من مفكّرة التنابل/ جونا سليمان

قصدت البارحة محطة القطار، فإذ بطابور من الرجال والنساء يمتد بانتظام على بعد خمسة امتار او اكثر. مشيت بمحاذاتهم لأقف في مؤخرتهم فلا أجدها. كلما تعمدت اتخاذ موقعي سبقني رجل اعمال هندي او نسخة أخرى لفتاة آسيوية يصعب تحديد جنسيتها. كنديون من شتى الألوان، يبرز في تكرارهم رجل ابيض لا تظهر مشاعره الحقيقية تجاه الحضور المكثف للعناصر البشرية الاخرى.

من مفكّرة التنابل/ جونا سليمان

| جونا سليمان | 

  أرقد على فراش ليس فراشي، يمتصّ أشلاء أنوثتي في ثنايا قماشه المبتلّ، تفوح رائحته بخار محلول كيميائي. جسدي يرتدي هيئة المحتضر، قلّة هم أحبائي. يحملني هذا المشهد الى رحلة فراق كلّ من أتاني بشيء من هذه الدنيا. لن أدوم في سقمي بعد… في لفظة انفاسي الأخيرة غلّ هذا الفراق يغصّ حنجرتي ويخفق في أذنيّ لتجتذبا سيل الدمع فلا أبكي… لن ابكي…

 يتفجر بكائي فجعا فأستفيق من حلم يقظة آخر، لأكتشف انني وقعت مجددا ضحية ميلودراما بذيئة الاسلوب غير مقنعة. لو دخلتم رأسي لذهلتم من تراجيديتي. كنت “أسوح وأنوح” عندما أدركت أنني أنا والمسلسل المكسيكي الذي استحضرته للتوّ على شاشتي السوداء نتشاطر وجدانية قد تشكّل خطرًا داهما على الحس الفني الذي ابتذلته حتى ذلك الحين.
حسنا، لم أنتق تفاصيل أفكاري هذه المرة. انني أعاني من كسل التفكير مؤخرًا، ثم أنه لا بأس ان يكيل الانسان قلبه بأسى الموت، فهو بطريقة او بأُخرى يشير الى نقيضه، الأمل.

أعيش حالة من الادمان على السلبية، تشبه ادماني على السجائر بحيث انني غير معنية بالتعامل معها أو التخلص منها، خاصة في تلك اللحظات التي أجد نفسي فيها ملقاةً على فراش موت آخر، أفارق ذات الاشخاص، مع تعديلات طفيفة للديكور… إنّه لا شك مخّي الكسول.

التقي اصدقائي وبعض معارفهم في القهوة الفلانية او المجاورة لها دون تحديد الموعد، فسلبيتنا الخفية ستجتذبنا حتما. نثرثر، نقهقه، ننتقد ونسخر من كل شيء، بالذات الطاولة المجاورة حيث يجلس كلّ زبونٍ معانقًا مهنته، يبايع ويتاجر فيها مصطنعًا صداقاته. هذه اللقاءات تذكرني دوما بلعبة ”بيت وبيت”، الفارق اننا ندفع ثمن الشراب ويدفعون لنا لنتفلسف…وبهذه الخاتمة الركيكة اقف عثرة امام سيل خواطري، متعمدة اختيار الفكرة بدلا من التفكير سهوا…

أنتظر قليلا فيقلب الجو معتمًا. أنتظر المخيلة القادمة لأحدد نهجها، ولكن ألَيس تفكيري بالتفكير هو فكرة بحد ذاتها؟ أوليست هذه  فكرة اخرى الآن؟ قد لا تعتبر فكرة بتعابير تقنية… أحوم وأدور، لا أدري، ”موضوع مشربَك وبطعميش خبز”.

  لا أبحث عن الخبز، فأنا اعيش على حساب اشخاص لطالما آلمني حبهم. هؤلاء هم ذات الاحبة الذين حضروا لحظة مماتي الاخيرة، لكنهم يجهلون الان مدى سخافة استحضارهم في مخيلتي. أشتبك معهم في محادثات نفسية، تليها اعترافاتي المقترنة بشفقتي الذاتية، محادثات تنتهي بسرعة نختتمها بسيجارة متبادلة وأمل بأن يتحقق الأمل.

