“أورفوار عكا”: المفاضلة بين “الجزار” الحاكم المستبد ونابليون المحتل/ يوسف الشايب

“أورفوار عكا”: المفاضلة بين “الجزار” الحاكم المستبد ونابليون المحتل/ يوسف الشايب

عن المدينة وعلاء حليحل وروايته التي لاحقها متطرفون حتى مقاعد الدراسة • رواية استثنائية لجهة الموضوع الذي اختاره الكاتب، وأيضا من حيث تقنية السرد

auruvoir-cover

.

|يوسف الشايب|

إنها المفاضلة الأصعب، تلك التي يطرحها الفلسطيني علاء حليحل، في روايته الجديدة “أورفوار عكا”، الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان. مفاضلة بين حاكم مستبد (أحمد باشا الجزار) وبين احتلال غربي (نابليون وقواته).

يتكئ حليحل في روايته على حكاية حصار عكا الذي يجعل منه خلفية للعمل، وبالتحديد عام 1799 زمنيًا، ليعكس إحدى حالات الصمود الفلسطيني، من دون أن يهتم بالشعارات، أو تجرفه الدلالات السياسية، وينشغل بالبعد الإنسانيّ. ولعلّ هذا ما دفعه إلى التأكيد، في بداية عمله، بأنّ “أورفوار عكا” ليست رواية تاريخيّة، وأطلق بالتالي الكثير من خياله في إطار العلاقات المجتمعية والإنسانية وتحولاتها ما بين الحب والغضب والخيانة.

ولعل “أنسنة” كلٍّ من الجزار ونابليون ضايقت الكثيرين، وتركت بعض ردود الفعل السلبيّة. لكن علاء حليحل، يدافع عن ذلك بقوله: “فعلت ذلك لأنّ الشخصيات الأدبية تختلف عن الواقع وعن رغبتنا في رؤية الواقع. فأنسنة السفاح نابليون، ليست أمرًا مستحسنًا في سياق حربنا مع الغرب، إذ يجب أن يظل وحشا كولونياليًّا.. هكذا نعرف التعامل معه”، ويضيف: “في السياق الأدبيّ، الأمر محسوم عندي مائة في المائة، أحِبّ شخصياتك دائمًا، واعطها العمق والتعقيدات البشريّة، وسِر معها في القصة كما لو أنك رفيقها وليس جلادها.. قلت أكثر من مرة في هذا السياق، إنني لو قرّرت يومًا ما كتابة رواية عن هرتسل، فإنني مضطرّ لحبّه وتعقب خفاياه البشرية وحسناته ونقاط ضعفه وقوته كإنسان.. هذه أسس الكتابة.. إذا لم أكن قادرا على ذلك، فليس علي كتابة رواية عن هرتسل”.

وتعكس “أورفوار عكا” اهتماما من حليحل بالموروث والهوية، عبر نبش الأوراق التاريخية مرة أخرى، ليس لغرض تأريخيّ هذه المرة، ولكن لغرض إبداعيّ أدبيّ. فـ “أورفوار عكا” رواية استثنائية لجهة الموضوع الذي اختاره الكاتب، وأيضا من حيث تقنية السرد. وهي تدخل عموما في إطار توجه حليحل في مشروعه الروائيّ خاصة والإبداعيّ عامة، إلى المناطق الإشكالية أو المسكوت عنها. وفي روايته الأخيرة يكتب عن مرحلة تاريخيّة تجمع ما بين عكا المدينة، وعكا التاريخ، وعكا الحدث؛ فالرواية تنطلق من حصار عكا، والحملة الفرنسية، وحكاية نابليون الشهيرة التي رمى فيها قبعته حين فشل في اقتحام المدينة.

الرواية تنحاز في شفراتها إلى القيم الإنسانية العليا، المتمثلة بالتسامح والتعدّد والانفتاح، عبر كشف ما هو بشع وضيّق ومتوحش

وكشف حليحل لـ “الشرق الأوسط”، أنّ الكاتب والأديب الفلسطينيّ، حنا أبو حنا، أخبره ذات يوم، بأنّ باريس أرسلت، خلال حملة نابليون بونابرت العسكرية لاقتحام عكا، سفينة تحمل على ظهرها عددا كبيرا من بنات الليل لرفع معنويات جنودها. وأنّ أبو حنا، طلب منه أن يتكئ على هذه الحادثة للخروج برواية تاريخية حول حصار عكا. وقال حليحل: “بعد عامين من إقامتي في عكا، التي بدأت أحبها بشغف قبل الدخول في مرحلة التحفظ منها، في عملية البحث.. عكا مكان جميل للغاية لأغراض السياحة، لكنه مؤلم جدا للسكن. ما يحدث في عكا اليوم هو استنساخ لكارثة يافا التي تغرق في الإجرام والرعب والفقر.. علاقتي اليوم شائكة مع عكا، ما بين حبّ قاتل وكراهية كبيرة أحيانا”.

