كَنْزٌ في بيسان، كَما جَرى، كما رُوِيَ لي، وكما سيجري/ تسـﭭـي بن دور-بنيت

كَنْزٌ في بيسان، كَما جَرى، كما رُوِيَ لي، وكما سيجري/ تسـﭭـي بن دور-بنيت

حينما تذكّرنا مدينة آبائنا، ربطنا ذكراها بذكريات اللّاجئين الفِلَسطينيين الذين عادوا إليها. وبما أنّنا لم ننسَ اللّاجئين قطّ، فقد حظينا بالعيش في هذا الزمان ورؤيتهم عائدين

  

منذر جوابرة. وسائط متعددة، 140×120، 2005

منذر جوابرة. وسائط متعددة، 140×120، 2005

>

|تسـﭭـي بن دور- بنيت|

|عن العبريّة: الطّيّب غنايم|

حتّى بعد أربعة وعشرين عامًا، وقد صارت امرأة أنجبت أولادًا، سمّوهم بالعبريّة على اسم أجدادهم، ما تزال بشرى تذكر يوم النكبة في بلدتهم، تلك، في ربيع عام 1949.

هكذا كان العراقيّون يتحدّثون عن النكبة، في لياليهم، مع المسنّات على النجيل الأخضر، تحت شجرة منخفضة غُرِسَت في مدخل كلّ واحد من البيوت الثابتة التي بَنَتْها الحكومة، بعد وصول اليهود المغاربة. في ذات الربيع من عام 1949، ليلة قبل عيد الفصح اليهوديّ، ثلاثة جنود فرّوا من جيش المتطوّعين العراقيّ الذي قاتَل في فِلَسطين، قَرَعوا باب بيت أبي لطيف، بالضبط مع بداية عشاء العيد (ليل هسيدر). كانوا من قرية مجاورة لمدينة الموصل، نينوى الواقعة شِمالَ العراق، اجتازوا الصحراء السوريّة الممتدة نحو شِمال العراق، ووصلوا إليها ساعة المساء. محلّة الجول، الحيّ الملاصِق للمجال، للصحراء، كانت إحدى حارَتَيِ اليهود في المدينة، حيث وصلها الجنود الذين دخلوها كثلاثة ملائكة. ولأنّ الليل قد حلَّ، فقد قرّروا المكوث في الموصِل قبل أن يُوَاصِلوا مشوارهم نحو قريتهم، في صباح الغد. وهكذا حَصَل، ففي الوقت الذي قرأَ فيه المشتركون –في بيت أبي لطيف– مقطع “ها لحما” (هذا الخُبز) ودعوا كلّ الجائعين للمشاركة في مائدة الفصح اليهوديّ، سمعوا طرقةً على الباب، ليدخل الجنود. أبو لطيف، الرجل الكريم وصاحب البيت الذي استضاف في بيته زريفة المطلّقة، وكنّتها الأرملة– صالحة، وأبناءها اليافعين– بشرى ويوسف ونوري، قام وفتح الباب وأَجْلَسَ الجنود حول المائدة. بعد أن أكلوا وغنّوا “واحد جِدي واحد جِدي إلي، اشترى لي أبوي بعباستين”، طلب اليهود المُضيفون من زوّارهم غيرالمدعوّين أن يحكوا لهم عن البلاد، عن الحرب، وعن فِلَسطين. اثنان من الجنود، قصيرا القامة، موحشا النظرات، لاذا بالصمت. الثالث، طويل القامة، قسمت جبينه الداكن ندبة حديثة، ويبدو عليه أنّه كان قائدهم، شَرَعَ في الحديث وقَصَّ. استمرّوا في القتال ما يقارب السنة. لبّوا نداء الحكومة العراقيّة للتطوّع والدفاع عن فِلَسطين، ليجدوا أنفسهم ضالّين في الاضطراب العربيّ الذي مَثُلَ أمام اليهود، هناك. أكثر ما أعجبهم كُنَّ اليهوديّات، بيضاوات وشبه عاريات. “يا لقتالهم لنا”، قال طويل القامة، يا لقتالهم. حينما ازدادت الفوضى، قَرَّروا أن يلوذوا بالفِرار وأن يعودوا إلى العراق. ارتدُّوا عن الجيش، نحو الشِّمال، صَوْبَ طبريّة، وشرقًا باتّجاه مَصَبّ نهر الأردن، ومن هناك نحو الصحراء السوريّة. بعد وقت طويل من الحكايا عن بطولاتهم وضائقاتهم، التزَم طويل القامة الصمت بشكل فجائيّ. “لكن رجعتم ووجهكم مسَخَّم”، ها قد عدتم ووجوهكم مسَخَّمة من العار، توجهت إليهم بشرى بصلافة. هي يتيمة في العاشرة من عمرها، بدون رجل في البيت، سمحت لنفسها بأن تكون وَقِحَةً تجاه البالغين، أحيانًا. نظر الجنديّ طويل القامة إليها وابتسم بدون أن ينبَسَ ببنت شفة. حاول أبو لطيف أن يسكتها، لكن طويل القامة نظر فقط، ندبته تزداد شحوبًا والتواءً في منتصف جبينه الأسود، وتشير إلى الابتسامة أسفَلها. فجأةً، تَكَدَّر أكثر وتَحَدَّث على مضض: “هُزِم العرب”. بعد قليل ستنتهي الحرب، و”المزيد من الجُموع ستلحقنا”. ليس من الجنود، شَدَّدَ الجنديّ على الأمر. بل أناس، الكثير من الناس، الذين عانَوا، مثل الجَدْي في “واحد جِدِي”، يشتدّ عراك الحرب، ويُطرَدون من بلادهم. أمضى جميعهم باقي المساء مرتبكين. اليهود الذين لم يعلموا ماذا يفعلون بالنصر اليهوديّ البعيد، والجنود الذين لم يتوقّعوا العودة إلى بيوتهم. في الصباح اختفى الجنود، وذهب أبو لطيف وأبناؤه إلى الكنيس.

