اللغة أمنا/ وديع عواودة

اللغة أمنا/ وديع عواودة

عندما نأخذ بالحسبان استمرار هذه “الخيانة ” للغة تورث كالأرض، من الكبار، ربما لا تكون حاجة لقوانين فاشية كهذه حتى تصبح العربية غريبة وثقيلة بالنسبة للأجيال القادمة

arabic

.

|وديع عواودة|

قدم عضو الكنيست من حزب “إسرائيل بيتنا” شمعون أوحيون ونواب آخرون من حزب “الليكود” الحاكم مشروع قانون لجعل العبرية لغة الدولة الرسمية الوحيدة وإلغاء صفة الرسمية عن اللغة العربية.

يحاول مقدّمو القانون المقترح تبريره بالإشارة لضرورة ضمان “لحمة اجتماعية أكثر وبناء هوية جماعية في الدولة” ومثلهم بذلك مثل من يختبئ خلف أصبعه فهويتهم السياسية والدينية المتشددة تفضح مآرب قومويّة لن تفضي إلا لما هو عكس اللحمة بين مجموعتي المواطنين في إسرائيل.

ينسجم مشروع القانون العنصري مع توجهات وسياسات المؤسسة الحاكمة بدهس حقوق الآخر ويتغذى منها ويغذّيها. لا عجب بتطاول برلمانيين إسرائيليين على لغة الأم لأقلية قومية تتعرض لتشكيلة واسعة من الاعتداءات أججّتها الحرب الوحشية على غزة. عندما تتواصل اعتداءات “تدفيع الثمن” على العرب ومقدساتهم على طرفي الخط الأخضر كل يوم ويبقى المجرمون طلقاء يصبح التطاول على لغتهم أمرا طبيعيا وحلقة في مسلسل سبق “الجرف الفاشل”.

كيف لا تصبح العربية “لغة عدو” ينبغي تهميشها ومحاصرتها عندما يصمت رئيس الحكومة وبقية رؤساء الدولة على “محاكم تفتيش” عن عرب ويهود يتم إبعادهم عن العمل لمجرد احتجاجهم اللفظي على إراقة دماء أطفال ونساء، يدعّي الجيش اليوم أنه يحقق بمائة جريمة منها. كيف لا تصبغ العربية حروفا في دائرة الاستهداف ونصف القيادات السياسية العربية ملاحقة بالمحاكم على مخالفات مبالغ بها تنسب لهم بدوافع سياسية.

كيف ستنجو العربية من الملاحقة والهدف الحقيقي المساس بأصحابها، إخضاعهم وتدجينهم ودفعهم للتسليم بالفتات ضيوفا في أوطانهم بعد نحو خمسين قانونا غير ديمقراطي شرعته الكنيست منذ انتخابات 2009 في محاولة لحسم يهودية الدولة وتحويلها لحقيقة يسلم بها الإسرائيليون ومَنْ يُخَطَّط لهم التأسرل فتغدو دولة ديموقراطية لليهود ويهودية للعرب؟

ويذكّر القانون المقترح بقوانين النكبة والدولة القومية وبنظم قانونية بادر لها وزير المواصلات يسرائيل كاتس (ليكود) قبل سنوات تقضي بشطب الأسماء العربية للمواقع على لافتات الشوارع واستبدالها بالتسميات المعبرنة بأحرف عربية.

وأحسن مجمع اللغة العربية في البلاد بإطلاق عريضة تدعو لصيانة العربية لغة رسمية تستذكر كيف تم قبول اللغةِ العبرية كلغةٍ رسميةٍ من الإنجليز إلى جانب اللغتين العربية والإنجليزية في فترة الانتداب.

لا تنحصر تبعات مشروع “تدفيع الثمن اللغويّ” المخالف للمواثيق الدولية بالمساس بمكانة لغة السكان الأصليين وحقوقهم الثقافيّة وتراثهم وخصوصيّتهم القوميّة وهويّتهم الوطنيّة فحسب، إذ ينطوي على دلالات عملية ونتائج سلبية على حقوق مدنية تتعلق بالحياة اليوميّة لأنه يعني إعفاء مكاتب الحكومة من نشر تعليماتها وأنظمتها بلغة الضاد.