 أمي تعتقد انني ”قليلة خواص”. عندما كنا نجتمع انا واخواتي ونسرح ببعضنا البعض كانت تصيح في وجهنا “مثل تنابل عبد الحميد”، فتأمرنا ان نقوم بمساعدتها في اشغال البيت العديدة، التي ما تلبث ان تفقس فتصبح لا نهائية.

“أوموا إعملولكوا إشي مفيد حاجي آعدات!” فنقوم بعد أن نشقلب عيوننا عشرين مرة، ”تشقل” اختي الكبيرة حاجبها الايسر، وتتحايد الصغرى الشر وتخرج قاصدة منشر الغسيل بعد “مئة صيحة”.

 بعد ان نشرت الغسيل وجلت الصحون وسقت الزريعة وشطفت الدرج وخبزت المناقيش وغسلت 7 كيلوهات برغل ”ميّتهن سودا سودا” وحكت تلفون عأميركا، تخرج جدتي من بيتها قاصدة محطة الباص المجاورة، تنتظر ساعة كاملة، تشتم بلدية الناصرة وشركة العفيفي بغضب منضبط، بينها وبين نفسها، فإذ بالباص يشدّ ويعنّ من آخر الشارع حتى يصلها.

بعد ان صعدت درجتين، تقول بنبرة تجعل ارتجاجا طفيفا في رأسها فتتوسع عيناها:

- “شو السيرة هالقدة متأخرين؟”

- “خالتي ما انت عارفه اليوم الاحد”

- “واااال… هالقدة؟!”

 تدفع الاجرة وتجلس وراءه لتفيض عليه اسئلتها: كم ساعة يعمل، ومن دار مين، وأكم ولد، وشو بتشتغل مرته، وتجعله يعيد كل اجابة مرتين. يقذف بها بجانب بيت الدكتور عزيز ويشد ويعن هاربًا.

بعد ان وقفت ساعة كاملة، على حد قولها، حتى عبرت الى ‘الناحة الثانية’، تدخل الى بيتنا لتؤنسنا وتؤنس نفسها بنا.

لكن، وكما في كل يوم أحد، تأتينا حاملة حقيبتها المحشوة من غير تنسيق وفي أكثر الأوقات تأزما: “نهار التعزيل”.. ما ان تفتح الباب حتى تستقبلها التحية الصباحية: “كس أخت يوم الاحد”، فتكزّ أمي على أسنانها “سدّي بوزك ولي إسّا بتفرّجوا علينا الجيران”…. “كس أخت الجيران كمان”.

طرقة باب من الأعلى، طرقة صحن من الاسفل، الجو متوتر وبعض الشخصيات قد باشرت باستعمال مصطلحات سوقية لا تليق ببيت من طابقين في شيكون اليهود.

بعد انتهاء ”سمّة البدن” وابتداء الحرب الباردة، نجلس لنحتسي القهوة قبالة الحديقة الخلفية، حيث يظهر جارنا وهو يسقي حديقته قليلا بينما يتلصّص علينا كثيرا.

تباشر جدتي بمونولوج ”بنات المقلشّه”: “بششششش… شو هالبنات هادول… قاعدة مع امهن بالصالون، واحدة واقفة عالمجلى، والثانية دابكة بالحمامات، والصغيرة حرام هديك معاقة، بتقول بلسانها شمال ويمين… حرام!” تسرح في الحديقة وتحتسي قهوتها بعينين بريئتين. “… فهدات… بقول لإمهن نيّالك عهالبنات اللي بجننوا… يخليلك إيّاهن. بتقوللي تسلمي إمّ مـ…”

تستشيط أمي غضبًا مجددا، وتندب حظها، هي ”الفيليبينية” التي حكم عليها القدر ان تخدم الآخرين دون ان يقدّروا لها حسن أفعالها.