بعد شهرين، قد جاءوا بالفعل. قافلة فِلَسطينيّين اجتازوا الصحراء السوريّة حتّى العراق، طيلَةَ أسابيع طويلة، ليدخلوا إقليم مدينة الموصل. لم يكن هناك الكثير منهم، لكن في الآن نفسه، لم يكونوا قلائل. “أكثر من ألفٍ أو ألفين” كانوا يردّدون بعد ذلك بعدّة سنوات، حينما جلسوا تحت الشجرة القصيرة وتحدّثوا عن قدوم الفِلَسطينيّين إلى الموصل. أسكنتهم البلديّة في مستشفى الأمراض المُعْدِيَة “خزرج العزل” الذي بناه الفرنسيّون قديمًا، وتمّ إغلاقه أيّام الحرب العالميّة. دخل قسم منهم إلى غُرَف المستشفى ذاتها، وغالبيّتهم أقاموا في الباحة الضخمة للمستشفى، داخلَ خِيَمٍ قديمةٍ خلّفها الجيش البريطانيّ في المِنطقة بعد رحيله، شبعًا من الحروب العراقيّة، واختبأ من حول العاصمة بغداد.

كانوا من بيسان. “من هنا”، كما كانوا يقولون سنوات بعدها عندما جلسوا تحت الشجرة القميئة. كانوا من بلدة ريفية، عاصمة السهل المخضرّ في ضواحي الصحراء شِمال غور الأردن وجنوب طبريّة. من المدن الأولى التي استوطن فيها الإنسان القديم، لم تتوقف حركة البشر فيها لآلاف السنين حتى تمّ اقتلاع أبنائها الفِلَسطينيين منها. مدينة أحبّها الرومان بشكل خاصّ، حيث أقاموا فيها المسارح والحمّامات وبيوت الدعارة والقصور. مدينة اشتملت على مدرّج رومانيّ فوق نبع مياه دافئة، السخنة، نزلت منابره حتّى خط المياه؛ ليتمكّن المشاهدون من تحريك أقدامهم في الماء في أثناء مشاهدتهم العروض المسرحيّة. مدينة كان تحريك الينابيع الكثيرة التي تحيط بها مصدر راحة سكّانها، إلى أن تمّ طردهم فتركوها وتنقّلوا في الصحراء حتى وصلوا الموصل.

