الحلبي: الكتابة سفر حرّ لا تحتمل الوصاية/ عبد الحق بن رحمون

الشاعر مرزوق الحلبي يتحدث لـ “الزمان” عن ثقافة شمولية في شقها الديني وعن منابع القصيدة

الحلبي: الكتابة سفر حرّ لا تحتمل الوصاية/ عبد الحق بن رحمون

مرزوق الحلبي

|عبد الحق بن رحمون|

أبرز الشاعر الفلسطيني مرزوق الحلبي لـ “الزمان” أنّ القصيدة يجعل منها غزالة حرة أو صبية مستقلة تماما في شخصيتها وحضورها وهندامها، وفي حكايته مع القصيدة التي كتبها أو تلك التي سيكتبها مستقبلا يقول الحلبي، إنها تتشكل أولا في العقل المدبّر حتى تختمر. أما صياغتها فقد لا تستغرق سوى دقائق.

وبالنسبة للخوف من المجهول يوضح مرزوق الحلبي في هذا الحوار أنّ المجهول هو الشيء الذي لا يخافه. مضيفا إنني تربيت في حضن عقيدة مفتوحة الأبواب تَدين بالعقل وما يستطيع من حضور وكثافة ولطافة.

إلا أنّ الحلبي على اعتقاد وقناعة بأنّ له أكثر من طريقة لبلوغ الشعر المصفّى، تماما كما هي الطرق المتعددة لعين الماء أو للطاحونة، باعتبار أنّ الكتابة وحسب رأيه، فعل أوله وآخره رضا الفاعل عن نفسه وفعله.

وفي ما يلي الحوار الذي أجريناه معه:

- ما حكايتك مع القصيدة… وهل لك أن تروي لنا كيف تكتبها والمراحل التي تمرّ منها ؟

الحلبي: “صحيح أنّ العلاقة بالقصيدة حكاية تتجدّد، تتشابه وتختلف، تتقاطع وتتباعد. لكلّ قصيدة حكايتها أو حكايتي معها. في معظم الحالات تبدأ الحكاية بفكرة يحفّزها المرئيّ أو المحسوس أو المفكّر فيه أو ما يلتقطه الحدس أو ما يأتي به التأمل. كلها مجتمعة أو منفصلة ترسم أمامي بدايات القصيدة، وتنشر أمامي ضبابها، وأحيانا إيقاعها أو رتمها أو ملامح فيها. ويكون عليّ أن أتابع من هذا الالتباس نحو تكوين جديد هو القصيدة. ويحدث أن تُفضي المتابعة إلى مزيد من الالتباس فيصير الضباب عتمة أضع في لجتها عدتي وأعود من حيث أتيت. ويحدث أن أجرّب من جديد عندما أشعر أنني بكامل عافيتي الشعرية.”

الخلق والتكوين

- ما موقع الخيال والصدق في تجربتك؟

الحلبي: “مهما يجنح الخيال أو يبتعد فإن الحقيقة تفوقه ابتعادا. الواقع هو أصل الخيال ونُقطة ارتكازه. أجدني مسكونا بالواقع وهو أكثر إدهاشا. أبدأ في العادة من الصدق أو تمثيلاته. ثم أبدأ عملية الخلق والتكوين شعرا أو إيقاعا ومادتي اللغة وما يتيسّر لي فيها من ممالك ومفردات وصور وتراكيب. أحاول أن أضمّنها صوتي أو بعض ملامحي إن لم يكن كلها. فالقصيدة عندي دالة على الذات بامتياز.”

