“أرى المعنى” لهشام البستاني: سرد موسيقي وقصص على تخوم الشعر/ مثنى حامد

. |مثنى حامد| في قصص البستاني لا توجد قواعد ثابتة، ولا […]

“أرى المعنى” لهشام البستاني: سرد موسيقي وقصص على تخوم الشعر/ مثنى حامد

غلاف "أرى المعنى"

.

|مثنى حامد|

في قصص البستاني لا توجد قواعد ثابتة، ولا أركان معروفة، ولا يمكن التنبؤ بما سيحيله النص في ذهن المتلقي. حيث يتلوى المسار الزمني بشكل عشوائي، فلا يعود التوالي الزمني، الماضي، الحاضر، المستقبل، مهما. فليست النهاية عنده متأخرة عن البداية.

هذا إذا اعتبرنا ما تنتهي به الكلمات نهاية. عداك عن أشكال البداية، ومحاور الأحداث وما شابه.

عن دار الآداب اللبنانية صدرت مؤخرا مجموعة قصصية للكاتب الأردني هشام البستاني تحمل عنوان “أرى المعنى”. وجدير بالذكر أن هذه هي المجموعة الثالثة للكاتب حيث سبقتها مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان “عن الحب والموت”، والثانية بعنوان “الفوضى الرتيبة للوجود”. وبصدور هذه المجموعة الثالثة يبدو واضحا أن أدوات الكاتب اتضحت أكثر، وباتت تحمل أبعادا جديدة أهمها مواصلة انتهاك الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية. والتخلي الطوعي عن مسار السرد التقليدي وتجلياته المعروفة مثل الحبكة أو العقدة. بل في مجموعته هذه تم التخلي عن البطل كشخص محوري في النص، سواء كان هذا البطل إنسانا أو ثورا أو عمارة، مقابل البطل الجماعي الذي هو النص ككل.

وطبعا لا يجد القارئ كل ما يريده في النص، بل حتى ولا نصف ما يصبو إليه. ولكن عليه أي القارئ أن يشارك في تشكيل بنية الأحداث وليس فقط الشعور بها. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قصص البستاني أو لوحاته لا تبدأ عادة من الصفر، بل يتم استحضارها غالبا من التاريخ القريب، أو من الحياة المعاصرة ثم يقوم الكاتب بتشكيلها حسب رؤيته الخاصة، تاركا للقارئ الكثير من العمل.

يحيل العنوان “أرى المعنى” إلى نبش المخفي والمغطى، أو على الأقل محاولة إظهار اللب، وذلك عبر إزاحة الكثير من القشر. والكاتب في سبيل ذلك يستخدم لغة شعرية إذا صحت التسمية. وهذا ما بيّنه الكاتب نفسه على غلاف الكتاب بقوله: “سرد موسيقي أو قصص على تخوم الشعر”. وكأنه يريد أن يحذر القارئ المتعجل أن ما سيجده في كتابه يحتاج لترو، وان تفكيك نصه يحتاج إلى شفرات مقتبسة من ميدان الشعر والموسيقى.

ولأن المقام ليس مقام إسهاب وإطناب، ويعسر التعليل والتدليل في هذه العجالة. أحببت أن أتوقف عند مسألة محورية في أعمال الكاتب ككل. ألا وهي لغته الشعرية التي باتت تشكل بنية رئيسة في أسلوبه السردي. وسوف أشير إلى عدة عوامل ساعدت في إظهار شعرية أسلوبه، حيث أن اللغة الشعرية في السرد هي نتاج النص بشكله النهائي، وبتكامل فقرات نصوصه، بخلاف مكونات القصيدة كما يقول “ميشيل بوتور”.

أولا: البياض

استعمل الكاتب تقنية البياض بكثرة، وهو مصطلح يقصد به المساحة البيضاء في الصفحة، وهذه المساحة تزيد عند كتابة الكلمات على هيئة قصيدة شعرية، وتقل عند تشكيل الكلمات بطريقة النثر العادية. وهذه الطريقة أحسن استعمالها الشاعر “مالارميه”، ودافع عنها بقوله: “إن تصوير الألفاظ وحده لا يؤدي الأشياء كاملة، وعليه فالفراغ الأبيض متمم”. فلطريقة تنظيم الكلمات في الصفحة أهمية في تحويل النص مهما كان عاديا إلى نص قد اكتسب شيئا من الشعرية، وتوظيف البياض في الصفحة توظيفا إيحائيا ودلاليا اهتم به الشعراء الاوروبيون قبل عقود كثيرة. ونظّر له بعض النقاد الغربيين مثل “جان كوهين” وغيره.