قبل وصول البيسانيين إلى الموصل كان الجميع يعرفون ما حدث في فِلَسطين. ذاعت في أرجاء العراق الشائعات والقصص من الجنود العائدين ومن الصِّحافة حول ما حدث. لكن مع مجيء البيسانيين، فقط، فهم جميع من كانوا في المدينة معنى صمت الجنديّ الطويل وصديقيه قصيرَيِ القامة في تلك الليلة، قبل أن يعلنوا قدومهم. عندما خرج أبناء فِلَسطين إلى شوارع المدينة العراقية الشِّمالية في المرّة الأولى، التفّ جميع أبناء المكان، مسلمين ومسيحيّين ويهودَ، بالحَيرة نفسها التي غشَت بيت أبي لطيف في ليلة العيد تلك التي لا تنسى. كانوا معتادين على حركة الناس في المدينة التي مرّ منها الكثيرون، التي كانت عاصمة إمبراطورية عظيمة، ومن فترة طويلة لم يسكن فيها ستّ مائة ألف شخص، لكنّها كانت لا تزال المدينة العظيمة لله الذي حماها أيام النبيّ يونُس، ولم يدّمرها كما وعد في لحظة غضب. لكن أهل المدينة لم يكونوا معتادين على اللّاجئين. وبالتأكيد، ليس اللّاجئين الذين حملوا في صمت الشارع عار الهزيمة ووصمة التهجير. عندما كان الفِلَسطينيّون يمشون ويتوسّلون الصدقات في الشارع المؤدّي إلى المسجد الكبير، كان كلّ واحد منهم يخجل من نفسه، ويتقوقع داخل نفسه. حتّى المئذنة الكبيرة المائلة، رمز المدينة، والتي كانت موضوع عدد لا يُحصى من نكات البدو والتركمان والأكراد، الذين يحلّون فيها، تبدو، الآن، كما لو أنّها تميل حزنًا على إهانة الفِلَسطينيين وبؤسهم.

كان الحال نفسه عندما كانوا يسمعونهم يطرقون على الأبواب. “إنتو اليهود”، وقد اندلقت اللهجة الفِلَسطينية من أفواههم بسهولة أكبر، ولكن أسرع من النطق الموصليّ البطيء والمعتدل، والذي كان مشتركًا لجميع من كانوا في المدينة. “عندكم رحم”، لديكم رحمة، كانت مقدّمة طلب الصدقة. وكانت تمتدّ اليد من المنزل حاملة سلّة وفيها بعض الطحين، بعض الفاكهة، والخبز، والخيار التعروزيّ الكبير السميك، الذي تمّ إحضاره من النهر أمسِ، ولم يكن هناك أحد ليأكله. في بعض الأحيان كانوا يعطون فلسًا واحدًا وحتّى اثنين. وهكذا كانت الحال لبضعة أشهر.

لم تتعوّدِ الموصل على اللّاجئين الذين جاءوا إليها، ولكنّها لم ترفضهم كذلك. في حيّ اليهود الذي كان بجوار المخيّم المؤقت، وجد اللّاجئون مكانًا خاصًّا. ربّما لسبب أخوة الأقلية بينهم، بين المهجّرين واليهود. وربّما لسبب الحنين. كان لأحد البيسانيين صندوق عرض سينمائيّ مع شرائح صور قديمة من فِلَسطين التقطها أوروبيون. كان يمرّ به يوميًّا وهو يتدلّى من رقبته في شوارع اليهود وهو يصرخ:”صورة فِلَسطين”. وعلى الفور كان يتجمهر من حوله أولاد اليهود. لقاء فلس واحد كان الولد يدخل عينه من عدسة الصندوق، وكان البيسانيّ يحرّك الشرائح: “هادي القدس، هادي يافا، هادا بحر طبريّة، هادا الأقصى، هادا حيط البراق”. هكذا كان يعلن بصمت في أذنيِ الولد الذي ينظر من العدسة. كان يدير عجلة الشرائح بتؤدة إلى أن تصل الصورة الأخيرة “بزونة قاعدة صوب الأقصى” – قطة تجلس بجانب المسجد الأقصى، كان اللّاجئ يعلن بصمت عُنوان الصورة وعينه، الناظر، كانت تنفصل عن الصندوق. بعدها كان الأولاد يركضون باتجاه بيوت أمّهاتهم ويطلبون فلسًا آخرَ ليشاهدوا مرّة أخرى بيت المقدس، وبحيرة طبريّة، والجبال، والقدس. لم يرَوا في حياتهم أرض إسرائيل، وها هي، الآن، تظهر في صندوق ثقيل يتدلّى من رقبة لاجئ فِلَسطينيّ. ولم يعرفوا أنّ عبء الذكريات الذي يحمله أثقل من الصندوق المعلّق في رقبته. لم يعرفوا، أيضًا، أنّهم قريبًا سيشتاقون إلى الموصل ومناظرها، كما اشتاق هو إلى بيسان وينابيعها.