وأشار صاحب “أورفوار عكا” إلى أنّ ما أثاره حول تعامله في روايته، مع ما أسماه “أسطورة حصار عكا”، وقال: “قرأت مراجع عربية قديمة عن أحمد باشا الجزار، أبرزها حيدر الشهابي، ومراجع أخرى معاصرة، ومراجع إسرائيلية أيضا، ومذكرات 6 ضباط رافقوا نابليون في حملته، وهي بالإنجليزية مترجمة عن الفرنسية”، لافتا إلى أنه اكتشف بأنّ لا تاريخًا واضحَ المعالم حول حصار عكا، بل ثمة روايات وليس أكثر، وكل يروي روايته بالاتكاء على هذه المراجع ووفق ما يريد. “لذا شعرت بالراحة، لأنّ روايتي ستكون واحدة من جملة روايات عن الحصار.. ما همّني هو السرد، والحبكة، وبناء الشخصيات، والمدلولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وليس التاريخ ومراجعه بقدسيته التي أشكك فيها، خصوصا إذا كان الحديث عن حصار عكا”.

ويمكن القول إنّ “أورفوار عكا” تقوم على حضور المرجعية التاريخية كخلفية بعيدة جدًا، في حين أنّ ما يدور على أرضية الرواية، عمليا، من أحداث، هو إعادة إنتاج للتاريخ، وتورّط في الفعل التاريخيّ نفسه، ومحاولة تعبئة الفراغات المتروكة في السرديات التاريخية التي يكتبها “الأقوى” عادة، لصالح شخصيات تنتمي إلى الحياة. هناك “وقعنة” للأسطوري، وأسطرة للعادي، بحيث تضع الرواية شخصًا بحجم بونابرت جنبا إلى جنب مع “الخازوقجي”، وهو الشخص الذي يمتهن تعذيب الناس بوضعهم على الخوازيق.

في “أورفوار عكا” لا يغرق حليحل في التنظير لرواية تاريخية دون غيرها، ولا يغرق القارئ معه، ولا يسرف في محاولة تفكيك رواية عن “حدث عكا” لصالح رواية أخرى. بل ينجح، إلى حدٍّ كبير، في تجاوز المرجعية التاريخية، بما يتيح للشخصيات أن تبني بنفسها مرجعياتها من داخل الفعل الروائي نفسه. فالرواية تنحاز في شفراتها إلى القيم الإنسانية العليا، المتمثلة بالتسامح والتعدّد والانفتاح، عبر كشف ما هو بشع وضيّق ومتوحش.

وكانت جهة متشدّدة في مدينة باقة الغربية في الأراضي المحتلة عام 1948، أطلقت على نفسها “أنصار الحق”، شنت حملة شرسة على معلم اللغة العربية في مدرستها الثانوية، علي مواسي، إثر قراره تدريس رواية “أورفوار عكا”، حيث طالبت بإقصاء المعلم وفصله من عمله، بحجة الإساءة للدين. وجاء هذا الموقف، تتويجًا لحملة شرسة من التهديدات التي تلقاها مواسي، التي وصلت إلى إلقاء خطب تحريضيّة ضدّه في عدد من مساجد المدينة، واضطر مواسي إلى الاستقالة، قبل أن يعود إلى التدريس مجددًا.

وقالت الكاتبة والناقدة الأدبية بديعة زيدان عن الرواية لـ “الشرق الأوسط”: “ما يميّز هذه الرواية لغتها الأنيقة وتسلسل الأحداث الجميل والمتناسق؛ فحليحل لم يقع في فخ الحشو، بل على العكس تمامًا، لدرجة أنّ إهمال أيّ فقرة أو سطر قد يجعلك تضيع حجرًا من حجارة الأساس في الرواية، وهو ما يُحسب له، ولها ما يميزها عن كثير من الروايات حتى من حقق الشهرة منها.. من اللافت استخدام مصطلحات تركية تتماهى والحقبة الزمنية التي طرقتها الرواية، ومن الواضح أنّ الكاتب صال وجال في تلك الحقبة الزمنيّة وجمع وقرأ الكثير عنها، كما أنه حلق في عالم الخيال إلى جانب الحقيقة حتى جعل القارئ يعيش مع الرواية أحداثا لا يعلم هل هي خيال أم حقيقة، وهذا ما دفعني لاستخدام (غوغل) في البحث عن صحة بعض المعلومات ومدى حقيقية الشخوص في الرواية”.

(عن “الشرق الأوسط”)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>