وفي كتاب البستاني نجد توظيفا للبياض يفرضه الاقتصاد الكبير في الكلمات. مما يجعل مهمة القارئ ليس في البحث عن شروح تفسيرية خارج النص، بل عليه أن يجد إيقاعها داخل نفسه، وهناك تكتمل الصورة. مع العلم أن الكتاب هو عبارة عن لوحات سردية متفاوتة الحجم. فبعض هذه اللوحات القصصية تكبر حتى تصل إلى عدة صفحات فيصبح من السهولة وصفها بالقصة، وبعض هذه اللوحات تصغر حتى تكاد لا تكمل سطرا واحدا يتوسط مساحة هائلة من البياض، الأمر الذي يجعل النص السردي اقرب إلى قصيدة الومضة، أو ما يعرف بالقصة ـ القصيدة، حسب تعريف الناقد “إدوار الخراط”. يقول البستاني في صفحته الأولى:

“لأنك وحيد وحيد

ولأن الحياة عمارة من سبعين طابقا،

كان لا بد لك من أن تعانق الهواء،

كان لا بد لك من أن تترك ذكرياتك منثورة على الرصيف في

بركة حمراء،

ولهذا…

قفزت”.

هشام البستاني

الإيجاز في المقطع السابق يطلب التمهل قبل فهم حيثيات الانتحار أو التخلص الطوعي من الحياة، فالعيش في المدينة المعاصرة حيث الكثافة السكانية التي تبرر وجود عمارة من سبعين طابقا، تقابله الوحدة التي يشعر بها صاحب الذكريات. فالكثرة من الناس هم أشكال تتحرك بدون رابط حقيقي، لهذا كان التخلص من الحياة عبر معانقة الهواء، وتحمل المعانقة هنا دلالة البحث عن الآدمية الحميمة خارج أشكالها المعهودة والمصطنعة. ويجب أن لا نغفل أن صاحب الذكريات لا ينسى أن يترك ذكرياته مع جثته في بركة الدم الحمراء لعدم حاجته إليها حيث ذهب.

والواقع أن البياض المحاصر لهذه الفقرة له مشاركة في فهمنا السابق لما يريده النص. وعلى العموم فالإيجاز والبياض، ضدان لما استجمعا حسنا ـ والضد يظهر حسنه الضد. كما قال الشاعر.

ثانيا التفاصيل والمفارقة

يعمد الكاتب إلى المزج بين الحدث اليومي، والصورة السينمائية، وما يعلق في الذاكرة من أحداث وأصوات، بطريقة مختزلة تم استدعاؤها من ميدان الشعر، خصوصا ما يعرف بقصيدة التفاصيل، مفاجئا القارئ بالإحالة لتفاصيل صغيرة تثير في الذهن معاني شتى، ثم يواصل الحكي مبتعدا عن ما أثاره سابقا بشكل فيه اختراق لأفق انتظار القارئ . كل ذلك وليس في همه الشعرية المصطنعة، ولا التكلف اللغوي عبر تفخيم الكلمات وتزيينها . فلا نجد لديه استعارات أو تشبيهات، وإنما وصفت قصصه بالشعرية لان ذلك ما ينتجه النص ككل، وليس عبر الاتكاء اللفظي والتزيين الخارجي.

وكثيرا ما يكرر استعمال المفارقة التي تعد عنصرا جماليا عندما يتم استعمالها بشكل طوعي، مضيفا إليها بعض التفاصيل التي تزيد من النكهة الشعرية. كما انه كثيرا ما يصدم القارئ بضربة خفيفة عقب تشكيل صورة أرادها. يقول السارد:

“قبلها كان صوت المخرج قد أتى عبر سماعة الأذن: فاصل

إعلاني، وانهالت دعايات الفوط النسائية والعطور وزيت القلي

والشيبس. وبعدها جاء صوت أنثوي ناعم: هذه الحرب تأتيكم

على الهواء مباشرة برعاية …

… ودوت الانفجارات مرة أخرى”.

في هذا السياق الذي يعيد تشكيل الحرب والموت تحضر تفاصيل الحياة اليومية المعاشة. (الجلوس أمام شاشة التلفزيون، إعلانات الشركات الكبيرة المذيعة). والمفارقة التي أوجدها النص هو أن دلالة المقطع تشير للحرب ولكن الكلمات التي استعملهما الكاتب بعيدة كل البعد عن الحرب. (الفوط النسائية، العطور. زيت القلي، الشيبس). وفي محاولة منه لزيادة الفجيعة التي يريد أن يشيعها في النص، يعمد الكاتب إلى ذكر هذه التفاصيل بشكل عابر وسريع مكتفيا بذكر الأسماء تاركا للقارئ إعادة تشكيل الصورة من جديد. فبينما الناس بين الموت والخراب ينقطع البث من اجل إعلانات التسويق للشركات الكبيرة، ولا ينسى الكاتب أن يوظف المرأة في هذه المؤامرة عبر استعماله لأنوثتها في التسويق، ومن ثم يعود البث لمتابعة مجريات الحرب، وكـأن ما يجري في الشاشة الصغيرة هو فيلم سينمائي وليس حرب إبادة. وأكثر من يدينهم النص السابق هم الجالسون وراء الشاشة يتابعون الحرب وهم يأكلون الفشار.