أيام بيت شان اللّاحقة، عندما كانوا يجلسون تحت الشجرة ليتذكّروا، كانت صالحة تروي كيف وصلت اللّاجئة أمّ خضر إلى باحة بيت النساء؛ لتطلب الدواء لحفيدها الطفل الذي أصابته الحمّى، وكيف أرادوا مناداة زريفة من النهر لتنقذه. لم يكن مثيل لزريفة في الأدوية ولم تكن من عرفت اللجوء مثلها. قبل ذلك بثلاثين عامًا كانت هي الأخرى لاجئة. لسبب لعنة حلّت على بيت زوجها بفعل والدتها، اضطُرّت إلى الطلاق منه وترك ابنها تسـﭭـي وهو ما يزال طفلًا. زوّجوها بعبد الله العجوز، وأنجبت له أربعة أطفال ماتوا واحدًا تلو الآخر، إلى أن طلّقها معتقدًا أنّ اللعنة حلّت عليها هي، أيضًا. ثمّ تركت المدينة ورحلت إلى الصحراء وعاشت بين البدو عدّة سنوات قبل أن تعود بعد الحرب العالمية الأولى. عندها كان تسـﭭـي قد كبر وتزوّج بإحدى أخوات حيلاوي، اللّاتي أرسِلن من بغداد للزواج بأبناء المكان؛ ولأنّه كان قد مات على الفور، تقريبًا، دخلت بيته وأدارت حياة كنّتها الأرملة، صالحة، والأولاد الثلاثة الذين وُلِدوا لهما، بشرى ويوسف ونوري. قبل طلوع الصباح كانت تنزل صوب النهر وتشتري الأسماك الأولى التي تمّ اصطيادها، تشويها وتبيعها للرجال العائدين من صلاة الفجر في الكنيس والمسجد. في ساعات الظهر كانت تعود إلى بيت كنّتها الأرملة وتجلس في الباحة لعلاج أبناء البلدة بالهمس والأدوية التي تلقّتها عن البدو في سنوات الصحراء.

كتاب “عودة”

في ذلك اليوم أنقذوا الطفل المريض من بيسان بالشّاي الثقيل الذي استحضروه من زهر الأقحوان، وجلسوا يحرسونه طَوال تلك الليلة، حتّى غفا في سرير يوسف ونوري. منذ أن كانت أمّ خضر تأتي كلّ يوم لتجلس مع زريفة في باحة البيت، وفي الوقت الذي كان يلعب فيه الأولاد كانت كلتاهما تجلسان وتتحدّثان. حينها كانتا قد فهمتا أنّهم لن يعودوا. سافر خضر وباقي الرجال للبحث عن عمل في المِنطقة وجزء منهم وصلوا إلى بغداد، وحتّى إلى الكويت جنوبًا، التي كانت لا تزال في أيدي الإنـﭼليز، والخليج، ولم يكن واضحًا متى سيعودون. وقبل أن يتّضح مصيرهم كان قد حُسم مصير الجميع بالرحيل. سيتمّ إخلاء الفِلَسطينيين إلى مخيّم كبير في بغداد، حيث سيكون من السهل على الحكومة العراقية الإشراف عليهم. وسيُطرد اليهود إلى فِلَسطين. “عرفت، دائمًا، أنّ هذا ما سيحصل”، كانت أمّ خضر تقول لزريفة في إحدى تنهيداتها، التي تتباكى على الصداقة التي فرضها الزمن، والتي ما إن نبتت حتّى كُتِبَ عليها الموت. “كلّ اليهود سيرحلون إلى فِلَسطين وفِلَسطين ستنقلب رأسًا على عقب”. هذا ما كانت تقوله، وتبكي على بيسان، وعلى ينابيعها التي تقطعها، وعلى نخيلها، وأرضها الطيبة، وسهلها الأخضر وبيوتها من حجر البازلت الأسود، التي تركوها في عجلة ولم يتمكّنوا من العودة إليها. تبكي، ومشهد حيّ اليهود الذي يتمّ تفريغه بسرعة يزيد من دموعها، فقط. ثمّ كانت تضبط نفسها وتتّجه إلى زريفة باسم ابنها المتوفّى: “أمّ تسـﭭـي، إنتو ناس طيبين. عندما ترحلون إلى فِلَسطين، اِذهبوا إلى بيسان، لا نظير لها في كلّ فِلَسطين، تركناها وتركنا بيوتها كما هي، وحقولها مخضرة”. في الأسبوع الأخير لهم في العراق جاءت لتودّع وعاودت الحديث عن بيسان، وتلحّ عليهم بالذهاب للسكن فيها وفي بيتها، كأنّ سكن يهود الموصل في بيسان هو، فقط، ما سيعزّي مجتثّيها الفِلَسطينيين الذين ظلّوا في الخلف، في العراق.