بعد نصف ساعة على هذا المنوال، تفشل خلالها جدتي بأن ”ترقـّع” وتنسب بعض المديح لحفيداتها، لتعلن أمي بالحرف الواحد ”يمّا انت تدّخليش فيّي أنا حرّة ببناتي”. تسود لحظة قصيرة من الصمت، تذهب جدتي من بعدها “زعلانة”، ترفع حقيبتها البنية التي كدّستها بمجوهراتها الفالصو، وتنعطف مباشرة الى محطة الباص، مع إعلان تعليق المفاوضات العائلية حتى إشعار اخر.

 وعلى سيرة الفالصو، طبعْت كلمة فالصو على الشبكة لأتحقق من تهجئتها وصحة تداولها، فأجدها تحت عنوان: إمراة باعت شرفها مقابل فالصو.

“هذه قصة حقيقية يرويها الشيخ محمد حسين يعقوب لاستخلاص العبرة منها والتعرّف على حقيقة الدنيا”. باختصار شديد يروي لنا الشيخ قصة إمراة ذهبت الى دكان المجوهرات بحيث طلب منها البائع ”أن يراودها عن نفسها، اي يزني بها” فترفض، لكنه يعدها ان يعطيها ذهبا فيعطيها فالصو كما يقترح عنوان القصة.

تنتهي هذه التراجيديا عندما تذهب المرأة الى مجوهراتي آخر لتتأكد ان كان الذهب فالصو، وتعود لتطعنه 38 طعنة بالسكين.

وفي سياق ”غلّ هذه الامراة”، يقول الشيخ ”مؤكّد أن الإجابة هو أنها ضيّعت شرفها وهو أغلى ما تملك المرأة مقابل فالصو [...] فتذكر هذه القصة ولتجعلها نصب عينيك، ولتعلم أن كل ما في هذه الدنيا من شهوات ومتع إنما هي فالصو”.

حسنا… لاتابع …

 وقفت بعري مجازي امام استحالة مخيلتي،لا ادري كيف أتابع، عدّلت موضع جسدي لأوطد علاقتي مع نفسي فلم أجدها. أشعر بتجوف عميق في أعلى بطني، يجعل انقباضا مؤلما في صدري يحبس انفاسي. يجب أن أجد طبيبًا آخر يؤكّد لي أن هذا الألم فالصو، فأعود لأطعن عقلي 38 طعنة بأفكار الموت والسرطان المتفشّي، دون أن تسيل دموعي أو أشفق على هذه الذات العليلة.

 لكنني الآن في كندا، في بلدة تذكر ب_ “نتسيرت عيليت” واخواتها (الى حد ما). لا جدوى من سلبيتي في مكان كهذا، فلا من أحد يأبه بأحد، ولا مرسى هنا لانطباعاتي المنكودة.

قصدت البارحة محطة القطار، فإذ بطابور من الرجال والنساء يمتد بانتظام على بعد خمسة امتار او اكثر. مشيت بمحاذاتهم لأقف في مؤخرتهم فلا أجدها. كلما تعمدت اتخاذ موقعي سبقني رجل اعمال هندي او نسخة أخرى لفتاة آسيوية يصعب تحديد جنسيتها. كنديون من شتى الألوان، يبرز في تكرارهم رجل ابيض لا تظهر مشاعره الحقيقية تجاه الحضور المكثف للعناصر البشرية الاخرى.

اتسلل الى ما يكاد يكون نهاية الطابور، وأستدير للآتين بعدي. صوت امراة يعلن إتخاذ إجراءات جديدة في نقل المسافرين.

الكل يقف صابرا. أكبح تأففي المعتاد لكي لا أُشهر اغترابي وأكتفي بالتحقق من أسباب الـخبر لأشرعن تأخيري عن الموعد. يخبرونني ان أحدهم قتل على السكة، حادث انتحار على ما يبدو. سبب كاف لرسالة إعتذار عبر النقال، بالرغم من أنها غير رسمية وليست مقنعة.

