مقطع من “سارق النوم غريب حيفاوي”/ ابتسام عازم

لا يقول شيئاً الرجل ذو الابتسامة الغريبة وأحاول كل ليلة أن أبحث عن موضوع أتحدث به معه كي يتكلم ويقول شيئاً ما. ولكن لساني معقود ولا أنطق بأيّ شيء وهو لا يقول أيّ شيء وتبقى المسافة. فكل حلم نفس المسافة لا تتغير: نصف ساعة بالكمال والتمام

مقطع من “سارق النوم غريب حيفاوي”/ ابتسام عازم

|ابتسام عازم|


غلاف الرواية

كخوف النقطة على الخاء


الخوف كلمة من ثلاثة حروف لكنها حروف كبيرة وخشنة. فأولها حرف الخاء ويبدو لي دائما كتمساح فاتحاً فاه وأنا النقطة التي فوقه. يجلس هناك في كسل لا يفعل أي شيء غير التربص بي كي يلتهمني حالما أسقط. كنت نقطة على الخاء تخاف السقوط في حلق حرفها، حرفها التمساح.

الخوف يتربص بي ويلتهمني بهدوء من داخلي ومن أحشائي وينتشر في كل مكان لتصبح الأشياء العادية عبئاً تحمل ما هو أكبر من معانيها ومما تحتمل. كنت أدرك ألا مبررًا عقلانيًا لخوفي وخاصة أنني لم أقم بأي شيء غير قانوني كي أخاف من أي شيء. فنشاطي السياسي الذي كان غير قانوني تم إكتشاف أمره وسجنت على إثره وانتهى الأمر. إذا لماذا أشعر بأنّ مصيبة ما تنتظرني إذا دق الهاتف أو فتحت صندوق البريد ورأيت رسالة رسمية؟

الخوف يفترسني ويتوغل إلى أحلامي وجسدي وأشعر وكأنه سيأكل عظامي كما يأكل الصدأ الحديد. لم أكن أتوقع أنه سيتسرب إلى منامي بشكل شبه يومي ويصبح كابوساً ولم أفهم لماذا يطاردني في الحلم ويحول الأشياء المحببة عندي إلى كوابيس.

كنت أحبّ زيارة المتاحف وأحسّ بأنّ قلبي يرتجف عندما أرى جرة من فخار أو أحد الأشياء القديمة، التي قام شخص ما بصناعتها أو استعمالها، معروضة. مجرد فكرة أن شخصا ما قام بلمسها قبل مئات أو آلاف السنين كانت تثيرني وتحرّك مخيلتي وحنيني ولم أكن أعرف حتى لماذا؟ ما الذي فكر به الشخص الذي صنعها قبل كل هذه السنين؟ دون شك لم يتخيل قط أن هذه الجرة التي كان يستعملها لشرب الماء أو أي شيء آخر سوف تصبح أثراً تاريخيًا يقف الزائرون عنده يتأملونه بإعجاب ويسمعون الكثير من الأساطير من حوله ويسمونها تاريخًا.

أصبحت أهرب من النوم، نعم أهرب منه خوفا من أن يطاردني الكابوس مجددًا. كان يزورني كل ليلة. قد يغير بعض التفاصيل ولكنه يأتي لزيارتي كلما خلدت إلى النوم منذ حوالي الشهر ولا يتركني أرتاح. أصبحت أكره النوم وأمقته لأنه يزورني به. أكره النوم ولا أستطيع أن أستغني عنه.

فتحت صندوق البريد لأجد رسالة أوراقها أزهار شقائق النعمان. شقائق النعمان أولى مفردات ذاكرتي، هي والموتُ والنرجسُ. نظرت إلى السطور فإذا بها مكتوبة وكأنها نسيج ورق الزهر وليست سطوراً خطها شخص ما على أوراق شقائق النعمان. منذ شهر وهذه السطور تطوقني وتعود كل ليلة لتلتقي بي في الحلم:

“السيد غريب حيفاوي
تحايا طيبة وبعد،

نرجو من حضرتكم القدوم غدا في الساعة الرابعة بعد الظهر لحضور افتتاح المتحف القومي الجديد. سنقوم بإرسال سائق بسيارة أجرة لكم في تمام الساعة الثالثة والنصف. الرجاء الالتزام بالمواعيد وعدم التأخر.

تفضلوا بقبول فائق الإحترام
إدارة المتحف”

رميت بالرسالة أرضاً ولم أنظر اليها فلاحقتني أوراق شقائق النعمان وارتطمت بوجهي وغطتني وهي تسقط من كل صوب فوقي إلى أن أختنقت بها ولم أستطع أن أتنفس. اختنقت ولم أمت. أختنق ولا أموت ولا ينتهي الحلم. ولا أنام فيه وأجدني في اليوم التالي أستحم واتمشط أنتظر قدوم سيارة الأجرة التي ستأخذني إلى المتحف.

وأتسمر أمام الشباك ورائحة عطري تبدو لي ثقيلة ولا أدري لماذا تعطرت! فأنا لا أريد الخروج. سأنزل وأتحدث مع سائق الأجرة حال قدومه وأصرفه أقول لنفسي في الحلم. لن أذهب إلى افتتاح أية متاحف لم أسمع بها ولا أعرف عنها شيئاً. ومن أنا ليدعوني لحضور افتتاح متحف ما؟

يقضم عقرب الدقائق نصف الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم من شهر أيار، وكل يوم في الحلم هو يوم من أيار. تتغير الأيام ولكن الموعد يبقى دائما في شهر أيار. تتوقف عجلات سيارة الأجرة عن الدوران وتقف أمام باب العمارة في تلك اللحظة بالذات التي ينهي فيها عقرب الدقائق قضم الدقيقة الثلاثين. يخرج سائق سيارة الأجرة منها ويقف بجانبها يفتح الباب الخلفي وينتظر خروجي من باب العمارة مصوبا عينيه نحوه، مسمرًا في مكانه ويداه الواحدة تتعكز على الثانية.

