بذور الوعي الجديد في إسرائيل / وديع عواودة

بذور الوعي الجديد في إسرائيل / وديع عواودة

في غزة منيت هذه العقيدة العسكرية بفشل ذريع بعدما يئست إسرائيل وهي تنتظر رايات بيضاء لم ترتفع في غزة وهذا ليس فقط نتيجة خلل وأخطاء تكتيكية ارتكبتها الحكومة والجيش في إدارتهما الحرب.

7201426123250

| وديع عواودة |

 بعد خمسين يوماً من الموت المريع  أنهت  تفاهمات القاهرة  الحرب وما لبثت أن أجّجت  حرباً داخلية في إسرائيل وفتحت الباب على مصراعيه لجدل واسع حول جدوى الحرب (ليس حول أخلاقيتها) نتيجتها وإدارتها ونهايتها وتبعاتها وحول التفاهمات.. ما فيها وما غاب عنها. هذه بداية جرد الحسابات في إسرائيل وهي مرشحة للتصاعد مع استمرار هبوط غبار الحرب واتضاح الصورة بوسعها. ربما يكون التوصيف الأدق لهذه الحرب قد جاء على لسان قائد الاستخبارات العسكرية السابق عاموس يدلين قبل نحو ثلاثة أسابيع بأنها انتهت بنتيجة “تعادل استراتيجي” بين إسرائيل وبين المقاومة الفلسطينية. لم يكن هذا العدوان الأول على الشعب الفلسطيني منذ النكبة وربما لن يكون الأخير بيد أن هذه المرة الأولى تخرج إسرائيل بخسائر هامة تتجاوز موت وإصابة جنودها وأضرارها المادية ويرجح أنها تحمل تبعات إستراتيجية الطابع تترك أثراً غير مسبوق على وعي الإسرائيليين حيال القضية الفلسطينية وهذه النتيجة ربما تكون  الأهم للحرب.

بداية العدوان

العدوان الذي بدأ بخرق الاتفاق على إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى القدامى وتبعته حملة كبيرة على حماس في الضفة لم يهدف لضرب حماس والجهاد الإسلامي أو غزة فحسب ولم تنزلق إليه إسرائيل دون تخطيط مبيت. تطلعت  إسرائيل بحكومتها الرافضة لتسوية الدولتين لإطفاء جذوة القضية الفلسطينية ولاغتنام فرصة التحولات السياسية من حولنا وفي العالم لتجهز على كل من يقول  ” لا ” وتفرض إملاءاتها عارضة على الشعب الفلسطيني ما يشبه الفتات. في هذه الحرب وبعيدا عن الشعارات والمزاودات الفارغة  لم تنتصر غزة على إسرائيل من ناحية استرداد الحقوق الفلسطينية السليبة وبالمفاضلة بين خسائر الطرفين مهولة وبمقاييس أخرى لكن العقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية انقلبت على رؤوس أتباعها ومنفذيها. منذ قامت على أنقاض الفلسطينيين اعتمدت إسرائيل على إستراتيجية القوة لتأمين وجودها ” ملجأ آمنا ” لليهود وتحقيق  أطماعها التوسعية وهي نتاج أفكار القائد والمثقف الصهيوني الروسي الأصل زئيف جبوتينسكي الذي عبّر عنها في مقال نشره عام 1923 بعنوان ” الجدار الحديدي- نحن والعرب، وفيه أكد على مبدأ ترهيب العرب بالقوة وباحتلال وعيهم بالحديد والنار. طبق أرئيل شارون عقيدته في تأسيس الوحدة  101 و وبالعمل بمبدأ ” ما  لا يتأتى بالقوة يأتي بالمزيد منها ” . تناوب على تطبيقها قادة إسرائيليون كثر ووزير الحرب الحالي موشيه يعلون عبّر عن تأييده لها قبل أن يطبقها في غزة وسواها في كتابه ” طريق طويلة طريق قصيرة ” حيث يتحدث عن ” كّي وعي ” الفلسطينيين بالقوة المفرطة.

في غزة منيت هذه العقيدة العسكرية بفشل ذريع بعدما يئست إسرائيل وهي تنتظر رايات بيضاء لم ترتفع  في غزة وهذا ليس فقط  نتيجة خلل وأخطاء تكتيكية ارتكبتها الحكومة والجيش في إدارتهما الحرب. هذه بالأساس هي نتيجة  صبر أهالي غزة تضحياتهم التي أبكت القلوب، وصمود المقاومة  وتعلمها من أخطائها في ” عمود العنان” ما يمكنها الوقوف في وجه الجيش غير المقهور بثلاثة حروب بخمس سنوات.

المدفع لا ينفع

هذا الصمود والقدرة على مجابهة عملاق مدجّج بالنار والكبريت من  ” ساسه حتى راسه ” ضرب نظرية ” كيّ الوعي ” وأعادها كيدا مرتدا على شكل بداية وعي جديد يتشكل الآن بدأت تجلياته الأولى تظهر بعد منتصف الحرب. في مقال نشرته ” هآرتس” قال وزير الحرب الأسبق موشيه أرنس ما معناه  أن ” المدفع لا ينفع ”  وحده لافتا  لعدم إمكانية ردع ” الإرهاب” بالقوة. وتجلى ذلك في تأكيد الوزير السابق أوفير بينيس أيضا بوجود أزمة قيادة في إسرئايل محذرا من تأثير توالي الحروب على إسرائيل والإسرائيليين.