 ألتفت إلى من حولي بعد أن جلست على  المقعد الخالي الأخير في الحافلة . خمسة اخرون وقفوا أمامي، وجعلوا يتأملون راحة خمسين راكب ممن يحملون أجهزتهم النقالة على امتداد نظرهم. تنزلق أصابعهم عليها ليستخرجوا كل الاحرف والارقام المبشرة بمصيرهم. آخرون سدّوا آذانهم باكسسواراتها ليستمعوا الى هذا ”السينغل” او ذاك. نقالي جهاز متخلف ولا صلة له بالامور اللاسلكية، بالكاد يستقبل الكترونات الشاحن.

أحول نظري الى صفاء السماء وصقيع المدينة.

مرت ساعة كاملة حتى خرجنا بانتظام الى محطة كلاركسون، حيث سيتسرب الجمع الغفير الى الانفاق المؤدية الى رصيف قطار تورونتو. اعدو في النفق، يخيل لي انني سأدخل القطار ثانية قبل مغادرته. اعدو واتعثر كالمصعوقة واتركهم ينظرون الي باستغراب.

اخرج منفعلة لادرك ان هنالك ما يكفي من الوقت لأملّ المشهد الكندي المعروض أمامي. البعض زين معطفه بزهرة حمراء، استفسر، فتقول لي بيضاء البشرة مصبوغة الشعر ”كما يبدو انك لست كندية!” أجزم انها غبية، ادبلج نبرتي واجيبها ”كما يبدو، والا ما كنت سألتك هذا السؤال”.

“ انه يوم ذكرى استشهاد جنودنا، نحن نتذكرهم في مثل هذا اليوم” تجيبني بابتسامتها البلهاء متأثرة بجراح حّسها الوطني. “اه…” اجيبها دون اكتراث كي لا تسترسل.

احول نظري الى السكة. استحضر حادث الانتحار في ميدوفيل في بقعة مشابهة لها في كلاركسون. انه انتحار من غير نوع آنا كارينينا، فالرصيف والسكة على ذات المستوى، ومن تعمد قتل نفسه لم يلق بها، بل مشى واستلقى على السكة حتى داسه القطار.

هل فعل ذلك ليعرقل المئات في موته عنوة؟ ام انه اختار عمدًا أكثر الميتات فظاظة ليستسلم في ذاته؟ سؤالان سخيفان لكنهما يعيدانني لأتذكر تراجيديتي أنا في هذا السياق.

أكره الانتظار. أجلس في الطابق الثاني للقطار بينما ينغّم سائقه اوامر الاحتياطات والحذر قبل أن يغلق ابوابه.

يعدو القطار بالاتجاه المعاكس لبقع الدم التي لطخت ما لطخت قبل استدعاء المسؤولين عن تنظيفها، آخذا معه افكاري وافكار جميع الجالسين مثل تنابل عبد الحميد لا يشغلون أنفسهم بشيء سوى استسلامهم سهوا لسيل مخيلتهم.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. كتش كتش كتش يم سليمان .

    رائعة جوناثية ، لكن اللي حط هيك صورة ،
    مش عارفه ليش هيك بتصرف ؟؟! .

    عاشقة الليل

  2. مش معقول شو انك متشربكة بكتير اشياء “شي طبيعي” في زمان اصبحت الحياة غير طبيعية وتحتم علينا جميعا ان ننساق ورائها بالرغم عنا او بعبارة اخرى غصب عن الله تبعنا.
    من ألأخر… مقال كتير غريب بفحوى سردك للأحداث المتتالية والواقعية وهي ألأهم برأيي.
    انا مش ناقد, لكن بقول يعطيكي العافية على مجهودك بصياغة كتابة هذا المقال اللذي قرأته مرتين قبل ان اعطيكي رأيي.

  3. خليكي عندنا في البلاد. بحاجة لكاتبات مثلك.

  4. بالعكس, الرسمة ملائمة وحلوة كثير. ليه ما تعطينا نقد أكثر بناء, أخ حوكايم؟

  5. حرام رسمة كيتش لنص من هالنوع. عيب.

  6. رائع! كل الاحترام والى الأمام.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>