عينان زجاجيّتان، ابتسامة صفراء، وشعر بني ناعم فرقه من جنب ومشطه بعناية. إبتسامة بقدر الحاجة، فلا تتجعد المساحة المحيطة بالعيون جراء  فرش الابتسامة فوق الشفاه. وتحية مهذبة في استقبالي تجعلني أتراجع عن عزمي أن أطلب منه المغادرة. أجلس في المقعد الخلفي، يقودنا دون أن ينظر ولو مرة واحدة في المرآة الأمامية.

لا يقول شيئاً الرجل ذو الابتسامة الغريبة وأحاول كل ليلة أن أبحث عن موضوع أتحدث به معه كي يتكلم ويقول شيئاً ما. ولكن لساني معقود ولا أنطق بأيّ شيء وهو لا يقول أيّ شيء وتبقى المسافة. فكل حلم نفس المسافة لا تتغير: نصف ساعة بالكمال والتمام. نصف ساعة أسمع فيها عقارب الساعة تضرب على باب طبلة أذني ولكني لا أرى أي ساعة من حولي. تضرب عقارب الساعة بثقل على باب طبلة أذني. أسمعها جيدًا، حتى عندما أفيق أسمعها جيدًا. تدق وتدق لنصف ساعة وتتوقف عندما نصل إلى المتحف.

يقود الغريب السيارة بنا من دون أن ينبس ببنت شفة إلى أن نصل إلى مكان بمحاذاة البحر فتخرج سيّارة الأجرة عن الطريق الذي تسلكه، وتتوقّف أمام بناية على الشاطئ. لا أذكر أنني رأيت هذه البناية من قبل. إلا أنّها تبدو قديمة وكأنّها تقف هناك منذ الأزل. يخرج الآخر من السيّارة، ويقول بصوت واثق:

“تفضّل، لقد وصلنا!”

“إلى أين يا رجل؟!”

يؤكد الغريب لي أن افتتاح المتحف في  تلك البناية على شاطئ البحر ويقول إنّ أهلي هناك. أستغرب هذا الخبر وأسأله عن علاقة الموضوع بأهلي، فلا يقول الكثير ويؤكد لي فقط بأنّهم يعيشون في هذا المكان.

أخرج من السيارة من دون أن أدفع له أجراً طلبه واستغربت أنه يريد مني أجراً وهم قالوا إنهم سيبعثون لي السيارة. أغلق باب السيارة خلفي ولا أنظر إليه وأصعد الدرجات الخمس العريضة، الّتي يليها زجاج عريض ملوّن عليه رسوم ذات معانٍ تاريخية.

ينفتح الباب الزجاجيّ أمامي وتستقبلني امرأتان، واحدة شقراء لها شَعر ضَمّته إلى الخلف، وعينان خضراوان. تلبس تنّورة سوداء كالفحم تمتدّ إلى فوق ركبتها، مطرّزة من الجوانب بلون أحمر كالدم وأخضر كشجر السرو، وتلبس جاكيتَ أسودَ مطرّزًا هو الآخر وقميصًا أزرق بلون السماء. أمّا الثانية فكانت سمراء ذات عينين بنّيّتَين تلبس الطراز نفسه من الملابس، قماشها أبيض والتطريز الذي عليه يختلف بعض الشيء، ولكنّ القميص بقي هو ذاته أزرقَ سماويًا.

ارتسمت ابتسامات عريضة على وجه كلّ منهما. ابتسامات صفراء باهتة من تلك الّتي أكرهها، ولا تتغير هذه الإبتسامات تبقى كل ليلة بنفس المقدار مفروشة على الشفاه ولنفس المدة الزمنية. تبادرني الشقراء محيية بصوت يدّعي الدفء:

“أهلاً وسهلاً بك في المتحف القوميّ لدولتنا؛ المتحف الأوّل من نوعه في العالم. نهنّئك لأنّك سوف تكون شاهدًا على العصر. فما تراه هنا هو آخر من تبقّى من نماذج لسكّان أرضنا القدامى، وسوف ترى أمام ناظريك كيف كانوا يعيشون على أرض الواقع، ومنذ آلاف السنين، حيث حافظوا على عادات وتقاليد هذا البلد. أمر لا تجده في أيّ مكان في العالم، فنحن نحاول بشتّى الطرق أن نساعد على تحسين معيشتهم لكي يرى أكبرُ عدد من زائرينا هذا، رؤيةً حيّةً قبل انقراضهم.”


…..


اِبتسام عازم من مواليد الطيبة. درست الحضارة الفرنسية وتاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس، ثم انتقلت للعيش في زيوريخ في سويسرا وتعلمت هناك اللغة الألمانية لتلتحق بعدها بجامعة فرايبورغ في ألمانيا وتحصل على شهادة الماجستير في الأدب الألماني والإنجليزي والدراسات الإسلامية. بعد إنهاء الماجستير انتقلت للعيش في مدينة كولونيا ومن ثم مدينة بون وقامت بدراسة تكميلية في الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة. تعيش منذ عام 2007 في برلين وتعمل كصحافية. لها العديد من الريبورتاجات التلفزيونية والإذاعية والمقابلات والمقالات الصحفية، كما نشرت عددًا من القصص القصيرة. صدرت لها مؤخراً عن دار الجمل في بيروت رواية “سارق النوم غريب حيفاوي”.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. قدما والى الامام ابتسام بنت بلدي وبنت صفي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>