“بيسان كالموصل”، كانت تقول لهم، وتصفها مرّة تلو الأخرى، بيسان كالموصل. اِذهبوا وشاهدوا، تركنا كلّ شيء هناك، أراضينا ومالنا وذهبنا. بيسان كالموصل، دافئة وخضراء، وتمرها طيّب.

بيسان كالموصل، كان كلّ سكان البيت يجلسون من حول أمّ خضر ويردّدون لأنفسهم. لم يكن هناك شخص يعلم ما سيحدث، ولم يكن شخص يعلم أن كانوا سيغادرون، فعلًا. وكان من الواضح أنّه أكثر من رغبتها بأن يمكثوا في بيتها، تحدّثهم هكذا عن بيسان؛ لأنّها هكذا وجدت، مجدّدًا، سبيلًا لتغليف ذكرياتها الخاصّة، فرغم رغبتها بعودتهم إلى هناك، هي تريد العودة إلى هناك. لهذا لم يطرحوا الأسئلة؛ حتّى لا يرسموا أنفسهم كسكان مستقبليين، وحتّى لا يتدخّلوا في عمليّة الذاكرة. مرّة واحدة فقط، عندما كان من الواضح أنّه حان وقت الرحيل، قطعت صالحة سيل كلام أمّ خضر: “اِسمعي، يوجد شطّ، يوجد نهر، في بيسان؟” “نعم!” كان جوابها المتلهف. وحكت لهم أمّ خضر عن السخنة ومقاعد الحجر التي تصل تحت المياه، وكان ممكنًا سماع فرحة البيسانيين وهم يحرّكون أقدامهم في النبع. “أنا لن أذهب إلى بيسان”. توهّجت صالحة. “لي ثلاثة أيتام وابنان، عندما يذهبون للسباحة هنا في النهر، أخاف عليهم”.

هكذا حسمت الأمر. لا يُصَدَّق، ولكن هكذا حدث. بعدها بشهرين، بعد ما يقارب العامين من وصول الجنود العراقيين الثلاثة إلى الموصل، وجد الموصوليّون اليهود أنفسهم موزّعين إلى أرباع. ربع في القدس، ربع في طيرة الكرمل، ربع في طبريّة، وربع في بيسان. حينما وصلوا مخيّم “بوّابة الهجرة”، توّجهت صالحة وحماتها وأبناؤها الثلاثة، وراء أبي لطيف، نحو مخيّم المعبر في القدس. سموحة، الأخت الصغيرة لعائلة حيلاوي، توجّهت إلى بيسان. توجّه الكثير نحو بيسان، ولم يكن واضحًا ما إذا ذهبوا لسبب القصص التي سمعوها أم لسبب لدى الحكومة، أو لسبب الأرملة خردوجة، الزعيمة التي برزت في المخيّم، والتي كانت أوّل شخص مع أربعة أبنائها تخرج من الخيمة وترحل إلى بيت شان.

