الحُبّ والثَوْرَة/ ياسمين ظاهر

أليس هذا هو الحُب؟ القدرة على ألاّ تتعرف على ما صنعته يداك، أن تندهشي وأنتِ لا تجدين معنًى للمسافة والحدود، وألاّ تعرفي أين تبدأ الـ أنا وتنتهي الـ هي، أين ينتهي الـ هو وتبدأ الـ نحن؟ كيف تحوّلت الجموع إلى جسد واحد، يسير، ويحبّ؛ تكبر وتتغير، وتريد؟

الحُبّ والثَوْرَة/ ياسمين ظاهر


|

|ياسمين ظاهر|

أبدأ من حيثُ لم أعرِف…

تحوّل درسُ الدين بالمدرسةِ، قبل أربعة عشر عاماً، تقريباً، إلى درس فلسفة. كان هذا من دواعي سؤال بسيط ساذج، على الأقل هذا ما خلناه حينها، سؤال: “ما هو الحب؟” ملحوقة بـ “يا أُستاذ”. لم نكن قد طوّرنا بعد آليات المُشاحنة الفكريّة وإمكانات الإحراج الأدبيّة، كلُ ما أردناه هو معرفة خالِصة وحقيقيّة. لم يعرف المُعلم كيف يواجه هذا السؤال المُشاغِب من طالبات مُشاغبات -ممكن التعميم على الصف كحالة شغب- في جيل المُراهقة. فقد فهِم، ضمنياً، كما يبدو، أنّ حُبّ الإله لن يُسعفه سبيلاً، ليس هذه المرّة، وأن عليّه أن يتحلىّ بسلاح آخر. وهو أيضاً لم يكن ليحوِّل السؤال باتجاهنا ويسألنا نحنُ المُجتمِعات بعبثيّة مُطلقة للبحث عن المعرفة في غُرفة دافئة ومُكتظة، ما يعنيه الحبُّ لنا. لو فعل، كان وقعُ الكلمات في الصفّ ليعلو أكثر بكثير على دبيب الصمت الذي حلّ لثوانٍ بعد طرح السّؤال. فقد كانت إجابتنا على سؤال “ما هو الحب؟” ستكون عبارة عن حالة وصفيّة بسيطة، ستشبهُ إنساناً ولن تكون استعارة شعريّة أو تجليًّا هيجيليًّا للحُبّ المُتبادل. وهو لم يكن، حتى وإن تسامح مع جيلنا البائد -المراهقة- ليقضي ثلاثين دقيقة، وهو يستمع إلينا ونحنُ نشرح الحُبّ بإسهاب… ويتلمّس هيئة أحبائنا، ويرى ظلالهم تزدحِمُ في الصفّ وتحوم فوق رؤوسنا؛ عيب-طبعاً. وهكذا ارتأى المعلم (رجل دين ما)، بحنكة ميّزته أن يمنحنا لذة وعناء البحث، وسلّم مجموعة أكبر من المُشاغِبات إدارة شؤون البِلاد وتخليصهُ من الأزمة عن طريق تحضير دروس في مواضيع “تعنينا” (وكثيرًا ما قدّرتُ له تواضعه هذا واعترافه الجليّ الذي لا يقبل شكًا بأنّ ما يعني ناقدًا لا يدخل بالضرورة  في فهم اللاهوت، مما يعني أن هذا الأخير لا يتضمن الإجابة على كل شيء)، وهل لنا بغير الفلسفة معينٌ على أسئلتنا الكثيرة؟ لم نتردد. وكانت الفلسفة!

لا أستطيع أن أجزم أننا وجدنا الإجابة على السّؤال. ولكنها كانت محاولة…

رأيناه يتحقق باسم الجّموع…

خمسة عشر عاماً مرّت حتى أتذكَّر السؤال والواقعة. وأرى الإجابة واضحة أمامي جليّة. مرئيّة مُصوّرة ومُسجلّة. “رأيتُ الحب، رأيته بأُمِّ عينيْ”، تخيّلتُ نفسي نهاية العام المُنصرم أركضُ في رواق المدرسة صارخة أُعلن بتواضع تام: “وجدتها… وجدتها”. لقد رأيته، لقد رأيتها؛ تسير، تتحرك، تصرخ، تناشد، ينادي، تبني، يلعن، يبكي، يركض، يُسعِف، تُنقِذ، تَسقُط، تقوم، تتقدم ويتحوّل. رأيتها، الحُبّ، رأيتهُ. في شاشة حاسوبي الصغيرة، كانت مراسلة تقف، في كانون الأول، والحبّ يقف وراءها، في الميدان، في كانون الثاني، في الشارع، في شباط… هناك على النوافذ وفي كل مكان، في آذار.

