لوحات خائنة/ تمارا الكيله

قصة قصيرة • تكوّر بطني، وأخذ ينتفخ يوماً بعد يوم. أنظر إلى نفسي في المرآة، صار لي ثديان أكبر من راحتيك، وحلمتان نافرتان يؤلمني لمسهما، أرداف ومنحنيات وزوائد وتعرجات، كلّ تضاريسي تغيّرت وبتّ لا أعرف نفسي!

لوحات خائنة/ تمارا الكيله

"ثقة في الحب"، بريشة:بث بوديشييم


.

|تمارا الكيله|

تمارا الكيله

يتطاير شرر من عينيك و يحرقني، كلما أشعلت سيجارة أخرى…

أعلم جيداً أن السيجارة بين أصابعي مسدس تتوجه فوهته نحو رأسك،

وأن حلقات الدخان التي تتطاير بعيداً من فمي دوائر دوائر تلتف كحبل مشنقة  حول عنقك…

ولهذا السبب بالذات أمعن في التدخين أكثر، وأبتلع السيجارة وراء الأخرى بشراهة…

.

السيجارة الأولى…

عارية في حضنك، أتكوّر حول نفسي، أغوص في داخلك أكثر فأكثر، أختبىء من أعين الدنيا وأخبىء فيك كنوزي الصغيرة، تفاصيل طفولتي التي سرقتني منها وجعلتني أنثى فقط، جديلتي الطويلة التي ذبحتها لأجلك لأنّها كما قلت لي كانت تحجب الضوء المشّع من عنقي، الخدوش الصغيرة على ركبتيّ اللتين لا يناسبهما تسلّق الأشجار والزحف على التراب مثلما همست في أذني وأنت تحاول مجاراتي في قطف التوت عن أعلى شجرة في حديقة منزلنا، مسائل الرياضيات التي كنت تحلّها لي لأنتهي من واجباتي المدرسية بسرعة فننسل سوياً خارج البيت ونضيع في طرقات لا نعرفها ولا تعرفنا، قلق أمي عليّ، وعتاب أبي، ونظرات أخي التي تكشف الأسرار في عينيّ أخته الصغيرة وأسئلة صديقه الساذجة عن حالها وأدائها في المدرسة ومواعيد مباريات فريق السلة الذي تلعب فيه وقلقه على تأثيره على تحصيلها المنهجيّ في عامها المدرسيّ الأخير، تواطؤ (أبو ناصر) صاحب المقهى الصغير القديم في وسط البلد الذي يحفظ زبائنه وطاولاتهم المفضلة وطلباتهم المعتادة وأذواقهم الموسيقيّة فيترك لي ولك طاولة محجوزة على الشرفة حتى يمتلئ مقهاه في حال ساقنا الشوق إليه، طعم قهوته السادة مع حبات الهيل ورائحة الأرجيلة التي كنت أجاريك فيها بنفسين أو ثلاثة قبل أن تنتابني موجة سعال وموجة ندم، الـ 89 التي حصلت عليها في نهاية العام رغم كلّ الانحلال الدراسيّ الذي مارسته تلك السنة، ومقعد الفنون الجميلة الجامعيّ الذي حصلت عليه كما حلمت دوماً، اعترافك الأول بالفوضى التي أحدثها داخلك والقبلة التي كادت تردّ بها شفتاي على شفتيك لكنها في اللحظة الأخيرة تملّكها الرعب فتركتها في مكان ما بين شفتيك وخدّك الأيمن، تعليقك على القبلة الحائرة (هادي أغرب بوسة في التاريخ، بس جد أحلى بوسة في حياتي!) وضحكك المتواصل في الوقت الذي كانت فيه وجنتاي تغرقان في درجات اللون الأحمر أغمق فأغمق، اليوم الذي تخرّجتما فيه أنت وأخي من كلية هندسة الحاسوب وكنت فخورة بكما بنفس الدرجة، يوم عدت من الجامعة لأجدك في بيتنا بصحبة والديك وانتهاء الزيارة بأكفّ مرتفعة نحو السماء تقرأ أناملها سورة الفاتحة، فستان أبيض طويل استفزني بياضه فنقشت أطرافه بحبات خرز صغير أزرق وبدلة سوداء بربطة عنق تحدد كمية الهواء التي تستطيع استنشاقها، أولئك الذين نحبهم ويبادلوننا ذات الحب، وكثيرون لا نحبهم أو لا نعرفهم أو لا يعنينا من أمرهم شيء يتقاسمون ساحة الرقص والطعام والشراب ويتبادلون المجاملات الاجتماعية والتعليقات على مدى فخامة قاعة الحفل وتنظيم العرس وجودة الطعام وتنسيق الزهور التي لا تفهم السبب الوجيه وراء المجزرة الجماعية التي أودت بعطرها  وأخيراً فستاني الأبيض المعدّل بطريقة تكسر الروتين وتصفيفة شعري ومكياجي وتناسب طولي مع وزني ومدى جمالي مقارنة بوسامتك ومعايير أخرى لا تنتهي بينما أنا وأنت نبدو كمهرجين لا يتقنان الدور، ونتساءل عن كمية الوقت المتبقية لنستعيد شيئاً من حريتنا بعد أن يئسنا من إيجاد طريقة للهرب من دون لفت انتباه الجميع…

