خمس حكايات قصيرة عن “الست”

والشّيخ كان يؤمن أن الألحان يُنْشِئها الرّجال، لكن يُجَوّدها النِساء، وأم كلثوم كانت بالنسبةِ له أعظم المُجَوّداتِ من نساءِ العَرَب، ولذلك كانَ يَخافُ عليها، ويَعتقد أنها لن تُعَمّر في الحياةِ كثيراً، لأنها، كَما قال، “تُغَنّي بدمها”، تَحرق نفسها في الغِناء، بكل رَوْحها.

خمس حكايات قصيرة عن “الست”

| مدونة: من نور الخيال* |


أنا لَمَّا حَبّيتَك خَطَر على بالي
تَقول الحِكاية، أن النّاس اشتروا تذاكر الحفل الأخير لأم كلثوم، والذي سيُقام في فبراير 1973، وحينَ لم تَعُد قادرة على مُغالَبَة مَرضها، والحِفاظ على صورتها، “السّت”، بكُلّ ما تَحْمَله الكلمة مِن كَمَالٍ، قرّرت إلغاء الحَفل، وقامت الشركة المُنَظّمة بفتحِ شِبّاك التذاكر، لإعادة ثَمَنها إلى الجمهور…
(1)
واللّي هَوِيته اليّوم دايم وصاله دوم
يَذْكُر عارفو الشيخ “أبو العلا محمد”، أنه كان شديد الخوف على أم كلثوم، ويتوقّع لها حياةً قصيرة.
كان هو واحداً من أهم المُجددين في الموسيقى العربية مَطْلَع القرن الماضي، من أوائِل من أدركوا أهمية التوافق بين الكَلِمَة واللّحن، وكانت هي الفتاة الريفية، التي تمتلك صوتاً عظيماً، رآه الفرصة الحقيقيّة بالنسبةِ له كي يُعيد الغناء العربي إلى تُراثِه، ويَبعث الرّوح في الموسيقى الشرقيّة بعد قرون كادت فيها أن تَنْدَثِر .
والشّيخ كان يؤمن أن الألحان يُنْشِئها الرّجال، لكن يُجَوّدها النِساء، وأم كلثوم كانت بالنسبةِ له أعظم المُجَوّداتِ من نساءِ العَرَب، ولذلك كانَ يَخافُ عليها، ويَعتقد أنها لن تُعَمّر في الحياةِ كثيراً، لأنها، كَما قال، “تُغَنّي بدمها”، تَحرق نفسها في الغِناء، بكل رَوْحها.
لم يرها وهي، في مَرحلةٍ لاحقة، تُغنّي بكلّ جُزء في جسدها، يَدها، وجهها، حركتها، تَضْحَك وتَبكي مع كل كلمة تَنطقها، لَم يَر، ولكنه كان يعلم مُبكراً ما هِيَ عليه.
لم يَمر وقت طويل قبل أن يُصاب الشيخ بالشلل في عُمرٍ صغير، توقف عن الغناءِ والتلحين، ومُتابعة مشروعه مع أم كلثوم، اكتفى فَقَط بأن أطلقها، ساعدها في البداية، وبقى معها لخمسِ سنوات، ثم تركها وهو يعلم إلى أين سَتَصِل.