كنت أتمنى أن أتذكّر اسم الأُستاذ، عنوانه، بيته، رقمه، أيّ شيء يمتّ بصلة له، لا أعرف لماذا، ولكن كانت لديّ رغبة شديدة بأن أجيب عن سؤال قديم قديم… فشلت الفلسفة في الإجابة عليه وطرحته الثورة وكأنه المفهوم ضمناً، الغاية والهدف، أوّل القصيد وآخره. هكذا بسلاسة وإتقان، أمامنا الآن، أمامنا حينها كان الشعب يريد… والحبّ يريد. هل كنّا نعرف أنّ الحبّ يريد؟ أنّ الحب فعل-فاعل والإنسان فعل-فاعل… لا مفعول به ولا يحزنون؛ لا انتظار، ولا نصيب، لا موتٌ سريرّ.. ولا رومنسيّات فارغة. فيلم من دون تسجيل ولا سيناريو، ها هو حرّ عفويّ. هكذا في العلن وها نحن– ها هم، على وعيّ كامل بأننا نُحب. هناك الحب، في ميدان التحرير، في ميدان اللؤلؤة، في ميدان التغيير، ساحة العاصي وساحات دمشق… هكذا كان عاماً على الثورات. لم تتوقف قلوبنا عن النبض، عن الحبّ في بثٍ حيّ ومباشر.

نعم، ربيّع عربيّ تسمية لا بأس بها ولكن الحقّ يُقال: “موجة من الحبّ تجتاح العالم العربيّ” هي الوصف الأدق والأكثر علميّة لما يحصل لنا، فينا، وما يصنعه هؤلاء الشبان والشابات. وهذه ليست قراءة رومانسيّة في الثورات؛ فالحبّ في زمن الفراغ والجفاف الإنسانيّ، في زمن العنف والتخلف، في زمن السرعة القاتلة والفردانيّة… هو عملٌ ثوريّ.

الثورة في هكذا زمن هي حُبّ: لا يثور من يعرف الخوف، ومن يقرأ مصيره في صفحات الأخبار، ومن يعرف الغد أكثر من معرفتهِ بالحاضر… لا يثور أيضاً من يؤمن بالمؤامرة؛ كيف يُحبّ من يعتقد أنّ حياته مُلفقة، وأنّ مصيرهُ محتوم بيد القوة الرجعيّة. الحبّ فنّ، كيف ستبدع وشرطي “الواقعيّة السياسيّة” قد سجن عقلك وها هو يقتفي أثر أحلامك. لا يثور من لا يعرف كيف يصدِّق نفسه والآخرين، وكيف يثق بهذا الحسّ الأوليّ المُسمى ثورة أو مُسمًى شعبياً، الحُبّ. سمِّها كما شئتَ… العشق، الهيام، الهوى، الشغف… إنه المصير الجديد؛ الخيار والحرية. إنها حالة من الذوبان في فعل التغيير، أليس هذا هو الحُب؟ أن تصنعه وأن يصنعك في آن، ميتاميرفوزس تامّ وأبديّ، القدرة على ألاّ تتعرف على ما صنعته يداك، أن تندهشي وأنتِ لا تجدين معنًى للمسافة والحدود، وألاّ تعرفي أين تبدأ الـ أنا وتنتهي الـ هي، أين ينتهي الـ هو وتبدأ الـ نحن؟ كيف تحوّلت الجموع إلى جسد واحد، يسير، ويحبّ؛ تكبر وتتغير، وتريد؟

في الثورة كما في الحبّ… أبداً لا أُصدق، أنني أنا هي أنا. نستصعب أن نتعرف على أنفسنا. ولهذا يتنحى جانباً من لا يتحملون ثقل البلبلة وخفة التغيير ومن لا يعرفون النظر في أنفسهم كلوحة مُركبّة والنظر في الآخرين ورؤية أنفسهم.

في فلسطين يختلف الموضوع قليلاً، للأسف. تحوّل حُبنا إلى كليشيه طويل. لقد أعجبتنا صورة المُحبين أكثر من حبهم الحقيقيّ. كما أنّ الصورة أقوى من الحقيقة والخيال معاً. لقد سلّمنا عشقِنا إلى البيروقراطيّة العالميّة كي تديره. لم نعد نصدق المُفاجآت، ولا تقع قلوبنا أرضا بسهولة أو تُشرق فرحاً. كما أننا أضعنا مَلكة النديّة. إنّ نبضات القلب المتسارعة تتناقض ومسؤولية الاحتراف، ولا يمكن تسويقها على أنها معقولة. ولكن سيأتي اليوم الذي ستنام عين الحارس عنا، ونحررّ أنفسُنا من أنفسِنا وتستيقظ أفعالنا ومعها مشاعرنا.

وحتى ذلك الحين… نبضنا لا يتوقف ونحن نحبّ كلّ يوم من جديد… كلّ هذا الوطن الثائر، فعلا وقولاً وحباً. نحبكم يا بنات وأبناء مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس والبحرين… نحبّكم كما لم نعرف كيف يحبون من قبل، أو كيف يقولون الحب… وكيف يتحوّل فعل الحب إلى إضرام نار فعليّ بثوابت لا ثوابت لها- أي بالسياسة!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. رائعة…….

  2. قمة في الروعة

  3. أليس بحب الوطن أقيمت الثورة في تونس؟

    لا رجوع، إلى الأمام.. حب، حب !

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>