ثالثا الوضوح

يشكل الوضوح في نصوص البستاني شكلا من أشكال الخديعة الماكرة، ويكاد هذا الوضوح أن يكون حجابا يستر ما تحته من إشكالات مدفونة. فليس النص عنده مجرد كلمات ذات دلالة ثابتة ومعان معروفة مسبقا، ولكنه حياة متكاملة فيها من الأبعاد ما يجعلها تنبض بالحياة، ولهذا فإن اجتزاء مقطع من النص سوف يفقده الكثير من الأدب عدا عن خلخلة البنيان ككل. وهذا يشبه ما نظّر له “ستانلي فش” بقوله :”لا علاقة بين معاني الكلمات وبين معاني الجملة المشكلة لهذه الكلمات”، فالكلمة التي تصبح حافزا لتجميع الكلمات حولها تشكل معاني جديدة غير متناهية بحسب “عبد القادر الرباعي”. ولهذا من اجل قراءة حقيقية بشكل عام على القارئ العربي أن يحمل الأدب بكل أصنافه على محمل الجد. فليست قراءة ٌتلك القراءة التي تقتنص الكلمات عن السطح، بحجة أن الأدب والقص بشكل خاص لا يحتاج صفاء ذهنيا واستعدادا مسبقا كما يحصل عند قراءة علم من العلوم.

يبدأ البستاني عادة نصوصه وقصصه بكثير من البساطة كما لو انه يتحدث في بيته لمجموعة من الزوار اللطيفين، ملقيا صورته التي يريدها دفعة واحدة دون مقدمات أو عتبات. وكثيرا ما يفاجئ القارئ بقفلة تهكمية أو بثورة غضب قاس ، ثم يعود من جديد للحكي دون شرح. ولكن هذه البساطة كما أخبرت سابقا هي نوع من الخديعة حيث أن معنى المعنى مسكون في النص وليس من الصعب الكشف عنه.

ولو نظرنا للموت مثلا في نصوص البستاني، سنجد الموت يمر مرورا عابرا لديه، ولكنه في الحقيقة يريد بهذا المرور العابر، والخطف السريع، محاولة للسخرية من الضعف البشري، فحياة الإنسان التي استمرت عقودا فيها ما فيها من أحداث وأفكار وطموح تنتهي بكبسة زر من هذا المارد الجبار. وهو كذلك تعرية للطمع البشري الذي قاد الملايين للموت من اجل منفعة أشخاص قلائل وأمام تبرير أخلاقي. فما اعنيه بالوضوح ليس أن النص يعطي بالمجان مدلولاته، ولكن أردت القول ان السرد عند البستاني ليس طلاسم وتقعرا ومحاولة لإثارة رمزية عفا عنها الزمن. لهذا فالصعوبة التي قد يتعرض لها القارئ في أعمال البستاني القصصية ناتجة عن تعسر في فهم قصديته فقط . يقول السارد:

“القاتل الذي يمشي في الشارع كانت تتبعه ضحاياه

يهشهم فلا يذهبون، يركض مبتعدا عنهم فلا يزيدهم ذلك إلا

التصاقا به.

فقط عندما جاءته رصاصة من أعلى بناية خربة، نام مرتاحا،

ثم استيقظ، وانضم إلى مظاهرتهم التي تنتهي عند الأفق”.

المعنى الظاهري للنص واضح. فالصور التي تتوالى في الذهن عادية. (قاتل يتمشى في الشارع، ضحايا يلاحقون القاتل، قناص في أعلى البناية، مظاهرة تنتهي عند الأفق). ليس من طلاسم غير مفهومة أو تعقيدات يفرضها التلاعب بمنطقية الأحداث. ولكن الوضوح الذي يقابلنا للوهلة الأولى هو وضوح خداع يحتاج التريث قليلا، إذ أن الكلمات توحي أن فيها المزيد من المعاني والصور.

فالفوضى التي يشيعها النص هي اقتراب من القاتل الذي لم يمت، والذي هو ليس القناص، فهذا الأخير قاتل مؤقت، ولكن في خلف المشهد قاتل كبير هو من جعل القتلة أنفسهم ضحايا.

قصص البستاني بشكل عام هي في الحقيقة تمرد بكل معاني الكلمة، واحتجاج بصوت عال وصراخ هستيري ونكأ للجروح.

(كاتب وشاعر أردني؛ عن “القدس العربي”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>