بالنسبة إلى الموصليين من بيت شان، كانت المدينة الجديدة حاضرًا وواقعًا. عام 1956 قدم إليها المغاربة. هدموا المنازل الفِلَسطينية التي كانت وسط البلدة، ووزّعوا أراضيها على كيبوتسات المِنطقة. السكان الجدد من بيت شان تمّ توزيعهم كعمّال بين الكيبوتسات التي استحوذت، أيضًا، على السخنة وأطلقت عليها “غان هشلوشاه”.

بالنسبة إلى الموصليين المقدسيّين، شكّلت بيت شان لهم الماضي والذكريات؛ لأنّهم لم يعيشوا فيها، كانت هي الإقليم الذي صرفت فيه ذكريات الموصل. بعد قدومهم بسنوات إلى القدس، عندما كان من الصعب على صالحة أن تربّي أطفالها الثلاثة من أجرة الأعمال المتدنية والتنظيف، سافرت حماتها، زريفة، فجأة إلى بيت شان. إلى اليوم، لا يعرف أحد ما إذا كانت، فعلًا، ذهبت إلى هناك للبحث عن كنز فِلَسطينيّ بيسانيّ عرفت مكانه السرّيّ وهي بعدُ في الموصل. ولكن بعد ثلاثة أسابيع عادت إلى القدس بخفّي حُنين، وحكت أنّ خردوجة شيّدت منازل جميلة لكلٍّ من أبنائها الأربعة. منذ ذلك الوقت بدأ يحكي الناس في الموصل عن الكنز الفِلَسطينيّ في القدس، الذي تمّ العثور عليه أو لم يتمّ العثور عليه، والموجود أو غير الموجود في بيت شان. وهكذا ارتسم في مخيلة الموصليين المقدسيين ذكر بيسان، مكان الكنز، مع واقع بيت شان، المدينة الجديدة.

بعد عام سبعة وستين بدأ المقدسيّون بالقدوم بانتظام إلى بيت شان كلّ صيف. كانوا يقطعون غور الأردنّ في حافلة بطيئة، ويذهبون لزيارة أقاربهم في بيت شان. كانوا يقضون كلّ الصيف هناك. صالحة وسموحة وكلّ النساء كنّ يسافرن إلى جنين القريبة، المحتلة، لشراء الأقمشة، “وشمّ الهواء”، هواء عربيّ. وكان الأطفال الموصليون مواليد بيت شان، يأخذون معهم الأطفال الموصليين مواليد القدس؛ لرؤية المدينة القديمة، والبيوت المشيّدة من الحجر الأسود، المدينة الرومانية التي بناها العمال من أبناء بيت شان بأمر علماء الآثار من تل- أبيب. والسخنة، التي لم يكن فيها “شطً” بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنّما ثلاث برك مدرجة أحاطت المياه الدافئة التي جرت من بركة إلى بركة، داعية الأطفال للسباحة. كانوا يذهبون كلّ يوم من أيام الأسبوع، وحتى أيام الجمعة؛ حيث كان يأتي إلى هناك أطفال من جنين للسباحة في مياه البرك والجلوس على الدرجات التي كانت تنزل إلى داخل المياه.