كما في مفارق ومنعطفات أخرى للصراع على الرواية والحقوق يشهد الجدل حول مشروع القانون الجديد مفارقات مثيرة يتفوق فيها الواقع على الخيال أحيانا. فيما ينبري إسرائيليون يهود للدفاع عن العربية والتصدي لمشروع تهميشها، لإدراكهم جماليتها ومنفعة قبولها لغة مركزية لحياة مشتركة حقيقية داخل إسرائيل ومع محيطها العربي كما يتجلى في قراءة ردود فعلهم على العريضة في الشبكة، فانّه يُسقط بعض أبنائها بالمشاركة في الهجوم على لغة أمهاتهم وشعبهم وحضارتهم.

من هؤلاء المعدودين علينا عضو الكنيست عن “إسرائيل بيتنا” لاعب الكاراتيه الساكت البالع لسانه حمد عمّار، أحد المؤيدين لمشروع تهميش العربية. وهذا الأسبوع كشف عن تورّط مدير مستشفى نهاريا د. مسعد برهوم برسالة أصدرها المشفى تفرض على العاملين العرب، بالأساس، عدم التحدّث بلغتهم الأم. وهي محاولة تنبع من منابع أصحاب مشروع القانون إياه، وتهدف لوضع العربية في منزلةٍ أقل من اللغة العبريّة كما أكد مركز “عدالة” في مذكرة اعتبرت تعليمات المشفى، المؤسسة الأكثر إنسانية، “قمعًا” لحقّ عاملي المستشفى باستخدام لغتهم الأمّ.

ويبقى عمار وبرهوم ومن قبلهما غالب مجادلة الذي رضي بارتداء زي الوزير بعد استقالة أوفير بينس من وزارة الثقافة احتجاجًا على حرب الرصاص المصبوب، مجرّد أفراد يؤدّون ما يخطط لهم ويعاملون في نهاية المطاف بذات المعاملة وينظر لهم بنظرة أسوأ من النظرة لبقية شعبهم.

ويبقى السؤال الأهم ما يتعلق بالمجموعة وبظلم ذوي القربى؛ فالعرب يشاركون في استباحة العربية بأشكال شتى. قبل سنوات استضفنا زائرا صحفيا فرنسيا من أصل تونسي أخذته الدهشة وهو يقرأ اللافتات المكتوبة بالعبرية داخل أزقة القرى العربية وفي قلب أحيائها الداخلية مشيرا لوجه الشبه بيننا وبين التوانسة من ناحية فرنسة لغتهم. في سري كنت أقول إلى أين ستأخذه الدهشة لو اطلع على مكاتبات الموظفين ومديري أقسام المعارف والمعلمين أو سمع المثقفين العاجزين عن التعبير عن أنفسهم بعبارة واحدة كتابة أو شفاهة تخلو من العبرية والعامية والمفردات الهجينة؟ تكاد لا تجد واحدًا من خمسة مثقفين يخاطبك بالعربية بالمكاتبات الإلكترونية ولا يعتذر عن عدم وجود أحرف عربية في حاسوبه أو جواله. عندما نأخذ بالحسبان استمرار هذه “الخيانة ” للغة تورث كالأرض، من  الكبار، ربما لا تكون حاجة لقوانين فاشية كهذه حتى تصبح العربية غريبة وثقيلة بالنسبة للأجيال القادمة وهذا كرهان إيهود براك حول موت الكبار ونسيان الصغار بفارق واحد جوهري أنّ الثاني من صنع أيديهم والأول من صنع أيدينا وأشدّ خطرًا، لأنّ التهديد من الخارج من شأنه أن يعود كيدا مرتدا على مطلقيه لأنه ينبه ويدفع للتمسك بما هو مستهدف فهل نسارع لحماية أنفسنا من أنفسنا؟

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>