والشّيخ مات، وبَقت السّت.
(2)
وإيه يفيد الزّمن مع اللي عاش في الخيال
ذاتَ يوم، بعد أربع سنوات من لقائهما الأول، جَلَسَ أحمد رامي وقرّر أن يَكْتُب لأم كلثوم كُل ما يَحمله قلبه نحوها، ويُحَاول أن يصل إلى نهايةٍ واضحة لكُلّ هَذا، ولَم يَقُم من على كُرسيه حتى انتهى، وفي الصّباح ذهبَ إليها يَحْمِل كِتابَه، وقرأ عَليها “إن كُنت أسامح وآنسى الأسية”، وحين وَصَل إلى “اوعى تجافيني يا نور عينيّ أحسن بعادك يهون عليّ”، أدمعت عيناها.
في وقتٍ قريب من هذا الصباح، نَظمَ القصبجي لَحناً مُدهشا للكلماتِ، وأم كلثوم وَضَعت فيها جُزءًا من روحها، لتغنّيها على المسرح أول مرة، فيُرَى الحضور وقد مَسّت في كُل منهم ضالاً يُلاحقه، حُلماً لا يَكْتمل ولا يُترَك، فأصبحت أنجح أغاني العشرينات كُلها، وباعَت، حين طُرحت على إسطوانات، رُبع مليون نُسخة، وكانت هي اللحظة التي أصبحت فيها “السّت” على القِمّة التي بقت عليها للأبد.
وليست الحِكاية هُنا عن نجاحِ الأغنية، أو صعود أم كلثوم، ولكنها عن رامي، الشاعر الذي بقى مُحباً لخمسين عاماً أو يَزيد، والذي لم يَكُن سعيداً حين وَقف مُشاهداً نجاح “إن كُنت أسامح” في المسرحِ أول مرة، وهي تَمَسّ في الحضور وتراً موصولا بجرحٍ عند كل منهم، لأن، ببساطة، كانت هذه هي آلامه هو، وجراحه هو .
وما قد يُرى من تِلك الحِكاية، هي الصورة الأسطورية عن “أم كلثوم”، المُتْوَحَشّة، التي جَمَعت مُحبّيها حَولها، تَمُص دَمُهم، مجازاً ليس بعيداً عن الأسطورة، من أجل البقاءِ على القمّة.
ولكِن، أم كلثوم التي ظَلّت لا تُغنّي أي قصيدة لشاعرٍ حَي لسنواتٍ طويلة، حفاظاً فقط على شعور رامي، أسمته “شاعرها وخلِيلُها” حين سُئِلَت عما يعنيه بالنسبة لها، أم كلثوم التي لَم تُحِبُّه، ولكنها لم تُبدِ في أي وقت عدم احترام لمحبّته، وتركت له حريّة القُربِ والبُعد دوماً.
أم كلثوم لم تَكُن مَصَّاصة دِمَاء، وإلاّ لما بَقى كُرسي القصبجي فارغاً بعد وفاته؟
(3)
هُوَ انتَ تِقدر .. تِقدر تِسلاني ؟!
 