كلّ مساء، بعد عودة العمال من العمل والكنيس، وبعد عودة الأطفال من تجوالهم، كان الضيوف من القدس يجلسون مع مضيفيهم البيت – شانيين. وعندما يجتمع أفراد الأسرة تحت الشجرة مثل الأيام التي سبقت النزوح من العراق، كانوا يستذكرون ويتوقون إلى الموصل. كيف كانت أشجار النخيل هناك مثل أشجار النخيل هنا، وكيف كانت المياه هناك مثل المياه هنا. ثمّ تحين اللحظة التي يتجرّأ فيها المقدسيون على سؤال مضيفيهم: هل كان كنز أم لا؟ ماذا وجد الموصليون البيت – شانيون عندما قدموا إلى بيسان؟ في كلّ بيت في حيّ الموصليين البيت – شانيين تناقلوا حكاية الجار، تحديدًا، الذي وجد صندوقًا مدفونًا في الأرض، كيس صغير مثبّت في الحائط. ومن الحديث عن المال كانوا ينتقلون إلى الحديث عن الناس. وهكذا كان البيسانيون يطلعون فجأة من النسيان، وكان جميع أبناء الموصل الجالسين تحت الشجرة القميئة يتذكرونهم ويروون كيف جاء الفِلَسطينيون إلى مدينتهم العراقية في ذلك الصيف اللعين عام 1949. ثمّ كانوا يروون كيف تحوّل المستشفى إلى مخيّم لاجئين. عندها كانت بشرى تحكي لأطفالها حكاية الجنود الثلاثة. عندها كانت صالحة تحكي لأحفادها لماذا لم يأتوا للسكن في بيسان ولماذا حُرموا من السخنة العزيزة. “لسبب الشطّ الذي تحدّثت عنه أمّ خضر، أرادت أن تسعدني ولكنّها أخافتني.” ثمّ كانوا جميعًا يستمعون إلى حكاية آلة الصور المتحركة، وكانوا يقلّدون صوت اللّاجئ وهو يعلن بهدوء عن آخر صورة “بزونة قاعدة صوب الأقصى.” وكان جميعهم يبحرون، أبناء الموصل من بيت شان ومن القدس على حدّ سواء، في القصص التي رواها الفِلَسطينيون حول بيسان في تلك الأيام الخوالي. وهكذا كان يعود الفِلَسطينيون إلى بيسان كلّ صيف، عودة في الذاكرة، مع مجيء المقدسيين إلى بيت شان.

.

في تلك الليالي تحت الشجرة القميئة لم يكن شخص لم يسأل نفسه في نهاية كلّ ليلة: “أين هم اليوم؟” أين الطفل الذي كاد يموت، أين خضر، وأين أمّ خضر. وأين أطفالهم الذين ولدوا في المنفى. وهكذا كانوا يسألون كلّ عام لعدّة سنوات بدون انقطاع، حتّى جاء يوم سألوا فيه بصوت عالٍ وبهدير يتعالى ويكبر هزّ البلاد والحكومة وقوّض أسس الدولة. وانشقت المِنطقة كلّها من الضوضاء، وانفصل العالم، وبدأت عودة الفِلَسطينيين إلى البلاد. وعودة البيسانيين إلى بيسان.

نصفهم قدموا من بغداد بعد أن مكثوا سنوات عديدة في دول الخليج. كان هؤلاء أوّل العائدين. بعدهم قدم آخرون من مخيّمات اللّاجئين في سورية والأردن، وجاء جزء صغير في وقت لاحق من الدول الغربية. لم يكونوا كثيرين، ولكن لم يكن عددهم قليلًا. خمسة–عشرة آلاف شخص. وهذه المرّة لم يكن هناك ثلاثة جنود بشروا بمجيء البيسانيين إلى بيت شان، ولم يكن هناك مستشفًى للأمراض المُعْدِيَة استقبلهم. قامت حكومة الدولة الجديدة ببناء ثلاثة أحياء كبيرة جديدة في الحقول التي أخلتها الكيبوتسات المحيطة ببيت شان. تمّ ترميم الأنقاض التي كانت وسط البلدة القديمة وإعادة إيواء مجلس المدينة الموّحدة والمحكمة فيها. بيوت الحجر السوداء التي ظلّت على الطريق المؤدّي إلى طبريّة تمّ تنظيفها وتركها. ظلّت على حالها، وهناك من كانوا يأملون إعادتها إلى أصحابها الذين سكنوا فيها، مرّة، بشكل فعليّ.