- ماهي المراحل التي تمر منها قصيدتك؟

الحلبي: “مجيء القصيدة عندي ليس واحدًا. ومراحلها كذلك. فعملية البناء قد تكون قصيرة من لحظة إضاءة الفكرة لي. أو قد تطول أو تصل إلى باب موصود. المسألة التي تشغلني هي كيف تخرج الفكرة بهيئة أكثر شعرًا وفنيّةً وجمالية. والامتحان هو مدى الرضا الذي أشعره خلال عملية البناء، لأني أمارس العمل الصحفي والحقوقي كتابة وتحريرًا، أسعى لأن أخرج بقصيدتي من مباني اللغة اليومية التي أشيّدها. عندما أشعر بأنني تحررت من قبضة لغاتي الأخرى وقاربت الشعر أجعل من القصيدة غزالة حرة أو صبية مستقلة تماما في شخصيتها وحضورها وهندامها.”

- هل بمستطاعك أن تكتب قصيدة كل يوم؟

الحلبي: “لا. حدث القصيدة قد يمتدّ على لحظات أو لمحة أو التقاط صورة لكن بناءها يستغرق أضعاف أضعاف هذا الوقت. الاحتراف يعني أحيانا التدرّب المستمر وتطوير المهارات والقدرات، لكنه عندي البحث عن مستويات جديدة وفنية أخرى لم أبلغها. القصيدة تتشكل أولا في العقل المدبّر حتى تختمر. أما صياغتها فقد لا تستغرق سوى دقائق.”

المرحلة التجريبية

- هل سبق لك أن ندمت على قصيدة لم تكتبها بعد أو كتبتها في وقت مضى؟

الحلبي: “بالنسبة للشقّ الأول- قُيّض لي أن أنظّم دورات تدريب على الكتابة الإبداعية. وأعترف أنني غبطت طلابي وطالباتي على نصوص كنت أريد أنا أن أكتبها. لأني لا أعدّ ما كتبته في المرحلة التجريبية شعرًا أو أدبا فقلّما أجد نفسي نادمًا على نصٍّ كتبته. ومع هذا يلازمني الشعور بأني لم أكتب حتى الآن نصي، ذاك الكوكب غير المعروف والذي سيدهش الكون بطلته. وسأكتبه يومًا ما سيأتي. كلّ ما كتبته يقع في ظلّ ما أشقى لأكتبه.”

- هل فعلا كل قصيدة كتبتها توازي خصلة شعر بيضاء في رأسك؟

الحلبي: “ليس على رأسي شعر. وعليه، تعذرت الإجابة. القصائد على العموم أشياء مني وفيّ وعني. وهي غالبا عن اللا مرئي لديّ، ولا أعرف بما يُمكن موازاتها أو تقييمها. القصائد متفاوتة القيمة لدي وعلاقتي بها تختلف وتتحول.”

- دائما أنت تخاف من أن تخذلك يوما الكتابة وتجف قريحتك، لذا تبدو مثل تلميذ مواظب على الحضور، وخوفك من هذا المجهول هل يوازيه خوفك من تساقط شعرك وإصابتك بالصلع؟

الحلبي: “لقد اعتدت على حلق رأس والدي أمدّ الله في عمره. واكتشفت مع السّنوات أنّ شعر رؤوسنا في الأسرة، ينحسر بالوراثة في وقت مبكّر. يومها قرّرت أن أحلق شعري على الصفر في فترة مبكرة من شبابي كي أتعوّد وأعوّد الآخرين على الذي سأصيره يومًا. أي، أنني قطعت الطريق على الزمن وآثاره وقفزت أمامه. لا أزال تلميذا بمعنى ما. أسعى لأن أرضي أستاذا ما في مكان ما من حيث أني مواظب -والأستاذ يحب المواظبين- وأني أتقدم على سلّم تقييمه. أحسبني أحيانا ذاك الأستاذ الواقف فوق رأسي أترقّب مني أن آتي بالمدهش. أنا في علاقة كهذه مع ذاتي الشاعرة ومع ما تُبدعه. أما المجهول فهو الشيء الذي لا أخافه لأني تربيت في حضن عقيدة مفتوحة الأبواب تدين بالعقل وما يستطيع من حضور وكثافة ولطافة. علاقتي بالكتابة محكومة لفاعل واحد وحيد يتجسّد في سؤال يلازمني كظلي، أي استعارة أو مجاز يُمكن أن تضيف للشعر، أي فكرة مشرقة لم يشهدها العالم بعد سترمي بها أمام أستاذك يا مرزوق الحلبي؟”

