مُرٌّ مثل نكبة: جان دوست عن الذكرى 67 للنكبة

كان ممنوعًا علينا أن نتأوّه بالكرديّة، فجاءت آهاتنا فلسطينيّة على شكل عتابا وأوف وميجنا

مُرٌّ مثل نكبة: جان دوست عن الذكرى 67 للنكبة

Palestine_map_Key_Chains

>

|جان دوست|

في سنتي الجامعيّة الأولى اشتريت سلسلة فضية تحمل خارطة صغيرة لفلسطين وضعتها في عنقي متباهيًا بأنني تقدّميّ يساريّ أتضامن مع “قضايا الشعوب”، مستعيضًا بذلك من التعبير عن وجعي الكرديّ الخاص. كان ممنوعًا علينا أن نتأوّه بالكرديّة، فجاءت آهاتنا فلسطينيّة على شكل عتابا وأوف وميجنا. لم تكن تلك السلسلة الفضية إلا تعبيرًا بسيطًا عن تعلّقي بقضية شعب مظلوم يُشبهني في المجازر والتهجير القسريّ وحتى الدم المسفوح ورائحة التراب.

لقد كنّا نحن الكرد، نشعر بأنّ فلسطين هي قضيّتنا وقد ارتدت الثوب الفلسطينيّ واعتمرت بالشطوة. فتماهينا معها، غنّينا لها، بكينا حين سمعنا قصص النكبة والتغريبة الموجعة والمخيمات والتشرّد. قرأنا قصائد محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وقصص غسان كنفاني وروايات إميل حبيبي وكأنّ هؤلاء يكتبون عنّا وعن وجعنا.

لا أبالغ حين أقول إنّ قضية فلسطين حفرت في وجداننا جراحًا أعمق من تلك التي تركتها قضية كردستان. المؤلم في الأمر أننا كنا نستطيع أن نجاهر بآلامنا الفلسطينية في حين نخفي وجعنا الكردستاني عن أعين السلطة التي احتكرت قضية فلسطين وتاجرت بها كلما عَنَّ على بالها أن تُفحم معارضيها فتذكّرهم “بإسرائيل وخطر إسرائيل المحدق بالأمة”، ما يتطلّب تأجيل الحديث عن الحُريّات إلى ما شاء الله.

كنا بسطاء في حبّنا لفلسطين. نحبها لأننا “غريبان ها هنا.. وكلّ غريب للغريب نسيبُ”. لم نكن نريد شيئًا مقابل حبّنا للشعب الفلسطيني سوى أن يعود نازحوه إلى أرضهم وديارهم وبيوتهم، ونحصل نحن على حريّتنا.

جاد النظام على معتلقيه فأطلق اسم فلسطين على أعتى الفروع الأمنيّة في دمشق فبات فرع فلسطين رمزًا للرُّعب والموت!

كنا نسمع طبلاً وزمرًا كثيرًا من إعلام حكومتنا “القوميّة العربيّة”، وزعيقًا يملأ إذاعاتها ليلَ نهارَ عن فلسطين وقضية فلسطين وضرورة تحرير فلسطين، بل جاد النظام على معتلقيه فأطلق اسم فلسطين على أعتى الفروع الأمنيّة في دمشق فبات فرع فلسطين رمزًا للرُّعب والموت! صدّقنا لسنوات كثيرة ما يدّعيه أهل السلطة في مشارق البلاد العربيّة ومغاربها، ولم نكتشف إلا متأخّرًا جدًّا أنّ فلسطين التي يريد هؤلاء أن يموتوا دونها ما هو إلا اسم وهميّ يطلقونه على سلطتهم التي أرسوا بنيانها بالحديد والنار ودموع خلبية ذرفوها على فلسطين.

ذات يوم ربيعيّ مشمس، كنت أرتدي قميصًا مفتوح الأزرار العلويّة كعادة الطلبة اليساريّين. وعلى صدري تتأرجح فلسطين الفضّيّة وأنا أصعد الدرج إلى كلية العلوم في جامعة حلب. ما إن دخلت الصالة الكبيرة أو المدرّج حتى فاجأني زميل من الشؤون الإداريّة، “وهم مخبرون أمنيّون وظيفتهم مراقبة الطلبة ونشاطاتهم ويتسترون خلف أعمال إداريّة، وكُنّا نعرفهم واحدًا واحدًا”. تقدّم إليّ ذلك الزميل واسمه م. أبو دان، وقال بكلّ صفاقة: “يا رفيق مو انت كردي؟” قلت: “نعم كردي”. فقال: “طيب شو دخلك بفلسطين؟ ليش تعلقها على صدرك. نصيحة مني بلا لك ياها”.

بلعتُ ريقي. كان مُرًّا جدًّا؛ مُرًّا مثل نكبة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>