لمن هذا البنطلون الاحمر؟/ تمارا ناصر

أرتبك ولا أعرف ماذا أقول, هل أقول إنّ هذه الكلمة نقيض لكل شيء يعرفونه, هل أقول لهم إنّ هذه الكلمة لم يسمعوا بها لأنها غير موجودة أصلا؟ لأنّ لا شغف هنا ولا حياة ولا حب..

لمن هذا البنطلون الاحمر؟/ تمارا ناصر

>

|تمارا ناصر|

مثل شبح احط واهبط هنا وهناك, انفخ نفسا باردا في المكان, لا اطوف يمينا او يسارا ولا احوّل عن المسار. تتسارع الأسراب, لا تلحظني, لا تميل عني, فاخترقها دون وصمة ولا حتى رجفة تنذر بمكروه ما.

أنتظر باص 25. يافا من ابشع المدن التي رأيتها في حياتي؛ الموت والشؤم يتربّصان بكلّ زاوية لمن يدخلها. الشوارما والفلافل والأراجيل لم تعد تكفي لاستقطاب أحد, ومحاولات اضفاء حياة ليلية صاخبة عارمة مشتركة إلى هذه المساحة التعيسة امر محزن ويزيد الجرح ألمًا.

مثل شبح أرتدي ملابسي اليومية السوداء, الرمادية او الكحلية, الغامقة المعتمة التي لا تليق بأيّ شابة تسعى إلى حياة أفضل, تقول أمي هذا مطرقة الرأس, أوافقها على مضض, ونتحاشى أنا وهي الدخول في أسباب “عبوسي”, فما بالكم, لدي كل شيء تقول أمي, أوافقها كثيرا مؤخرا, أقبلها وأعانقها وأقول لها: “عادي ماما, انا بخير”.

أنا بخير وأظن أنّ يافا بخير أيضًا.

لا أعرف في أيّ محطة يجب أن انزل لكي اصل مدرسة الشاملة, ولم اتخيل نفسي يوما اصعد حافلة محمّلة بنوايا تعليمية حسنة, لأنّ آخر ما توقعته هو انه سيكون بإمكاني مغادرة سريري وغرفتي والحيطان الآمنة وبالأخص الدليل السنوي لجميع مطاعم تل ابيب والتي يمكنها ان تصلك بسهولة كبسة زر أو اثنتين فتصير الحياة أجمل، لكي اخرج وأواجه جيوشا من صفوف الـ11 والـ 12 لإعطائهم دروسًا في الانجليزية. لم اكن اعرف انني سأتمرمر كل هذا التمرمر لمجرّد اعطاء طلاب وطالبات يافيين ويافيّات دروسا في الانجليزية؛ فمن غيري يزيد المستعمَر استعمارا والمهشّم تهشيما؟ كان من الاشرف لي ان اعلمهم عربيّاتي المكسّرة, يصرخ في وجهي عقلي الباطني. ولكن اقصى ما يمكنني القول وبنفس روح السياقات والآهات المتكررة والمبتذلة، أطلق:

“واه يا حسرتاه” كبيرة.

أنتبه إلى أنني تأخرت. ففي اليوم الأول يجب على المرء ترك انطباع أولي جيد, فكيف يصير هذا وانا متجهمة مثل شبح؟ مثل شوارع يافا؟ كيف اصل هذه المدرسة الشاملة اصلا, تشمل ماذا هذه المدرسة اصلا؟ انتبه إلى نبرتي, أهدئ من نفسي وأطلب منها ان تتروى.. فمن الارجح ان اي احد من سكان يافا بامكانه الاشارة إلى مكان المدرسة. استعد للتوجه بسؤالي إلى احد المارين. رأيت شابًا خمّنت انه يبلغ السادسة عشرة من العمر, احتجت إلى بضع ثوان لكي أراجع جميع الصور النمطية التي اعرفها عن شبّان يافا, فالفقر والعنف والجهل المستشري لا يترك لي الكثير من الأمل, وانا اصلا احب الصور النمطية وغالبا ما اعتمد عليها كدليل إرشاد. انادي على الشاب: “يا شاب؟” لا يرد.

“يا شاب, استنى شوي.”

إلتفت إلي الشاب وتفحصني من الاعلى إلى الاسفل باشمئزاز لم افهمه, الا يحب بلوزتي السوداء؟ صرخ في وجهي:

“ممممماه*!” فسجلت عندي على الهاتف فشلاً جديدًا.