حدائق النص

- هناك من يوسوس له الشعر كل لحظة بمكر، ويكتب بشراهة، أو بتقتير كأنه يتنفس الهواء من منخر واحد. قد ينشر أو لا ينشر ما كتبه، بالنسبة إليك أي طريق ستوصلك إلى نار الشعر المصفى؟

الحلبي: “لم أجد طريقتي المثلى بعد. تحت يدي الآن فكرة أحاول أن أؤلف شتاتها وفي صلبها السؤال الذي يلازم المبدع ماذا تأخذ معك إلى حدائق النص؟ طبعا يُمكن أن نسأله بشكل آخر. أحاول تسجيل إجابتي لكني لم أفلح بعد. على أي حال -ريثما أجد ضالتي- سأظلّ على اعتقاد أنّ هناك أكثر من طريقة لبلوغ الشعر المصفّى تماما كما هي الطرق متعدّدة لعين الماء أو للطاحونة. سيكون علينا القبول بالتعددية هنا، أيضا، فنجزم أن هناك أكثر من طريق إلى سدرة المنتهى الشعرية.”

- هل أنت مقتنع تماما بوجود ضرورة أن يمارس عليك أحد ما وصاية على ما تكتبه، ويحاسبك على أخطائك ويتغاضى على صوابك؟

الحلبي: “أذكر أننا في فترة الدراسة التوجيهية أراد مدير المدرسة أن يمارس نوعا من الرقابة على مطبوعة طلابية كنت رئيس تحريرها. رفضت شروطه كلها وهددت بطباعتها خارج المدرسة مع الإشارة إلى محاولته. قبِلَ، وأصدرنا المطبوعة محررة من عين الرقيب. فيّ رفض فطري للوصاية من أي نوع. أعتقد بنظرية في علم النفس تقول بأن العمر هو محصلة صراعك مع سلطات ومرجعيات. والكتابة بوصفها سفرًا حرا في اللغة والفكر لا تقبل الوصاية من أيّ نوع. صادف أن كنتُ في أحزاب وحركات وأطر. وصادف أن خرجت منها لرفضي مفاعيل القمع وفنون الوصاية فيها. حتى في دراستي الجامعية وجدتني في مواجهة مع المعرفة النازلة عليّ من الأساتذة. من عادتي أن أرسل نصوصي لأصدقاء وزملاء طمعا في إضافة أو إشارة أو حكمة وأجدني أصحّح وأعدّل وفق ما قالوه. هذه الوصاية الوحيدة التي أقبلها. لا أطلب من أحدا التغاضي عن أخطائي إذا وقعت ولا أنتظر من أحد مديحا. الكتابة فعل أوله وآخره رضا الفاعل عن نفسه وفعله. والمُبدع هو أفضل ناقد لكن ينبغي ألا يكون الوحيد.”

 

مصادرة الحريات الشخصية

- شهد العالم العربي تغييرا في أنظمته، هل تنتظر مثل هذا التغيير والثورات في الثقافة والإبداع، وهل سيطول موعد تحقيق ذلك؟

