قيثارة لن تتوقف عن العزف/ وديع عواودة

قيثارة لن تتوقف عن العزف/ وديع عواودة

سميح قصيدة ورواية وتراث، مات مطمئنا بأنه باق في وجدان أمته… “حُط إيدك على قلبك اللي بتحبّه بحبك.. وأنا أحبّ هذا الشعب ولذا أنا متأكد أنه سيبادلني حبًّا بحبّ”

sameeh

.

|وديع عواودة|

 

وديع عواودة

وديع عواودة

بطبيعة الحال قيل وسيقال الكثير عن الراحل سميح القاسم المتوّج بألقاب كثيرة من شاعر الشعب حتى شاعر العروبة. عرفت سميح الإنسان أكثر من سميح الشاعر وبفراقه المبّكر فقدنا صديقا ومثقفا وسياسيا مناضلا. زاملنا الراحل في صحيفة ” كل العرب ” التي تولى رئاسة تحريرها منذ مطلع التسعينات وكانت رحلة العمل اليومي معه ممتعة ومفيدة وأهم ما فيها رقي عشرته ومعاملته الإنسانية مع كل أسرة الصحيفة. تعدت الرابطة المهنية علاقة محرر برئيس تحرير وغلبت عليها سمة الإخوة والصداقة. في نطاق العمل والسفر واللقاءات الاجتماعية حظيت بمعاملة الأخ الكبير المرشد. جمعتنا كل يوم جلسة التحرير على طقوس قهوة الصباح ،تقاسمنا الرغيف عند الظهر وافترقنا عند نهاية النهار كما في بداياته بمشاعر الإلفة والمحبة والانسجام. وقدّم سميح الكثير من ثقافته العامة الغزيرة وتجربته الصحفية الغنية في سبيل إنجاح الصحيفة باختيار مواضيعها المستوحاة من هموم وآمال مجتمعه،وبانتقاء عناوين رشيقة تزيّن مضامين رصينة استهوته كما كانت تستهويه السيدات الجميلات الرشيقات. قبل نحو الشهرين التقيناه في لقاء الوداع داخل مطعم في كفر ياسيف وسألنه في نطاق الحديث:

سميح القاسم يعتبر نفسه إنسانا متواضعا؟

فقال واثقا: اجتماعيا أكيد ولكن بالشعر لا لست متواضعا. ليس من حقّي أن أكون متواضعا بالشعر. القرآن الكريم يقول: ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات”. وهذه شهادة حقّ؛ فقد عرفناه نموذجا لتواضع الكبير الغني المعطاء الشاعر المعتد بنفسه وبروحه العروبية الملتهبة وبرؤيته الإنسانية الرحبة فباتت قصائده قلادات في أعناقنا وأهازيج على لسان أمهاتنا وأخواتنا. هي كلمات مقاتلة تشحن شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية بروح التمرد والتحدي والتفوق على الموت والحصار والظلم . كلمات انبلج فيها فجر أدب المقاومة من رماد النكبة ومن عتمة الحكم العسكري سوية مع الراحلين درويش وزياد. ما جاء في قصيدة ” خطاب في سوق البطالة ” مثال على صحة قوله بأنه ليس شاهدا على التاريخ العربي أو مراقبا أو مؤرخا بل هو جزء حيّ من العملية الثورية وعامل في خلق مزاج ثوري عربي. شاعر الشعب، ذاكرته، رايته وروايته.

في هذه القصيدة كما في قصيدة تقدموا المباشرة والحماسية يؤجج سميح مشاعر التحدي والقوة وكعادته تطربك بموسيقاها أيضا.

ربما أفقد ما شئت .. معاشي

ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي

ربما أعمل حجارا.. وعتالا وكناس شوارع

ربما أبحث في روث المواشي عن حبوب

ربما أخمد، عريانا وجائع

يا عدو الشمس.. لكن.. لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم !

ولم يخرج سميح عن تواضعه مع الناس رغم أن الفرصة كانت متاحة ليسطع بنجوميته وسحر شخصيته وقوة لسانه. في 1997 زرنا سوريا ضمن وفد ترأسه الراحل رئيس “المتابعة” إبراهيم نمر حسين وأوكل سميح ناطقا بلسان الوفد، لكنه فضل عدم النطق طيلة الأيام الثلاثة الأولى في الشام كي لا تغطي شمسه على من معه.

زيارة دمشق

وظلّ وفيّا حتى عندما ألحّ أعضاء الوفد ليكون المتحدث الأول في اللقاء مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. خوفا من تشكّل انطباع غير ملائم حرص سميح بدبلوماسيته أن ينطق ولا ينطق فقال للأسد بين جد ومزح: أبا سليمان جئناك من بلادنا إلى بلادنا لنمتلئ بهواء حاضرة الأمويين وعاصمة العروبة. جئناكم عربا مائة بالمائة فكل منا لديه فكرتان وكل ثلاثة منا يشكلون حزبين. تابع سميح وهو يشير ببنانه للراحل إبراهيم نمر حسين: نحن مختلفون كما لديكم وهذا رجل الإجماع العربي عندنا. ابتسم الأسد ابتسامة من فهم الإشارة. وعند المساء وبعدما منح الجميع فرصة الكلام، وكم نحن محبون للكلام، قدم سميح كلمة شاملة معبّرة ومتقنة في بيت د. منصور الأطرش (نجل الثائر الراحل سلطان باشا أطرش) في السويداء عاصمة جبل العرب. ولا يدع سميح لتواضعه أن ينال من جرأته كما تجلى في الزيارة التاريخية ذاتها للشام. وقتها نظمت مكتبة الأسد ندوة على شرف الشاعر الزائر حضرها رئيس اتحاد الكتاب العرب عقلة عرسان ووزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، اللذان قدما لسميح هدية ثمينة لم تشفع لهما إذ وجّه لهما سميح انتقادات لاذعة حول نظرة تعامل العرب المريب مع فلسطينيي الداخل لكونهم يحملون بطاقات زرقاء. “العالم العربي ضيعّنا كالأم التي تركت طفلها بالسرير وهربت”!

