هي!/ إسماعيل إبراهيم

ذهب إلى المتنزّه، في وقت جلوسهم، تقدّم إليهم، ناداها باسمها، تعجّبت، لكنها لبّت نداءه، وقفت إلى جواره. تردّد. تصبّب العرق على وجهه، ارتجفت شفتاه، وهي تنظر إليه باستغراب

هي!/ إسماعيل إبراهيم

|إسماعيل إبراهيم|

إسماعيل إبراهيم

كانت تمرّ بجواره كلّ يوم تقريبًا؛ يحدجها بنظرة سريعة، ثم يعيد النظر إلى الأرض ساهمًا. تلتقي برفاقها عند طرف المتنزّه، يجلسون في حلقة وتدور الأحاديث، التي لا يسمع منها إلاّ الضحكات. تمنّى لو شارك في واحدة من هذه الجّلسات، ولكن كيف وهو عامل النظافة في المتنزّه وهم من الروّاد الرّاقين! كان يميّز ضحكتها. حتى صوتها وسط ضجيج أصواتهم كان يلفته. ماذا يفعل بقلبه الذي تعلق بها وهي لا تراه إلاّ أيقونة ملقاة بطرف طريق مرورها.

إكتفى بالنظر إليها، والحلم.

كان يشعر برقة ورهافة مشاعرها. فهو، وخلال ممارسته التنظيف، كان يمرّ بجوارهم ويختلس النظرات إليها. إنها حساسة، جريحة… هو يعرف هذا، يشعر به، ذكاؤه ليس بسيطاً، تضحك طويلاً وعاليًا، لكنّ نغمة ألم تداعب أحبال صوتها، لتشي الضحكة بخبايا قلب جريح. عرف عنها الكثير، فلا تفوته عنها معلومة إلا ويختزنها عقله، أو قلبه.

رثّ الملابس يمرّ إلى جوارهم لا يلفت انتباها، يتقطّع قلبه مع كلّ مرور، لكنّ اللذة التي في الوجع تُغريه!

لا بدّ أنّ رائحته هي الشيء الوحيد الذي يلفتهم!

كانت تناديه أحيانا وقد جمعت القمامة التي خلّفتها جلستُهم، لتريحه -شفقةً عليه- وتناوله كيسا مليئا بالقمامة. يضعه في السّطل شاكرا لها لطفها مُتمنيًا لو أنّ كلّ رواد المتنزّه بهذا الرقيّ. تتبسّم له وتطبطب على كتفه.

كان يتكرّر المشهد كثيرًا. حبّه لها، أو إعجابه بها، يخنقه، لا بدّ أن يبوح به، لكنه متردّد! كيف يُهينها هذه الإهانة! كيف يخبرها أنه هو عامل النظافة، رثّ الملابس، بشع الطلعة، مُعجب بها! لو صفعها أمام سكان الأرض وسبّها أهون عليها من إهانة كهذه، لكنه يختنق، يختنق، يختنق!

قرّر ترك العمل! سيموت جوعا خيرًا له من أن يموت كمدًا.. ترك المتنزّه، ورحل!

ترى هل سيلفتها غيابه؟ هل يحتلّ ولو خلية واحدة من خلايا ذاكرتها! تلك الأسئلة القاتلة التي لا يمكن أن تطرحها ولا يمكن أن تستنتج إجابتها، تقتله!

سيصارحها، مهما كلفه الأمر من عناء وألم، سيصارحها بحبّه أو بإعجابه، وهو يعلم النتيجة جيدًا! خطوة مجنونة قرّر الإقدام عليها…

ذهب إلى المتنزّه، في وقت جلوسهم، تقدّم إليهم، ناداها باسمها، تعجّبت، لكنها لبّت نداءه، وقفت إلى جواره. تردّد. تصبّب العرق على وجهه، ارتجفت شفتاه، وهي تنظر إليه باستغراب، قال: لا أعرف كيف سأقول لك هذا.. أنا…

أخرجتْ من جيبها قطعة نقدية، وضعتها في يده وقالت: لا يهم، كلنا يمرّ بهذه الظروف، وتركته وعادت إلى مجلسها.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. كنت لأنهي النصّ بعد هذه الجملة: “قرّر ترك العمل! سيموت جوعا خيرًا له من أن يموت كمدًا.. ترك المتنزّه، ورحل!” بعبارة بسيطة تشير إلى أنّ “الفتاة لم تعد إلى ذلك المتنزّه بعد رحيله”، وترك النهاية مفتوحة للتأويل.. أمّا نهاية النصّ فساذجة واضحة مغلقة ومتوقّعة!

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>