قام المستَوعَبون باستيعاب المستوعِبين، أيضًا. تدفّقت الأموال إلى المدينة. لِمَ الخجل. الطرق التي شُقّت بين البحر الأبيض المتوسط​ ​وآسيا، مرّت عبر المدينة ووصلتها بالبلاد التي كانت موجودة في الجانب الآخر من نهر الأردن. بعد خمس سنوات من التوحيد والعودة، كان من الممكن السفر من حيفا إلى طهران عبر الشام. قطع المسافرون نهر الأردن في بيسان ونزلوا فيها، حيث بدأ تشييد العديد من الفنادق فيها. أنشأ طبيب ثريّ عائد من الدول الغربية مستشفًى كبيرًا في المدينة، وبالأموال التي وردت من الأمم المتحدة بنوا أربع مدارس جديدة. في البداية درس فيها العائدون من سورية وبغداد، ولاحقًا، أيضًا، الأردنيون. وبعد بضع سنوات درّسوا فيها بكلتا اللغتين، حيث امتلأت الصفوف الدنيا بخرّيجي الصفوف الأُولى من حضانات الأطفال المشتركة، من أطفال يهود ومسلمين. في المستشفى تعافوا جنبًا إلى جنب منذ زمن. بعد مرور عشر سنوات، أسّس يهوديّ موصليّ مقدسيّ بيتشانيّ وكاتبة مشهورة من جنين، تزوّجت ببيسانيّ عائد، “كلّيّة السخنة للثقافات العالمية”؛ ثمّ سمّيت، بعدها، “كلّيّة السخنة للثقافة العالمية”، والتي ذاع صيتها ليس بفضل الطلاب والمعلمين، فقط، ولكن، أيضًا، بفضل العلماء الذين جاءوا لزيارتها والتجول بين بركها الثلاث المدرجة مع الطلاب. جاءوها من كلّ مكان في المِنطقة، من عمّان وتل-أبيب وحيفا والناصرة ودمشق، ويقولون من بيروت، أيضًا. بعد بضع سنوات، تمّ انتخاب نجل الكاتبة المشهورة ليكون أوّل رئيس بلدية فِلَسطينيّ للمدينة منذ العودة.

سموحة التي قدمت من بغداد إلى الموصل ومن الموصل إلى بيسان توفّيت في بيت شان قبل وقت طويل من العودة. لكن أحفادها وأحفاد صالحة أختها، التي قدمت من بغداد إلى الموصل ومن الموصل إلى القدس، لم ينسوا أمّ خضر. صار المقدسيون، الآن، يزورون بيسان مرّات أقلّ بكثير، ولكن عندما كانوا يأتون كانوا يجلسون تحت الشجرة القميئة وكانوا يدردشون ويتذكرون. أحيانًا، كان ينضمّ إليهم أحد الجيران الفِلَسطينيين العائدين الذين سكنوا في الحي، وكان يحكي عن العراق وعن الموصل خاصّتهم التي لم يكن يعرفها حقًّا، ولكن كان يتذكّرها من قصص أيام اللجوء الأولى. وعند نهاية كلّ مساء كهذا لم يكن مسنّ بينهم لم يتساءل بصمت أين عائلة أمّ خضر؟ الأمّ ماتت، بالتأكيد، ودُفنت في المنفى، لكن أين خضر، وإذا كان هو الآخر مات فأين الطفل الذي كاد يموت. البيسانيون العائدون الذين سُئِلوا حاروا جوابًا. قالوا إنّ العائلة اختفت في الخليج أو اختفت في الكويت بعد حرب عام 1991. لم يعرف شخص شيئًا. لمّا قاموا بالمسح الأوّل، بأمر الحكومة الجديدة، ليروا أيّ العائلات عادت، اتّضح أنّه لم تعُد كلّ العائلات، وكانت عائلة أمّ خضر من بين الذين لم يعودوا. في العام نفسه تجمّع بعض أحفاد سموحة وصالحة، من بيسان-بيت شان والقدس، ورفعوا التماسًا للبلدية لتحويل البيوت الحجرية السوداء على طول الطريق المؤدّي إلى طبريّة، إلى “منزل تذكاريّ” للعائلة ولجميع أولئك الذين اختفوا أو لم يعودوا. “ذكريات بيسان من أمّ خضر التي تعالت في الموصل، وذكرياتها التي تتعالى كلّ صيف في بيت شان، بلورَت حياتنا”، قال أحد أحفادها خاطبًا، “وذكريات الموصل لم تنقطع، قطّ، عن ذكريات بيسان”.

حينما تذكّرنا مدينة آبائنا، ربطنا ذكراها بذكريات اللّاجئين الفِلَسطينيين الذين عادوا إليها. وبما أنّنا لم ننسَ اللّاجئين قطّ، فقد حظينا بالعيش في هذا الزمان ورؤيتهم عائدين.

(نُشرت هذه القصة بالعربية والعبرية في كتاب “عودة” الصادر عن “زوخروت”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>