وحدنا أخيراً، متعبين حتى من الفرح، مليئين بالنعاس، تلّف ذراعيك حولي، وتهطل قبلاتك على عنقي مطراً ناعماً، أنفاسك اللاهثة تلفح وجهي وبلل لذيذ يغلّف جسدي شيئاً فشيئاً، رائحتك تتسرب عبر جلدي، تمتصها خلاياي، وطعم ملحك على لساني يبقيني عطشى أترقب ارتواء من شفتيك.

تجلس في السرير، تسحب سيجارة من علبة على منضدة صغيرة جانبك، تشعلها، أنظر إلى تفاصيل وجهك في ضوئها، غمزة عينك اليسرى، أثر جرح قديم يقاطع امتداد حاجبك الأيمن، آثار حبّ شباب خفيفة، وشفتاك وهما تمصّان الأسطوانة المستديرة على مهل، وتنفثان دخانها في وجهي مداعبة، فأسحب السيجارة من فمك، ليس لأنثى غيري اليوم مشاركتي بك! تضحك وتتحداني أن أكمل تدخينها، أضعها بين شفتي وأحرقها حتى آخر بقعة ضوء، أنفث دخانها بعيداً عن وجهك، أسعل كثيراً، وأضرب صدرك بقبضتي انتقاماً، تقول لي إنّ السيجارة في فمي قد زادتني جاذبية، وإنّك في هذه اللحظة تريدني أكثر!

.

معرض لوحاتي الأول، مشروع تخرجي، سرق كثيراً من وقتي ووقتك، أو وقتنا إذا شئت في الفترة الأخيرة، وكما كنت أنا أغار من السيجارة التي تشاركنا صناعة الحب، كنت أنت تغار من الوجوه والأجساد التي أرسمها، ويستفزك أنّ كلاً منها له هويته الخاصة وسيرة حياة تكاد تجعلها واقعية وحية بقدرك.

“حبيبتي، إنتي امرأة متزوجة الآن” علّقتَ، “يعني لازم تراعي هادا الحكي برسماتك مشان الناس، ما في داعي لرجال وستات عريانين بالصور، بتقدري تظهري موهبتك بطريقة تانية، فاهمتيني،صح؟”

وطبعت قبلة دافئة على خدي كانت كلّ ما يلزم لإقناعي بأنّ موضوع المعرض التالي سيكون عن جمال الطبيعة حولنا!

أيّ طبيعة؟ تلك التي يخترعها خيالي!

.

كثير من جملك باتت تبدأ بـ “حبيبتي إنتي امرأة متزوجة..”؛ “حبيبتي إنتي امرأة متزوجة، يعني ما بصير أجي أخدك من الجامعة ألاقيك واقفة مع شباب ولو كانوا بس زملاء، شو بدها تحكي الناس علينا”؛ “حبيبتي إنتي ست بيت هلأ، يعني ما بصير تتركي بيتك وتطلعي بدون ما تخبرّيني وين طالعة ومع مين طالعة وإمتى راجعة، بكره بفكروني العالم طرطور! وإنتي ما بترضيها!”؛ “حبيبتي هادا القميص كتير حلو عليكي، بس جوا البيت مش برا البيت.. إنت هلأ متزوجة وبطلّتي بنت صغيرة”؛ “بنشرب القهوة بالبيت أحسن، شو مفكرتينا لساتنا ولاد صغار زي زمان؟ كبرنا على قصص القهاوي والولدنة…”

أتساءل من استولى على طاولتنا في مقهى أبو ناصر، ليس من المعقول أنه لا زال يتركها للزبون الأخير في المقهى…

.

