في أورشليم، حيثُ يُقام العدل بلسان عبريّ قَويم.. فتعلّموا يا عرب../ أسعد موسى عَودة

هي ثورة على عبادة المال، وثورة على عبادة السّلطان، وثورة على عبادة الجاه، وثورة على عبادة الشّهوات، وثورة على كلّ معبود غير الله

في أورشليم، حيثُ يُقام العدل بلسان عبريّ قَويم.. فتعلّموا يا عرب../ أسعد موسى عَودة

|أسعد موسى عَودة|

asaad-qأعلمُ أنّ مجرّد العُنوان أعلاه، سيُغضب البعض الكثير منكم، قرّائيَ الأعزّة، فاعلموا أنّه يُغضبني ليس أقلّ ممّا يغضبكم، على الأقلّ، ولكن في سياق وسباق واتّساق. وفي أيّ حال، لا أراكم تُزايدون على خادم العربيّة (أُمازحكم)، فقُلِ اقرأُوا المقال حتّى منتهاه.

أعترف بأنّي تابعتُ عن كثب – ومع سبق الإصرار والتّرصّد – ما سينطق به جناب القاضي داﭬيد رُوزِن (داود حكيم – ترجمة بتصرّف)، قاضي المحكمة المركَزيّة في تلّ- أبيب، في ملفّ واحدةٍ من أكبر – إنْ لم تكنْ كُبرى – قضايا الفساد الماليّ والسّياسيّ – حسَب الإحصاءات الصِّحافيّة – الّتي افتُضح أمرُها – حتّى السّاعة – في دولة إسرائيل (قضيّة مشروع “هُوليلاند” في القدس). لا بل إنّها واحدة من أكبر قضايا الإفساد المجتمعيّ والخُلُقيّ والقِيَميّ في هذه الدّولة؛ حيثُ دِينَ (“أُدِينَ” – بالخطأ الشّائع، في هذا السّياق) “كبيرُ” الجُناة فيها والمرتشين (الّذي لم يعُد مجرّد متّهَم) – وهو – بالتّالي – صغيرُ هؤلاء جميعًا؛ فكم حَطّ منه خطأُه، فغلطة “الكبير” كبيرة – رئيسُ الحكومة، الوزير، رئيس البلديّة (بلديّة القدس)، نائب البرلمان، ومنتخَب الجمهور، الأسبق، إهُود أُولْمِرْت.

كانت هذه، يوم الاثنين الأخير، جلسة النُّطق بالحكم (وبالعبريّة: “هَخْرَعات هَدِين”)، لتتلوَها – في موعد لاحق – جلسة النُّطق بالعقوبة (وبالعبريّة: “ﭼْزار هَدِين”)، حيثُ يجري الحديث عن زواج المتعة الفاسد العقد – في هذه الدّولة وغيرها – بين السّلطة والمال، وهو زواج – كما تعلمون – غير شرعيّ فباطل، إطلاقًا؛ أوّلًا، لانعدام عنصر الكفاءة بين الزّوجين، وثانيًا، لكونه زواج مُتعة أو زواجًا عُرْفِيًّا (سِرِّيًّا)، وهو – بالتّالي – زنًى مطلق، لأنّ الزّواج الشّرعيّ الحلال شرطُه وحدُّه، أصلًا وفصلًا، الإشهار، وغيرُه حرام ومفضوح أمرُه، ولو بعد حين، فإنّه يُمهِلُ ولا يُهمِل.

جاء في القرآن الكريم: “فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ولا تَطْغَوا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”. وجاء في سفر الأمثال من الكتاب المقدّس: “الفقيرُ السّالِكُ باستقامَتِه خيرٌ من مُعوَجِّ الطُّرُق وهو غنيٌّ”. وإنّه “يبقى المسؤول قويًّا حتّى يَطْلُبَ لنفسه”؛ فحينها – إذا طلب – يضعف ويصغُر ويحقُر في عين الله وأعين النّاس، وفي عين نفسه إنْ كان يُحِسّ (“اللّهُمَّ لا تَبْتَلِنا بِعَيْبٍ كَرِهناهُ في غَيْرِنا، ولا تُغَيِّرْ عَلينا حالَنا إلّا لأحْسَنِه، وأعِنّا على شكرِ نعمتِك، وأنتَ خيرُ الرّازقين!” (دعاء عامّ). “ولا تُدْخِلْنا في تَجْرِبة لكنْ نَجِّنا مِنَ الشِّرِّير!” (إنجيل لوقا، الإصحاح: 11، الفقْرة: 4)). وكلٌّ منّا مسؤول في دائرته، عن نفسه أوّلًا، وعن أن يكون قدوة ومِثالًا يُحتذى لمن حوله، من الأقرب والأصغر حتّى الأبعد فالأكبر، في النّظافة: نظافة اليد، ونظافة اللّسان، ونظافة الأبدان، ونظافة القلب، ونظافة العقل، ونظافة العمل، ونظافة المحيط، ونظافة  كلّ شيء. وللمؤمنين منّا – أو قُلِ المتديّنين، أقول: هذه النّظافة – يا إخوان – هي الإيمان، وليست مجرّد “مِنَ الإيمان”، فإنّما الدّين المعاملة، وإنّما دِينُ المرءِ فِعلُه، فكلمة “لا إله إلّا الله” في الدّين الحقّ – كما علّمنا أستاذنا المرحوم، الدّكتور أحمد أمين، في فيض خاطره – هي “كلّ شيء، هي ثورة على عبادة المال، وثورة على عبادة السّلطان، وثورة على عبادة الجاه، وثورة على عبادة الشّهوات، وثورة على كلّ معبود غير الله”.. ويتابع حضرته: “الدّين الحقّ امتزاج بالرّوح والدّم، وغضب للحقّ ونفور من الظّلم، وموت في تحقيق العدل”.. ويُضيف: “الدّين الحقّ تحسين علاقة الإنسان بالله، وتحسين علاقة الإنسان بالإنسان، لتحسُن علاقتهم جميعًا بالله”. وما دونه دين مصطنع، وعن هذا الدّين المصطنع حدّث ولا حرج.