مسدس عرفات

وحتى عندما منحه الرئيس عرفات وسام القدس لم يتردّد بتحمل مسؤولية المثقف الناقد فانتقد فساد السلطة الفلسطينية وعلى مسمع قاعة مكتظة بالمحتفلين بعدما مهد بالتذكير بقصة عمر بن الخطاب مع المهاجرين والأنصار وضرورة تقويم اعوجاجه بالسيف. في محاولة لقطع الطريق على سميح بلباقة استل عرفات مسدسه من خصره وألقاه نحو سميح قائلا: لتقومّني بالمسدس! سميح الممتاز بسرعة بديهته امتصّ الضربة وواصل انتقاداته اللماحة بمودّة. لم يؤمن سميح بنظرية المؤامرة وواظب على حيوية تعزيز المناعة الذاتية متسائلا: إذا كان الاستعمار يريدك عبدا فأين إرادتك أن تكون حرّا والصهيونية تريدك قنّا فأين إرادتك أن تكون سيدا؟ وكرر مقولته في كل محفل أن تعليق عيوبنا على حبال الآخرين فيه شيء من الجبن وخيانة الذات والجهل والضعف والتخلف.

الموت

تجلّت شجاعة سميح في مواجهة المرض وترويضه للوحش السرطاني وباستكانته لمعتقده بأن كل نفس ذائقة الموت مسترشدا بالآية: “إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون”. هذه قناعة إيمانية منذ طفولتي ورثتها من جدي وأمي ووالدي وراضي فيها” قال لي في لقاء الوداع منوّها لمخاطبته المنون بواحدة من قصائده الأخيرة: أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافك.. وأعلم أن سريرك جسمي وروحي لحافك وأعلم أني تضيق على ضفافك أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافك.

 آخر الكلام:

وتابع: “هذا شعوري الحقيقي فأنا لا أحب الموت لأني أحب أن أعيش ولكن إذا جاء فأهلا وسهلا وركبتاي لن ترتجفا هلعًا فساقاي ليستا من قصب. لا لن أرتجف هلعًا”. واستطرد مازحًا: “أفضّل ألا يأتي ولكن إن حضر فطزّ عليه. لا تستطيع أن تهرب فكل نفس ذائقة الموت”.

 ولذا لم يوجه سميح ذخائره الخطيرة للصهيونية والاستعمار فحسب فقد ناصب العداء لكل مظاهر التخلف ووظف شجاعته ضد الجهل والولاءات الصغيرة حينما تكبر وتطغى على دائرة الانتماء الجامع. ومن هذا الباب أيضا نذر نفسه جنديا ” استشهاديا ” للدفاع عن اللغة العربية مدركا خطورة غزوها من قبل العامية واللغات الأعجمية على الثقافة والهوية العربيتين.

ولذلك واظب على تقديم الشكر للقرآن الكريم لأنه يحفظ ماء وجه اللغة العربية ويسهم بتعزيز الثقافة العربية ” حصننا الأخير وخط دفاعنا الأول والأخير أمام مخاطر السقوط بأوحال الإقليمية الطائفية والعشائرية” كما اعتاد القول.

أحلام

 حقق سميح الكثير من أحلامه الشخصية وأعزها مشاهدته سميح الثاني حفيده من نجله ياسر لكنه رحل ورحلت معه  أحلامه العامة الكبيرة : الوحدة العربية، حلم تحرير فلسطين، الإسكندرون،الأهواز . أما حلم تحرير مدينتي سبتة ومليلة في المغرب  فظل هاجسا عنده وروى على مسامعي بحرقة : أخذوني قبل سنوات لهاتين المدينتين بكيت في الباص ولم أنزل حينما شاهدت الشرطة الإسبانية .. هناك رأيت حاجزا إسرائيليا كما عند غزة. نزلت من الباص وبكيت “.

 أرّقته الهموم والأحلام العاصية لكنها لم تحرمه الإقبال على الحياة وممارستها بروح شبابية رغم تقدم السنين بل حتى اللحظة الأخيرة. قبيل ساعات من إغماض عينيه في مستشفى صفد طلب من نجله وضاح إحضار شريط موسيقي لبيتهوفن وشريط أغان لفريد الأطرش فسمع ” بساط الريح ” عدة مرات فمات كما عاش محبا للجماليات على أنواعها.

آخر الكلام

سميح قصيدة ورواية وتراث، مات مطمئنا بأنه باق في وجدان أمته… “حُط إيدك على قلبك اللي بتحبّه بحبك.. وأنا أحبّ هذا الشعب ولذا أنا متأكد أنه سيبادلني حبًّا بحبّ”، قال في حديث الوداع وخلاله باح بما في قلبه بأنه مشتاق جدا لمحمود درويش وطيفه لا يفارق خياله. وها أنت ترحل للقاء محمود وتتركنا مشتاقين لك ولمحمود . وعزاؤنا بأنك لم تمت لأنك أخلفت شبابا واعدين، رواية كلماتها باقية شعرا ونثرا. تتبدل الأوراق من آن لآن لكن جذع السنديان لا يتبدل وبعد اليوم جبل حيدر سيبدو أكثر اطمئنانا وخضرة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>