وللعربيّة في الزّمن الأخير باب وكُتّاب ومِحراب، ومن عيون شيوخه رمضان عبد التّوّاب/ أسعد موسى عودة

كان عالمنا الجليل الجميل مثالًا لورع الأتقياء وتواضع العلماء، وأبًا حانيًا بأياديه البيضاء لألوف الطّلّاب النّجباء، وقد كرّس حياته لخدمة العربيّة العصماء

وللعربيّة في الزّمن الأخير باب وكُتّاب ومِحراب، ومن عيون شيوخه رمضان عبد التّوّاب/ أسعد موسى عودة

|أسعد موسى عودة|

asaad-qبينما أنا أقلّب رفوف مكتبتي قُبيل التحاقيَ الّذي أرجوه وشيكًا – بإذن الله – بدرجة الدّكتوراه، كان هو هناك حاضرًا؛ إنّه العالم اللّغويّ المصريّ الفذّ، رمضان عبد التّوّاب، المولود في أحد صباحات الجمُعة من شهر رمضان 1348/ شُباط 1930، والمنتقل إلى جنّات النّعيم في السّابع والعشرين من آب، عام 2001.

عاش عالمنا الجليل الجميل للعربيّة وعاش بها، فكانت له وكان لها؛ فبها لها (أولِع بها) وما عنها لها (لم يغفل عنها). وهو من اعتاد قراءة كلّ شيء وحَفظ القرآن الكريم وغيرَ قليل من أمّهات كتب اللّغة والأدب وسنّه تكاد تكون لا شيء، ولَطالمَا بَزَّ أقرانه (غلبهم وتفوّق عليهم) في شتّى مراحل تعلّمه وتعليمه.

اِلتحق الدّكتور رمضان عبد التّوّاب بالمعهد الدّينيّ الأزهريّ، ليتأهّل بعدها لاختبارات القبول للالتحاق بكلّيّة دار العلوم، وقد كان من بين – إن لم يكن أوّل – المِائتين الّذين نجحوا في تلك الاختبارات من أصل 1,500 متقدّم. فتتلمذ – هناك – لعلماء أجلّاء، أمثال عبّاس حسن (1900-1978)، البحر المحيط في علم النّحو العربيّ؛ وإبراهيم أنيس (1906-1977)، رائد الدّراسات اللّغويّة العربيّة؛ وتمّام حسّان (1918-2011)، صاحب نظريّة “القرائن النّحْويّة” الّتي خالف فيها نظريّة “العوامل النّحْويّة” الكلاسيكيّة الّتي ورثناها – منذ أزيَد من ألف عام – عن مدرستيِ الكوفة والبصرة، ولعلّه، أيضًا، أوّل من فرّق بين “الزّمن الصّرفيّ” و”الزّمن النّحْويّ”، وغير ذلك الكثير من الابتكارات الاصطلاحيّة والإبداعات الفكريّة في كلّ ما يتعلّق بعلوم اللّغة العربيّة، كما من كتبه كتابه التّجديديّ المؤسِّس “اللّغة العربيّة – معناها ومبناها”؛ وإذ ننسى فلا ننسى المعلّم الكبير، كمال بشر (1921-2015)، شيخ اللّغويّين العرب، ومن كتبه: “اللّغة العربيّة بين الوهم وسوء الفهم”. تتلمذ هذا الكبير، إذًا، لكلّ هؤلاء الكبار، حتّى في مصافّهم صار، وحلّق وطار.

تخرّج الدّكتور رمضان عبد التّوّاب في كلّيّة دار العلوم بالقاهرة عام 1956، وهو عام جلاء آخر جنديّ استعمارٍ بريطانيٍّ عن مصر، وعام تأميم قناة السّويس، وعام العدوان الثّلاثيّ الحقير، في عهد الكبير، الزّعيم الخالد، أبي خالد المنصور، جمال عبد النّاصر. وقد جاء ترتيبه الأوّل بامتياز مع مرتبة الشّرف الأولى. وسنحت له فرصة للالتحاق، إذّاك، ببعثة إلى ألمانيا مدّتها خمس سنوات للتّخصّص في مجال فقه اللّغة العربيّة.

تعلّم عالمنا الجليل الجميل في ألمانيا لدى أساتذة مستشرقين عظام، أمثال يوهان فك (1894-1974) ومن آثاره كتاب “العربيّة: دراسات في اللّغة واللّهجات والأساليب”. وقد حصل بطلنا هناك على شهادتيِ الماجستير والدّكتوراه في اللّغات السّاميّة من جامعة ميونخ عام 1963 بتقدير امتياز مع مرتبة الشّرف الأولى، أي وهو ابن 33 ربيعًا، كما أتقن اللّغة الألمانيّة والسّريانيّة والحبشيّة والأكّديّة (لغة بلاد الرّافدين نحو 3000 سنة ق.م. وقد اشتُهرت بتدوينها بالخطّ المسماريّ) والفارسيّة والتّركيّة والفرنسيّة واللّاتينيّة والعبريّة والسّبئيّة والمَعينيّة (من أقدم اللّغات الّتي استُعملت في جنوب الجزيرة العربيّة في اليمن بين 1200 ق.م. و100 م.، وتُنسب إلى مملكة مَعين). ليتسلّم – بعدها – عمله مدرّسًا في كلّيّة الآداب في جامعة عين شمس ويبدأ مشوار تدرّجه وترقّيه.