القصبجي أحب أم كلثوم، لأن الجميع يُحِبُّون أم كلثوم! الجاذبيّة الأنثويّة الخاصة التي تَحملها، الخَلِيط المُدْهِش بين الكِبرياء والدَّلَع، ما يدفع الرّجال، ليس فقط لأن يحبّوها، ولكن أن يفضّلوا دوماً البقاءِ بقربها، مهما بدا ذلك قاسياً وصعباً.
ولَم يَكُن القصبجي يَعلم أن “رق الحَبيب”، من أواخِر ما سيُلحنه لها، بعد عشرين عاماً من الرّفقة كان فيها أعظم مُلحنيها، ولكنه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يعرفه عن الموسيقى، وعن العِشقِ، ثُمَ نَضَب، أو رأت أم كلثوم ذلك، وظَلّت على مدارِ سنوات تُشجّعه على مُحاولة التّلحين لها، ثُمّ ترى أن ألحانه صارت مُفتقدة للبصمة التي مَيّزته.
كانت أم كلثوم لا تَطِيق الفَشَل، ولذلك لم تَرِد المُخاطرة، بقى بجانبها أستاذاً ومُعلماً، كما وَصفته دوماً، مُديراً لفرقتها، وعازف العود الوحيد، سَيّد عازفي العود في القرنِ كاملاً، ولكنه لم يُلحّن لها منذ نهاية الأربعينات.
مات قصب في مارس 1966، قَبل أن يَحضر أعظم نَجاحات أم كلثوم، في الحفلة التي تَلَت وفاته مباشرةً، حينَ غنّت “الأطلال” لأولِ مرة، كان كُرسيه فارغاً لا يَحمل سوى عوده، والفرقة ظَلّت خالية من عازِف لأربعِ سنوات كاملة، وحين سُئِلَت “السّت”، أجابت بأن الكُرسي خالٍ من جسده فقط ، ولكنها تَشعر بروحه تُصاحبها دَوماً أثناء الغناء على المسرح، وتشعر بالرّهبةِ منه.
(4)
وإن مَرّ يوم من غير لُقياك… 
بنهاية الأربعينات، بدا وكأن رياض السُّنباطي قد تَسَلّم أم كلثوم يداً مِن يَدِ الأساتذة، كانت قد توقّفت عن الغِناء للقصبجي، وجرى الخِصام الطويل بينها وبين الشّيخ زكريا على خلافٍ مادِي، لم يَبْقَ غير السّنباطي، وكان كافياً.
طوال الخَمسينات، لَم تُغَنّ أم كلثوم سوى سِت أغنيّات من غيرِ ألحانه، والأبعد من ذَلِك، أنه كان يُدَقق في ألحانِ غيره، لأن الوقت جَعلهما لا يَنْفَصلان، لَم يَعُد يُلَحّن لغيرها، دونَ حُب القصبجي الذي أفقده رَوحه، ولم تَعُد تغني لغيره، إلاّ فيما نَدَر.
مع بداية الستّينات، أدركت أم كلثوم أن الوقت يَمُر، وأن المِياة تَجري، وأنها يَجِب ألاّ تَشِيخ، لذلك فقد قرّرت أن تبدأ مَرحلة جديدة، تقترب بها أكثر من رَوحٍ شبابية، مثّلها شِعراً عبدالوهاب محمد ومرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي، ومثّلها لَحنا بليغ حمدي.
والسّنباطي لَم يَكُن راضياً عن كُل هذا، وجرى الخِصام القصير بينهم مَطلع الستينات، و الذي امتد لعدة أشهر، بعد رَفضه تَلحين أغنية ذات كلمات مُبتذلة كـ”حُب إيه”، بل ورفضه لغنائها لها لأن ذلك لَيس من قيمتها، ومُهاجمته لِلَحنِ بَليغ، الذي لا يَلِيق بـ “السّت”.
صالحته أم كلثوم لاحقاً، وبقى بالقربِ، ليس مُلحناً وحيداً، ولكن ظل الأكثر كَثافة، ورأيه هو الأهم فيما تُغَنّيه، رُبما لَم يَكُن راضياً عن “سيرة الحب” و”ألف ليلة وليلة”، بالتأكيد كان يغضب، مثلي، من “الحُب كله” و”حَكَم علينا الهَوى”، ولكنّه في المُقابل لَحّن لها “لسه فاكِر” و”ليلي ونهاري” و”القلب يعشق كُل جميل”، أعادَ تقديم “أراكَ عَصِيّ الدّمع” بلحنٍ مُدْهش الجَمال، وهو، قبل كُل شيء، قَدّم لها “الأطلال”.
وحِينَ رحلت أم كلثوم، لَم يُلَحّن السّنباطي بعدها، عجوزاً كان يَخْجِل من البُكاء، تَرَكَ العود لستِ سنواتٍ بقت في حياته، ومات بالرّبوِ عام 1981، قبل أن يَصِف كُل ما مَرّ به لسبعة عقود أو يزيد بأن “قصة حياتي هي أم كلثوم” .
(5)
يورد على خاطري كُل اللي بينّا اتقال
 
كان هُناك بيرم والشّيخ زكريا، ولاحقاً صار هُناكَ محمد عبد الوهاب، مَرّ صلاح جاهين وكمال الطويل ومحمد الموجي، الشوقيّات التّسع، وقصيدة ناجي العَظيمة، وفي كل هذا كانت هِيَ، “السّت” وكَفَى.
… والنّاس، الذين اشتروا تذاكر حفلها الأخير، لم يَرُد أي منهم تذكرته بعد إلغائه، وبقى الجميع مُحافظاً على مَكانِ كُرسيه، بانتظارِ عودة “السّت” لإقامة حَفلها من جديد.
وما تبقّى من كل هذا هو الحِكاية الأهم، صوتها الذي يملأ شوارع القاهرة كُل لَيلة، ويُشَكّل جُزءًا من رَوْحِ المدينة، العادة التي أبقى عليها المصريون رغم تغيُّر كُل شيء آخر.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>