كنّا في طريق العودة من منزل أهلك، صامتين، أدرت الراديو على قناة عشوائية، فمددت يدك وأطفأته، ثم قلت لي:

“بدي ولد صغير ألعب عليه، شو مو نفسك تصيري ماما؟.. بدي إشي يعمل ضجة بالبيت، وإنتي هلأ خلّصت جامعة يعني قاعدة فاضية ما وراك إشي..”

نسيت الوظيفة التي كنت قد أخبرتك عنها قبل يومين، وهززت رأسك موافقاً..

أردت طفلاً ليحرّك طبق الهلام الكبير الذي كنّا نسكن داخله! وأردت لو نعود طليقين كمّا كنّا، بلا عقد زواج، بلا حجة شرعية تظلّل ما يجمعنا بقداسة مزّيفة!

أشعل سيجارة وأتنفسها على مهل، تسحب السيجارة من بين أصابعي،

وتعلّق:

“هالعادة بدنا نبطلها، مش منيحة للبيبي، وكمان مش حلوة البنت تدخن قدام الناس”!

.

تكوّر بطني، وأخذ ينتفخ يوماً بعد يوم. أنظر إلى نفسي في المرآة، صار لي ثديان أكبر من راحتيك، وحلمتان نافرتان يؤلمني لمسهما، أرداف ومنحنيات وزوائد وتعرجات، كلّ تضاريسي تغيّرت وبتّ لا أعرف نفسي!

أزداد توتراً يوماً بعد يوم، وتزداد أنت عطفاً وحناناً، تمثيلك البارع لا ينفذ عبر جدران قلبي، وأراك شخصاً آخر لا يشبهك ولا يثير في جسدي شيئاً سوى القرف كلما اقترب بجسده منّي.

“معلش يا ابني بدك تطوّل بالك، أول حمل دايماً صعب”. وتطيل حبال بالك في كلّ الاتجاهات تبعاً لنصيحة أمك، في الوقت الذي يتضاءل حجمك في عيني يوماً بعد يوم.

.

سيجارة تلو الأخرى، حتى تتظلّل الغرفة بسحابة من ضباب أسود…

تقترب منّي، تجلس على طرف السرير، تحاول كبت غضبك الذي يحدث زلزالاً خفيفاً يحرّك الأرض تحتنا.

لا تسأل “كيفك هلأ”، ولا تقول “الحمدالله عسلامتك، المهم إنتي، الولد بتعوّض”، ولا تعاتبني “كم مرة قلنا بلا هالدخان، مش منيح للحامل، عنادتك هي إللي وصّلتنا لهون”. لا تمدّ كفّك لتضربني، ولا تعانقني مواسياً، كان واضحاً أنّي لست بحاجة إلى مواساة، وأنّ كتلة اللحم المعجونة بالدماء التي رأيتها تمرّ من بين فخذّي وتنجرف مع المياه المنزلقة عن جسدي في حوض الاستحمام، كانت تعنيك وحدك، خسارتك وحدك، وكنت أنت من يحتاج حقاً لمن يعانقك مواسيًا.

تشعل سيجارة وراء أخرى، أنظر إلى وجهك في نقطة الضوء الصغيرة، لا تزال تملك الوجه ذاته بغمزة العين اليسرى والجرح الذي يقطع امتداد حاجبك الأيمن، لا زلت اللوحة ذاتها في الإطار اللحمي، لكنّ البشر لوحات خائنة، لوحات تعيد اختراع نفسها، تتمرد على أنامل الفنان الذي صنعها، وتتملص من ألوانها الزيتية، تفضّل الطين البارد القذر بلونه الممل وقوامه اللزج!

.

أطفىء سيجارتي، أسحب السيجارة من بين شفتيك، وأطفئها، تكفينا حرائقنا!

تمدّ جسدك إلى جانبي، تلّف ذراعك حولي، تغمض عينيك وتحلم بكنوز خبأتها ذات مرة فتاة ما في صدرك…

(عمان)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>