الـ”تحت” والـ”فوق” ثقافياً / عمر قدور

للّغة أهميّة مركزيّة في بناء النسق واستمراره، فاللغة هي التي تصوغ قسماً هاماً من رؤيتنا للعالم، أو تورثنا هذه الرؤية عبر دلالاتها المتراكمة، وعندما تُحدث اللغةُ التناظرَ، أو حتى التضادّ، بين الأنوثة والذكورة فهي تبني وعياً منشطراً باللغة، وفي اللغة أيضاً. هكذا تتحصّل الكلمات على مراتب قيَميّة وفقاً لمرجعيتها الجنسية؛ الصلب مثلاً يصبح أعلى من الرخو، بما أنه يحيل إلى القضيب بينما يحيل الرخو إلى المهبل.

الـ”تحت” والـ”فوق” ثقافياً / عمر قدور

| عمر قدور |

تتحدّد دلالات المفردات عادة حسب ورودها في سياق لغويّ، ما يوحي بحياد المفردة أصلاً، أو اقتصارها على حقل دلاليّ مقارب للمعنى. قد يصحّ الافتراض السابق شكلاً، لكنّ التاريخ الفعلي للمفردات أكسبها دلالات تنزع عنها حياديتها. وقد يصحّ أيضاً القول إنّ بعض المفردات تعرّضت لانزياحات دلاليّة عديدة عبر تاريخها، بينما اكتسبت مفردات أخرى دلالات أكثر حدّيّة، ما يجعل ممانعتها للانزياح أكبر من سابقاتها، ولربّما ينطبق هذا أكثر ما ينطبق على المفردات المتضادّة أو المتناظرة. التناظر والتضادّ يُظهران رسوخاً كبيراً يستند في جزء غالب منه على تقسيم العالم إلى جنسين، وحيث أنّ هذا التقسيم يفرض نفسه كبديهيّة ثقافيّة فإنّنا سنجده يتعزّز من خلال إقامة الفوارق دلاليّاً؛ أي تحويل ما هو فيزيولوجيّ إلى حكم قيمة دائم يدّعي التجرّد عن علاقات السيطرة، في الوقت الذي يواصل فيه تكريسها كحقّ أبديّ.

تتوالد متوالية السيطرة على كافّة المستويات، إلى حدّ أنّنا نغامر عندما ندّعي الفكاك منها؛ من جهة لا نستطيع الزعم بعدم تمثّلنا للثقافة السائدة، وإنْ بنسب متفاوتة، ومن جهة أخرى يرتسم التساؤل الوجيه حول إمكانيّة خلخلة الثقافة السائدة بأدواتها ذاتها. هذا التساؤل يدفعنا إلى التشكيك في معارضة النسق، عندما يحدّد النسق نفسُه أشكالَ معارضته، فتستتبّ علاقات السيطرة وإنْ من خلال التنازع بين طرفيها، أو محاولة الطرف المسيطَر عليه احتلال موقع المسيطِر. لذا فإنّ المعارضة المتشكّكة تجاه تمثّلاتها وأدواتها هي المناط بها وضع النسق تحت المساءلة الدائمة؛ حيث التشكّك في الوعي يؤول إلى الريبة المستمرّة تجاه ما يتسرّب إليه متخفّياً بثوب الموضوعيّة والحياديّة.

للّغة أهميّة مركزيّة في بناء النسق واستمراره، فاللغة هي التي تصوغ قسماً هاماً من رؤيتنا للعالم، أو تورثنا هذه الرؤية عبر دلالاتها المتراكمة، وعندما تُحدث اللغةُ التناظرَ، أو حتى التضادّ، بين الأنوثة والذكورة فهي تبني وعياً منشطراً باللغة، وفي اللغة أيضاً. هكذا تتحصّل الكلمات على مراتب قيَميّة وفقاً لمرجعيتها الجنسية؛ الصلب مثلاً يصبح أعلى من الرخو، بما أنه يحيل إلى القضيب بينما يحيل الرخو إلى المهبل. وكما نرى يزداد امتداح الصلابة في المجتمعات الأكثر بطريركيّة، بينما تكون الرخاوة بمثابة عار على الرجل، أو عار على الرجولة جمعاء. إلى المثال السابق ينضمّ كمٌّ هائل من التناظرات؛ ممتلئ/ فارغ، جاف/ رطب.. وفي المحصّلة تدخل هذه المفردات سياق الجملة بحمولتها الدلاليّة، أي بمرجعيتها الجنسية، ما لم يفرض عليها السياق احتمالاً جديداً. على الصعيد ذاته؛ ليس تخليص المفردات من حمولتها الدلاليّة بالأمر السهل، إذا أخذنا في الحسبان شيوع الدلالة بحيث نخاطر بفقدان التواصل في حال غيابها. بدورها الخشية من فقدان التواصل تترجم سطوة اللغة، بل عنفها، بوصفها حاملاً مولِّداً لعلاقات السيطرة.

