لا وطني!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي| من الوطن جاءت الوطنية والوطني والحركة ال […]

لا وطني!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي|

مرزوق الحلبي

مرزوق الحلبي

من الوطن جاءت الوطنية والوطني والحركة الوطنية والأحزاب الوطنية والموقف الوطني والثوابت الوطنية والمشروع الوطني والقضية الوطنية.

من هذا الوطن جاء كل هؤلاء الأبناء والبنات. من الوطن، المكان والحيّز جاءت التسميات.

والوطنية شعور في صميمه حبّ الوطن حيث يشعر الإنسان بكامل الانتماء وكامل الغُربة.

 وفي حالتنا، حب الوطن يعني التوق إلى المفقود وإلى المأمول بعد أن خضع الوطن المكان والمعالم لسيادة الآخر ولُغته.

الوطنية في حالتنا ممارسة سياسية مناهضة لسيادة الآخر وسياساته.

الوطنية في حالتنا ذاكرة مشبوبة وحنين إلى ما كان بعد إعادة تخيّله ورسمه بتذكّر أدق التفاصيل والأسماء والأحداث.

الوطنية هي التمسّك الذي لا يساوم برواية المكان والناس الذين كانوا ولا يزالون فيه.

الوطن هو أن يكون لكَ لون وطعم ورائحة وصوت وموت في حيز محدّد. الوطن هو المكان الذي تعود إليه أو تُنفى منه.

من هنا هذه “اللغة الوطنية” التي نشأت هنا على مدار عقود ستة وما يزيد. إنشاءات لغوية وذهنية ومبانٍ وأنساق وأنماط وثوابت ومعايير. كل شيء عندنا يُقاس بمدى “وطنيته”. كل شيء عندنا يصنّف وفق الحدّ “الوطني”، قريبا منه، على ضفافه أو بعيدا عنه حدّ النقيض. وطني أو غير وطني. وطني أو مُعادٍ أو عميل.

جاءت ثقافتنا برمتها على هذا القياس. فما كتبنا شعرًا ونثرًا وما غنينا إلا على مقام “وطني”. وكل ما خالف ذلك اعتُبر ملهاة أو جهدا سدى أو عدما!

لا تزال تعيش فينا قوة دفع بهذا الاتجاه. ولا يزال هناك “وطنيون” حتى النُخاع يحملون الراية ويكرّرون الكلام ذاته ويطلقون النفير “الوطني” بمناسبة وبغير مناسبة. قوة دفع تشدّ عكس التاريخ وعكس التحولات الجارية في هذه الثقافة بالذات. قوة دفع محاصرة بالوقائع الجديدة تدافع عن نفسها أكثر مما تفعل في الواقع. تردّ ما تعتبره أذى بدل أن تُعنى بالتغيير والتحول والتجدّد.

ضاقت مساحة الوطني وضاق خلقه وكلامه وقاموسه وصدره وباعه. صار الانتماء الوطني التزاما عقيما بعقائد دثرت أو أطر شاخت تماما. ثقافة أحادية الفعل تدعي التحرير وتُنتج أطنانا من القمع. تحكي يسارا وتمارس يمينا. تنادي بحقوق الشعوب وحريّاتها وتنتهك حقوق رجالها ونسائها وموظفيها ومحترفيها. ثقافة تُنتج كل يوم ضحية تخوين وترمي في الشوارع جثث ضحايا محاكمها الميدانية و”ثوابتها” و”أحكامها”. ثقافة تنسخ بحِرَفية القهر والعنف عن قاهرها وتحوّله إلى جزء لا يتجزأ من أنماط تفكيرها وعملها. ثقافة تماثلت مع الدكتاتور والمجنون وتمسحت بعباءة الديّوس وهتفت لهدهد الشام ورقصت على وقع الكاتيوشا والموت السدى دون أن يرفّ لها رمش أو يندى جبين.

ثقافة وطنية نشأت من صلب النكبة وقلب الإنسانية المكلوم لكنها آخر ما اهتمت له وبه الإنسان. فقد وَضَعته بين خيارين أما الانخراط فيها بُرغيًا صغيرًا أو أن تلحق به اللعنة الربانية والأرضية حتى الممات.

ثقافة وطنية أنتجت هوية معطوبة في الجذر.

هوية مغلقة كالحصن، عدوانية عنصرية شوفينية. فإذ بنا أمام نماذج مشوّهة لوطني انتهازي ووطني فاجر ووطني فاشل ووطني منافق ووطني دجّال ووطني وصولي ووطني متجبّر ووطني متكبّر ووطني وضيع لكنه متغطرس ونمرود!

ومع هذا، كل نعت للوطني غير ذي أهمية لأن “الوطني” هو نقطة البيكار! كُن وطنيا وافعل ما شِئت- قالت لنا هذه الثقافة العالقة في الطين!

من فرط الوطنيّ تعطّل الإنساني!

سدّ الوطني بالالتزام أبواب الاستنارة ورمى المفتاح في حمى نضالاته الوهمية!

أجهز الوطنيّ في ورشته على غِنى التعددية وأهال عليها “الثوابت”!

حاصرت جيوش الوطنية أو فلولها العقل في تخوم العقيدة أو الهوية وفرضت عليه الجزية!

صار لزاما على واحدنا أن يخرج من حدود وطنيته كي يتصل بإنسانيته! صار على الواحد منّا أن يعيش في الزمن اللاوطني كي يخلّص روحه. صار لزاما على واحدنا أن يعيش في الحيز اللاوطني كي يُبقي ضميره حيا. صار شرطا أن تهرب من الإطار الوطني والحركة الوطنية كي تحتفظ ببعض أخلاقيات فلا تدافع عن سفاح ولا تشحذ سكينا يقطع أصابع الرسام ويحزّ حنجرة المغني.

صار ضروريا أن تكون لا وطنيا حتى تُدرك معنى الوطن!

صار لزاما أن تكون لا وطنيا لتردّ للإنساني اعتباره!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. جميل جدا. لأن الوطنية هي تعبير ومثال اخر لطريقة بناء الايديولوجيات على انواعها، تتعطل فاعليتها الاساسية حين تستعمل لتخوين الرأي المختلف عنك. وهذا ما حدث ويحدث دائما مع كل انواع الايديولوجيات البشرية، التي خلقت من أجل خدمة مجموعة معينة ومحدودة من البشر. بينما معنى الانسانية هو التقارب والتساوي، حتى مع المختلف، لأنه انسان.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>