خلّف الدّكتور رمضان عبد التّوّاب أزيَد من خمسين كتابًا مرجعيًّا في اللّغة العربيّة وآدابها، بين تأليف وترجمة وتحقيق، من قبيل: “التّطوّر اللّغويّ – مظاهره وعلله وقوانينه” (تأليف)؛ “اللّغات السّاميّة” للمستشرق الألمانيّ ثيودور نولدكه (ترجمة)؛ “التّطوّر النّحْويّ للّغة العربيّة” للمستشرق الألمانيّ برﭼـشتراسر (تحقيق). كتب أزيَد من مِائة وثلاثين بحثًا علميًّا أكاديميًّا. أشرف على أزيَد من ألف أطروحة ماجستير ودكتوراه في مصر والعالم العربيّ وأوروبا، واشترك في مناقشة أزيَد من ثلاثة آلاف أطروحة ماجستير ودكتوراه في مصر والعالم العربيّ وأوروبا، وقد كان عضوًا في أزيَد من أربعين هيئة علميّة.

هذا، وقد كان عالمنا الجليل الجميل مثالًا لورع الأتقياء وتواضع العلماء، وأبًا حانيًا بأياديه البيضاء لألوف الطّلّاب النّجباء، وقد كرّس حياته لخدمة العربيّة العصماء، ولي في مكتبتي منه كتاب له مع إهداء بخطّ يد الكُبراء الكُرماء، أهدانِيه عمّ كريم لي، هو الدّكتور إبراهيم أسعد عودة، الّذي كان جمعه به لقاء الأقرباء في بلاد الغرباء، فرحم الله حبيب الأرض وحبيب السّماء، وعهدنا أن نظلّ نُخلِص به الاقتداء ونُخلِص له الدّعاء.

الصّيّاد..

من آخر ما صادفتُ من خطأ شائع أو غير شائع في العربيّة تأثّرًا بالعبريّة، لدى النّقل (التّرجمة) من الأخيرة إلى الأولى: “اِغرورقت عيناه بالدّمع”، علمًا أنّ الفعل اغرورق يفيد معنى امتلاء العين بالدّمع؛ فأيّ داعٍ معنويّ وأيّ منطق لغويّ أو عقليّ يَضطرُّنا إلى تَكرار المعنى بالقول: “اِغرورقت عيناه بالدّمع”؟! بل الصّحيح والمليح أن نقول: اِغرورقت عيناه، وكفى.

كما من الخطأ قولهم: “صافحه بيده” أو “صافح يده”؛ علمًا أنّ الفعل صافح يفيد معنى وضع الكفّ في الكفّ.

ومن الخطأ قولهم: “كفّ اليد”؛ علمًا أنّ الكفّ – في العربيّة الشّريفة – تفيد معنى راحة اليد. وتقابلها القدم. بينما لا يكتمل معنى المفردة في العبريّة إلّا بقرينة اليد أو الرّجل، فيقولون هناك: “كاف ياد” و”كاف رِيـﭽـل”.

سُئلتُ فأجبتُ..

سألنيَ الزّميل العزيز ف.س. عن أصل مقولة “اِختلاف الرّأي لا يفسد للودّ قضيّة”، فيسرّني أن ألفت عنايته وعنايتكم إلى أنّها وردت في بيت شعريّ لأمير الشّعراء وشاعر الأمراء، أحمد شوقي بيك، في مسرحيّته الخالدة، مجنون ليلى، حيث يقول:

“ما الّذي أضحك منّي الظّبيات العامريّة

ألأنّي أنا شيعيّ وليلى أَمويّة؟

اِختلاف الرّأي لا يفسد للودّ قضيّة”.

قالها أبو الطّيّب، أحمد بن الحسين..

قالها أبو الطّيّب، أحمد بن الحسين (المتنبّيّ) قبل أزيَد من ألف عام: “إنّي أُصاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي كَرَمٌ / وَلا أُصاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي جُبُنُ”، فهل من مُذَّكِّرٍ مُدَّكِر، أي هل من متذكِّرٍ مُعتَبِر؟ أم هل هو زمن القهر والعَهْر بلا مَهْر؟!

(الكبابير / حيفا)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>