 ويعترف المعلق البارز إيتان هابر مدير ديوان رئيس الوزراء الراحل اسحق رابين بأنه لم تعد هناك حروبا إسرائيلية  تنتهي بـ الضربة القاضية( ” النوك أوت” ). وأوضح هابر في مقاله أن إسرائيل لا تستطيع أن تقف على رؤوس أصابعها متأهبة 66 عاما. ويدلل هابر على اختلاف إسرائيل 2014 عنها في عقود مضت بالإشارة الرمزية الهامة لهرب المستوطنين في منطقة ” غلاف غزة ” بخلاف آبائهم في حروب سابقة.

طريق مسدود

” جيد أن النار توقفت ومعها توقفت حالة الحرج الكبير  التي لازمت إسرائيل منذ بدء الحرب في ظل عدم  حصول حسم ولا تسوية  طيلة خمسين يوما”. قال عضو الكنيست نحمان شاي وهو يتوقف عند ما يتجاوز الخسائر الموجعة لإسرائيل أيضا  ليغوص باحثا عن استنتاجات عميقة حول محدودية القوة،جدوى وخطورة طريق الحروب.

وهذا ما أشار له  الوزير يعقوب بيري،رئيس سابق للمخابرات العامة(الشاباك) أنه على القيادة تحقيق الأهداف وهذه لا تتأتى بالضرورة بإطلاق الرصاصة الأخيرة لافتا إلى أن الأمور بخواتيمها وأن الامتحان بالخطوات السياسية مؤكدا علانية  عدم إمكانية حسم  الصراع مع الفلسطينيين والعالم العربي بعمليات عسكرية وذهب زميله رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين لأكثر من ذلك في صفحته.

 وتظهر بدايات الوعي الإسرائيلي  الجديد  بمطالبة الباحثين في “معهد أبحاث الأمن القومي” شمعون شتاين وشلومو بروم بتغيير السياسة الإسرائيلية، نحو تسوية الصراع بدلا من إدارته. ويعتبران أن ” نشوب جولة حربية ثالثة في غضون ست سنوات يدلل على فشل المفهوم الذي وجّه إسرائيل حتى الآن. وأحسن أستاذ علم الاجتماع في جامعة تل أبيب يهودا شينهاف بوصف حالة إسرائيل باليوم التالي بأنها تذوق الآن طعم هزيمة هي الأكبر منذ تأسيسها بعدما فشلت بتحقيق الأهداف المعلنة للحرب ونجحت حماس بالتغرير بها والانتصار عليها. وهذا غيض من فيض تصريحات لمراقبين ومسؤولين إسرائيليين يمتازون بقدرتهم على الرؤية والاستنتاج ولا نؤسس الاستنتاج الأهم هنا على ناشطي سلام أو  مزاودات الحربجيين والشعبويين أمثال وزير السياحة وزملائه ممن اعتبروا النتيجة هزيمة لإسرائيل وكانوا يرغبون باحتلال غزة وتدمير مقاومتها. وهذا هو المزاج السائد في الشارع الإسرائيلي كما يظهر أيضا  في آلاف التعقيبات المحبطة على الشبكة.

دروس حماس

بخلاف ما يزعمه مراقبون ومثقفون فلسطينيون من المدمنين على تلويم المقاومة لم يكن ممكنا بلوغ هذه الحالة لو  رضخت وقبلت حماس مقترح الهدنة المصرية كي تتحاشى الموت والدمار “. بالمقابل تخطأ  حماس خطأ كبيرا إن ظنت أنها معفية من الدروس الميدانية والسياسية والإستراتيجية وهي ومعها كافة فعاليات غزة يستطيعون التأثير على الوعي الجديد في إسرائيل وهو قيد التشكّل قبل أن تجف ” الماغما ”  بتوجيه رسائل تساهم في فضح أخطاء وجرائم قادة إسرائيل وتشكيك الشارع بها مفادها أن بالهم لن يهدأ إلا إذا خرجوا من الجيتو واستعادوا حقهم بحياة حرة وكريمة وبالاتفاق على إنهاء احتلال 67. بعيدا عن عنتريات شعبوية فارغة  وعمياء تستغلها إسرائيل لإطالة عمر الحصار وتجعل من حماس داعش الفلسطينية. ربما تدرك حماس أكثر فأكثر بعد التجربة القاسية حيوية الاعتراف بالأشقاء وبالمختلفين عنها ممن يلتقون معها في قواسم مشتركة كمقاومة الاحتلال، وبأن وزر فلسطين أكبر وأغلى منها وأن البندقية وحدها لا تكفي مثلما أن المفاوضات وحدها مضيعة للوقت وخطر عليها وعلى القضية الوطنية.. فهل يطير الطير إلا بجناحيه؟

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>