عندما تنقسم اللغة بين قطبين فهذا يوحي بمجاراة ما هو طبيعي، في الوقت الذي تذهب فيه المرجعيّة الحصريّة إلى الذكورة، ففي حين لا تحتاج الذكورة إلى تعريف يتمّ التعريف بالأنوثة على أنّها مقلوب الذكورة، وليست بعيدة عن الأذهان النظريات التي جاهدت لتثبت أنّ الفرج قضيب ضامر أو قضيب معكوس. لقد حالت مرجعية الذكورة دون تعريف الأنوثة كنظام بيولوجيّ نفسيّ مستقلّ، أي تعريفها بوصفها نظاماً مغايراً، لا معكوساً أو مضادّاً، فبقيت الأنوثة نظاماً ضمن النظام العامّ الذكوري، أو خللاً يجب استيعابه كقيمة سالبة.

ليست بعيدة عن الأذهان أيضاً أدبيّات من نوع “الأنثى هي الأصل”، وقد جاءت ردّاً نسويّاً على مركزيّة الذكورة، وعلى الرغم من أنّ الحركات النسويّة في الغرب تجاوزت هذا النوع من السجال إلا أنّ آثاره لم تمّحِ تماماً، نجد ذلك في التنقيب الدؤوب عن جدّات أُقصين في الثقافة البطريركيّة، وتحويل تلك الجدّات إلى رموز للنضال النسويّ. ربما تكون ليليت أهمّ الرموز، باعتبارها الأنثى الأولى قبل حواء؛ بحسب الأسطورة رفضت ليليت أن تكون تحت آدم فعوقبت بتحويلها إلى ساحرة شريرة، وأصبحت بمثابة رمز لعاقبة العصيان. أعادت الحركات النسويّة بناء الرمز، بالتركيز على قيمة الرفض وعلى جور النظام الذكوريّ، لكن إعادة ترتيب الرمز لا تلغي بالضرورة بنيته المؤسّسة بموجب الثقافة الذكوريّة؛ هذا التشكيك يبدو ضروريّاً نظراً لأنّ فكرة الرمز بحدّ ذاتها صناعة اقتضتها طبيعة الهيمنة الذكوريّة.

يتغلغل النسق السائد ليشكّل بنية خطاب متكاملة لا تقتصر على المكتوب والمقروء، بل تتعدّى إلى خطاب الجسد ووعي الجسد؛ الصوت المرتفع مثلاً هو سمة ذكوريّة، بينما الصوت المنخفض سمة أنثويّة. على العموم يتمّ تطويع خطاب الجسد وفق التناظر اللغويّ، فحركات الجسد الأنثوي الدارجة تنمّ عن القبول بموقعه جسداً سالباً يترك المبادرة للرجل، وما يُلصق بالحياء هي مجموع الوضعيّات التي تخفض من موقع المرأة، نموذج ذلك الإطراق خجلاً. هنا أيضاً يصعب الإفلات من تمثّل الحمولة الدلاليّة الموروثة، فالرجال ينجذبون إلى الارتباط بالنساء اللواتي يُعتقد أنّهنّ أدنى مرتبة منهم، وينفرون من المرأة التي تُظهر تكافؤاً أو يُعتقد أنّها أعلى مرتبة، ولا نعدم حالات من التعلّق أو السعي وراء الأخيرة بغية إخضاعها، أي إعادتها إلى موقعها المفترض “تحت”. على نحو لاشعوري؛ قلائل هم الرجال الذين يقبلون بالارتباط بامرأة أطول منهم، أو أضخم قامة، أو أكثر ثقافة وتعليماً، ربما يشذّ عن ذلك قليلاً وجود المرأة في طبقة اجتماعية أعلى، حينها يصبح الاقتران بها مشروع ارتقاء اجتماعي. “مثلاً عندما يرتبط رجل شرقيّ بامرأة غربيّة تسقط اشتراطاته المعهودة، لا بسبب التأقلم مع عاداتها الاجتماعيّة، ولكن بسبب وعيه أساساً لمرتبته الأدنى حضاريّاً والنظر إليها كمشروع ارتقاء حضاري”.