كل ما كان ينقص هذه المشاهد هو القليل من المطر, فأمطرت. رفعت الاشباح المظلّات, وجرتني الامطار إلى المدرسة الشاملة, حتى السماء لم تعد تحتمل التيه الذي انا فيه. توقفت الامطار عند وصولي إلى ساحة المدرسة, لملمت نفسي وحاولت افتعال روح حماسية جديدة, وان ارسم لنفسي ابتسامة على وجهي البارد, نظرت من حولي, رأيت شابا يتوجه نحوي يقدم نفسه على انه مسؤول المشروع التربوي, فابتسمت اكثر, وسألته عن الطلاب. “يللاااااااا- شباااااااااااب صبااااايا شبااااااب, اجت المعلمة”، وأقسم أن قلبي الصغير قد توقف عن النبض للحظة.

داخل بناية المدرسة, نعبر الممرّات, اتمعّن في النصوص الدينية المعلقة, أكبت الشبح الذي يحاول استحواذ جسدي مرة أخرى, أقرّر تجاهل النصوص لتبتعد الارواح. أطلب من المجموعة الجلوس في المقاعد الامامية, لكي يكون الجو اكثر حميمية.

- معلّمتي شو يعني حميمي؟ سألني طالب تعلو وجهه ابتسامة لم ارغب تشخيصها. ردت عليه ابنة صفه بالعبرية:

- يعني “انتيميوت”. صح معلّمتي؟

- صح..

- آآآه.. معلمتي انت مسيحية؟ سالني الطالب ذاته.

- لا.

- معلمتي مسلمة؟ سالتني طالبة أخرى.

- لا يا معلمتي, انا بدّي اتعرف عليكو كمان.. بس بدنا نحاول نحكي بالانجليزي, راح اسأل زي كيف بسألوا بامتحان “الاورال”..

وأحاول تذكر أسئلة الامتحان الشفهي التي واجهتها قبل اربع سنوات تقريبا.. حتما يريد الممتحن نبذة قصيرة عن الطالب, فباشرت بأسئلة اعرف كم هي مملة ورتيبة- اكرهها انا نفسي: “ما اسمك؟”، ”ما هي هواياتك؟”، “كيف تقضي اوقاتك؟”، “هل تحب القراءة؟”، “ماذا يعمل الأب؟”، “ماذا تعمل أمك؟”.

- معلمتي امّي بالبيت..

- أمي كمان.

- وأمي.

- وأنا.

- وأمي…

- يللا لئيش الشغل معلمتي..

قلتُ ساخرة يفور الدم في عروقي. اقحمت كلمة “هاويسوايف” إلى قاموسهم اللغوي, وسألتهم اذا سمعوا بمسلسل اسمه “desperate housewives” قالوا “لا معلمتي”، قلت بجدية: “أحسن معلمتي”. ثم طلبت منهم ان يقولوا لي معنى كلمة “desperate”… فسمعت صدى صوتي..

كانت الطريق من يافا إلى رمات أفيف في الباص كفيلة بأن تعيد الشبح إلى هيئتي. تسربت روحي إلى داخل الشقة, وقفت امام الثلاجة متصفنة, اغلقتها وسحبت دليل الأكل من الجارور, أفكر فيما سأطلبه, شيء لذيذ يطيّب من مزاجي, فاتذكر انني على موعد في صباح الغد مع المجموعة. سأطلب هامبرجر إذًا, قلت واثقة أطفئ الأنوار, فالروح تحتاج إلى جسد.

أهبّ من تختي, أقوم على عجلة من امري. اغسل وجهي, وابتسم لنفسي في المرآة, فقد عاد القليل من اللون إلى وجهي, ولن ادع شوارع يافا تعكس عليه شحوبها. احضّر القصص والمواد التي سأمررها في الصف اليوم, اسجّل لنفسي بعض الملاحظات, ثم اتوجه للخزانة. كانت هذه اطول مرة اقف فيها امام الخزانة, لا أتردّد عادة فيما سأرتديه, أعرف ألواني واعرف البناطيل, ولا حاجة للتردّد والتلكع. لكن تذكرت ملاحظة امي عن الالوان التي ترتديني, فقررت أن اغرس يدي في الخزانة اكثر, وأبحبش أكثر, رايت شيئا يمدّ إليّ أكمامه. انها بلوزتي السوداء المفضلة, لا يهمني ما قالته امي, سوف البسها. اخلع عني بيجامتي والبس البلوزة السوداء وأقف صافنة حائرة فأيّ مصير سيحيط بفخذيّ؟ نظرت إلى داخل الخزانة الكبيرة المظلمة, رأيت شيئا أحمر لم أعلم بوجوده. سحبته ببطء فأخذ اللون ينير عتمة الخزانة, ثم تجلت مع البنطلون بطاقة السعر. لبسته مترددة متمنية لنفسي النجاح.