هذا، وإنّه لَشَدّ ما يشُدُّني إلى مثل جلسات القضاء هذه أعلاه، في مثل هذه الملاحم القضائيّة من قضايا الرّأي العامّ، ليس هو الشّأن الشّخصيّ لكلٍّ من المتّهَمين أو المتّهِمين، وليس هو الشّأن العامّ لكلٍّ منّا، نحن – المواطنين – في هذا السّياق، وليست هي أحكام القانون الجنائيّ وقرائنه، ولا هو حتّى مضمون قرار الحكم نفسه المنتظر أن يُحقّ الحقّ ويُقيم العدل، بقدْر ما هو تلك اللّغة الّتي يُحبّر بها قضاة تلّ- أبيب وأورشليم قرارات أحكامهم؛ ولكلّ لغة جمالها وجلالها ورَوْنقها ورنينها وبريقها، حيثُ أكون أنا في أقصى درجات الاستعداد؛ وقد أخذتُ للأمر أُهْبَتَه لأستمتع بأُبَّهته، أُبَّهة اللّغة، بحضورها وقامتها ورصانتها وحَصافتها ورُقيّها ومنطقها وقوّتها ونفوذها، أُبَّهة لا يعتريها شكّ، ولا تُدانيها عظمة (“يَعْنِي بَكُونْ قاعِدْ وعَمْ بَتْصَبَّبْ عَ هَاللُّغَة”). وفي المقام ذاته والمَقال، تأكلُكَ الغَيْرة على لغتك، أمّك ومعشوقتك ومخدومتك، سيّدة اللّغات وأبهى الجميلات، حيثُ يُتأتئ بها ويَلْحَن ويَلْكَن هذا القاضي العربيّ أو ذاك في هذا البلد العربيّ أو ذاك، في الغالب الأعمّ، مع مزيد الهمّ. وذلك على سبيل المثال غير المثال، لا الحَصْر، مع بالغ الحَسَر (الحَسْرة).

ورغم (مثلّثة الرّاء) هذا وذاك، أراني – كما ترَونني – قد بالغت في النّصف الأوّل بين الحاشيتين من العُنوان أعلاه، “حيثُ يُقام العدل”، فلا عدلَ مطلقَ في هذا العالم؛ وطبعًا، ليس في أورشليم، إنْ هي إلّا اجتهادات ومحاولات، تصيب تارة وتخيب تارات؛ فما العدل إلّا بالله، وما العدل إلّا يوم القيامة حيثُ يُقيمها الله ليُقيم العدل على النّاس كافّة وعلى كلّ ما خلق. ولكنّني – وبالقناعة نفسها – أصرّ على نصفه الآخِر، “بلسان عبريّ قَويم”، فتعلّموا يا عرب.. يا خير أمّة أُخرِجت للنّاس.. يا أمّة “اِقرأ” الّتي لا تقرأ.. ويا أصحاب اللّسان العربيّ المبين، الّذي به تَلْحَنُون وتَلْكَنُون..

ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!

ملحوظة هامّة إلى قرّائيَ الأعزّة!

إنّه في جميع ما أكتبُ، أنا – عبدَ الله وعبدَ اللّغة، أسعد – يكون همّيَ الأوّل وليس الآخِر، طبعًا، أن أصوغُ مُرافَعة لُغويّة ورسالة أدبيّة صِرْفة خالِصة بَحْتًا (بَحْتة)، أرجو أن أُعلِّم بها وأظلّ أتعلّم؛ لأنّني لُغتي. فرجائي لكم، قرّائيَ الأعزّة، أن تهتمّوا بملاحظة ذلك أبدًا، وإعانتي عليه، وأن تحاولوا بثّه بين الأمم؛ فخيركم من تعلّم وعلّم. “أحبّكم.. لو تعرفون كَم”.

ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!

وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن!

(الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم، ومحرّر لغويّ؛ الكبابير / حيفا)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>