبائنا

بعد قليل

فلا نراهم

ولا نستطيع حتى مجرد التفكير بهم”.

أليْسَت أم نزار وأولادكما أحبَّ أحبائك إليك؟

أم نزار، هذه الملاك الحنون؛ لا أعرف الآن هل كانت زوجتك أم كانت أُمَّك. مرَّةً واحدةً فقط زُرْتَني، ومرّتيْنِ فقط زرتُكَ في بيتك، إحداهما كانت زيارة طويلة، تخلّلها غداء على مائدة بيتك العامر. كم غبطتُك عليها -وأنا الشابّ- وهي تحنو عليك أيها الطفل الكبير– وأنتَ الكَهْل. إنّ طفلًا مثلك نسيَ أن تكبر روحه كالآخرين كان بحاجة لامرأةٍ كأمّ نزار تمامًا.

يا عصفور صفورية الغرّيد بأوجاعِها، ربّما كنتَ ترانا وتسمعنا الآن، وتقولُ: آهِ كم كنتُ أعمى!

لم تكُنْ أعمى، بل كان الليلُ مُسْدِلًا سدوله المظلمة.

فإلى اللِّقاءِ ولَوْ بَعْدَ حين.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. سامر
    مع الشعور الكبير بالفقدان يسعدنا ويا للمفارقة ظهورك مجددا على الساحة الأدبية ومعاودة كتابتك
    تحياتي
    راجي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>