أقف وسط الساحة انتظر الطلاب لتتجمع كي ندخل الصف ونبدأ الدرس. انتظر. لا يأتي أحد, لا يأتي أحد وأفقد أنا صبري. أنادي عليهم وأدعوهم لدخول الدرس: “يللا معلمتي استني”..

أستنى وأنتظر, اشعر بأنني أتبدد وأختفي, وكأنّ الفوّهة التي وسط الساحة المنقشة بنصوصها الدينية ستبتلعني.

- يللا معلمتي جينا.

“جيتوا والله جابكو” قلت للفتاة مبتسمة, فابتسمت هي بدورها ودخلنا الصف. افتتحتُ بأمور تقنية, وزعت عليهم ورقة كلمات ومعانٍ سلمني إياها مركّز المشروع, مصطلحات من الانجليزي إلى العبري, طلبت منهم ان يحتفظوا بها لأننا سنمرّ عليها في نهاية الدرس. الآن أريد أن ابدأ بقصة قصيرة.

- بس معلمتي شو هاي الكلمة؟

- أي كلمة؟

- الكلمة التانية؟

- passion.

- شو يعني؟

- يعني شغف.

- شغف؟ في هيك كلمة؟! شو يعني شغف؟

أرتبك ولا اعرف ماذا اقول, هل اقول ان هذه الكلمة نقيض لكل شيء يعرفونه, هل اقول لهم ان هذه الكلمة لم يسمعوا بها لانها غير موجودة أصلا؟ لأنّ لا شغف هنا ولا حياة ولا حب.. ماذا افعل انا هنا؟ ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟ إلى تل أبيب؟ إلى يافا؟ إلى العالم؟

أحاول كتم دموعي, ارى شبحي يتربص بي في زاوية الحيط الابيض المتسخ, ينتظر لحظة سواد كي ينقض عليّ.

- معلمتي؟

أستعيد نفسي بسرعة. نظرتُ إلى الفتاة التي دخلت معي الصف اولا, وجدتها تبتسم لي, وفي عينيها بريق جعلني أنظر اليها بفضول اكبر, بريق يدل على ذكاء فطري ومميز. أردفت:

- شغف زي بنطلونك..

- مفهمتش؟

- معلمتي, شغف زي لون بنطلونك!

سقطت عيناي نحو بنطلوني, فوجدته احمرّ احمرارا غريبا, نظرتُ إلى الشبح في الزاوية لكنني لم أجده. تساءلتُ: “لمن بحق السماء هذا البنطلون الأحمر؟”

_____

* ماه؟= ماذا؟ في العبرية..

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. اسلوبك الكتابي رائع ومشوق، لكن من رأيي الحياة بدها نظرة ايجابية . نظرتك ليافا سوداء ومعتمة بعرفش شو هو السبب وشو مارق عليكي هناك، يافا من اجمل المدن وناسها لما الواحد يعرفهم بجد (مش نظرة سطحية وعابرة عليهم) بعرف شو هالناس الرائعين اللي همي !! يافا وناسها بمرقو باحداث صعبة ومتواصلة ولما انتي تيجي وترمي هالحكي عنها ، بالنسبة الي كبنت هالمدينة حسيت باهانة!! عكل اذا انتي معلمة هناك فاكيد مع الوقت نظرتك رح تتغير لما تعرفي ليش الناس بتتصرف هيك (يمكن المشكلة بأسلوبك انتي ومش همي)… سلامات

  2. اسلوبك رائع شدني حتى أصل لنهاية ما كتبت.
    لازم أشوفك…

  3. نصك رائع.. بس ظلمتيها شوي ليافا.

    بس تمشي بطرقاتها أكثر.. وتحكي شوي مع شبابيكها
    رح تحبيها بوعدك.

    بتعرفي إنه يافا بتملك أجمل غروب بالعالم؟

    إنتِ رائعة.

  4. للشبح البنطلون..حلوه القصه

  5. رائعععععععععععععععععععععععععع!

  6. حكاية حلوة كثير!
    شكرا

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>