الحلبي: “التغيير الذي حصل هو الأوسع منذ حقبة الاستقلال العربي أواسط القرن العشرين. لكنه حصل فيما هي الدولة العربية الإقليمية تلفظ أنفاسها بعد أن تهلهلت وتداعت بفعل العولمة أو ضغوط الداخل. وهي حركات غيّرت الأنظمة السياسية في شكلها ورموزها دون أن تنفذ إلى القلب النابض للمجتمعات العربية. فما أراه بأم عيني هو العودة القهقرى في كل ما يتعلق بالحريات. الأنظمة البائدة صادرت الحريات السياسية لا سيما حرية الكتابة والإبداع تحت غطاء أنظمة الطوارئ، وها هي النُظم الإسلاموية الصاعدة تؤشّر إلى أنها في سبيلها إلى مصادرة الحريات الشخصية، أيضًا. فانظر الحرب التي تشنها ضد الجسد وضد ما يعنيه من حقيقة ناجزة باحتياجاته وطبيعته. أن تقرر الدولة فيما تلبسه المرأة أو الرجل أو تحديد الهيئة العامة للناس يعني أنها انبرت تهندس البشر وتعلّبهم وقد تجلدهم وتسجنهم وتحرمهم حقهم على أجسادهم. ألِهذا بُذلت التضحيات؟ الثقافة العربية في شقها الديني شمولية مناهضة للحريات والعقل والإبداع تغطي على عارها وأعطابها بالعنف المقدّس والوصاية المُطلقة. برأيي، من غير الممكن لهذه الثقافة أن تنهض إلا باعتماد مرتكزات جديدة في صلبها قبول التعدّد والاختلاف والاتفاق على تصريفه بالحوار ليس إلا. حتى الآن أخفقت الثقافة العربية في تصريف الاختلاف لأنها لم تقبله أصلا فكانت القوى الفاعلة نقيضة لبعضها لا بدائل. قوى علمانية قليلة في الثقافة العربية تقترح علينا بدائلَ وهي نفسها مهدّدة الآن بالفكرة الشمولية للقوى الإسلامومية التي تعدم حتى الآن تيارا إصلاحيا نافذا. أخشى على الثقافة العربية من حقبة أكثر عتمة للعقل المفكر.”

- هل من الضروري أن تكون منتميا إلى مؤسسة ثقافية للأدباء؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى هناك من يرى أن الشاعر قد يضيع عمره كله ولا ينال الاعتراف، بالنسبة لك هل نلت هذا الاعتراف إلى هذه الساعة وماذا أضاف لك؟

الحلبي: “المشكلة في الأطر والمؤسّسات في الثقافة العربية أنها عقائدية وليست مهنية. نوادٍ أبوابها مواربة غير مفتوحة. الهواء في ردهاتها غير منعش ولا صحي. سؤالها لا يتصل بالنوعية وغنما بالعقيدة واللون. وهذا ما أفقد الأدب معناه وأفرغه من مضمونه. ومن هنا أرفض الانتماء والتأطّر على هذه الطريقة المتقادمة. حريتي أفضل لشعري أو لفكري من انتمائي النقابي. حتى أنني أرفض أن يُكتب إلى جانب اسمي الفلسطيني أو العربي لأنها نعوت يقصد بها واضعها أن يشدّني إلى مركزه لاغيا بذلك كوني مركزا قائما بذاتي لا بذاته هو. الهوية الطائفية أو القومية أو العرقية أو الحزبية والإقليمية ليست ضمانة لأدب رفيع ولا لقصيدة مَليحة. وهذا ما يطرح سؤال الاعتراف. كل يُجيب عليه بطريقته وفقا لفهمه مسألة الهوية، وهنا هويته كشاعر. في بداياتي مع اليوغا -وكنت يومها سجينا سياسيا- أدركت أن الحقيقة تبدأ من التأمل في الذات وأني مركز الكون ونُقطة البيكار لا الكون خارجي. من هنا لا يهمّني أتى الاعتراف من خارجي أو تلكأ. يهمّني أن تصلني جملة بسيطة أو ملاحظة من قارئ مغربي أو عراقي لا أعرفه أكثر مما يهمّني البحث عن اعتراف من جهة أو عُصبة عقائدية بالأساس. أنا بشكل خاصّ يهمّني اعتراف مَن أعتبرهم أهل الأدب والذوق وبعض أساتذتي في اللغة والأدب. خبرتُ الاعتراف حدثا متواصلا يتشكّل كـ البازل، قطعة في إثر قطعة، فيكون للصورة حضور، وللشاعر، أيضا.

(عن جريدة الزمان الدولية، العدد 4303 التاريخ 13/9/2012)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>