النساء لسن أقلّ تمثّلاً لموقعهنّ، المحدّد من وجهة النظر الذكوريّة، إذ يندر أن نجد امرأة تنجذب إلى رجل أضأل منها قامة، أو أدنى منها مرتبة على مختلف الأصعدة، وحتّى يندر أن تفضّل امرأة رجلاً مكافئاً لها، بل تسعى لا شعوريّاً وراء من تعتقد أنّه يتفوّق عليها. عندما تختار المرأة رجلاً لأنّه متفوّق فهي تخضع ضمناً للعنف الرمزيّ المضمَر في التراتبيّة، وعندما تطلب المرأة من الرجل أن يكون متفوّقاً، وتفرض عليه المكابدة التي يتطلّبها التفوّق، فهذا نوع آخر من العنف الرمزيّ الذي يقع الرجل ضحيّته. في الواقع تحتاج أنماط التعلّق بين الجنسين إلى تمحيص جادّ، فالحالات التي نسمّيها اعتباطاً بالحبّ قد لا يعدو قسمٌ كبير منها عن كونه إعادة تمثّل لمواقع مسبقة، وما يُبذَل في هذه الحالات لا يتجاوز التواطؤ المحسوب مسبقاً.

يوحي التحسّن في موقع المرأة الاجتماعيّ والحقوقيّ بأنّنا قد نكون في سبيلنا إلى التخلّص من الثنائيّة السابقة، ولا شكّ أنّ النقلة التي أنجزتها الحداثة على صعيد الحريّة الفرديّة هامّة لجهة الاعتراف باستقلاليّة المرأة، أما الجانب الثقافيّ فهو أكثر إيغالاً وتعقيداً من أن تجيب عليه التشريعات أو النضالات المباشرة. لم تزل الثنائيّة تحفر في ثقافتنا، حتّى ونحن نقارب بين طرفيها قيَميّاً، لم تعد علاقات السيطرة بتلك القسوة السابقة، لكن الاستمرار بتعريف العالم تبعاً للجنس يُبقي على التقسيم الوظيفيّ فاعلاً مستتراً. مثلاً لم تجد ثقافتنا إلى الآن حلاً فكريّاً للمثليّة الجنسيّة، الحلّ القانونيّ تتيحه التشريعات الحديثة عندما تكفل لأيّ كان حريّة التصرّف بجسده، لكن الإقرار بوجود نظام جنسيّ خارج قطبي الأنوثة والذكورة يبدو عسير التمثّل ثقافيّاً؛ العقل الذي اعتاد على “ذكورة/أنوثة” يصعب عليه القبول بـ”ذكورة/ذكورة” أو “أنوثة/أنوثة”.

بالعودة إلى الاستهلال؛ لقد كتبت العنوان كما هو وارد، ولا أدري حقّاً ما الذي كنت سأبدأ به أولاً لو كتبت بعفويّة تامّة. إن بدأت بكلمة “فوق” فهذا يعني أنني أقتفي أثر النسق السائد، وإن بدأت بكلمة “تحت” كما حصل فهذا يعني أنني أقلب النسق رأساً على عقب، أو أنني أتصرف كجنتلمان فأمنح الأفضلية للـ”تحت” تأدّباً. ثمة احتمال ثالث؛ أن أكتب الكلمتين بلا مسبقات، وهذا يتطلّب أن أتخلّص من أسر النسق، وأن تتخلّص المفردتان من أسره أيضاً، حينها ينتمي الكلام السابق برمّته إلى زمن ولّى.

عن “الأوان”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>