بين الرمق والعودة/ حسن يارتي

|حسن يارتي| ها هو اليوم أمير جد سعيد بتواجده على الشاطئ […]

بين الرمق والعودة/ حسن يارتي

|حسن يارتي|

حسن يارتي

ها هو اليوم أمير جد سعيد بتواجده على الشاطئ، يقضي وقتا طيبا، يسبح في مياه دافئة وجوّ صافٍ، متناسيا أيامه الروتينية التي يعيشها طوال الوقت. لم يكفه ذلك، بل قرر الغوص وحده بعيدا عن عيون العامة التي لم تكن تلاحظه حتى، لكنه أراد أن يكون حرًا.. فعل ما عزم عليه دون كثير تفكير؛ كان هدفـه آنذاك إرضاء فضوله الذي يتمحور في ماهية الشعور باحتضان الطبيعة دون رقابة الآخرين.

شرع بالإلتحام مع مياه المحيط وأمواجه رفقة إحساس لم يسبق له أن عاشه من قبل، راق له كثيرا.. ولم يقوَ على مقاومته، لذلك لم يرغب في العودة إلى البرّ أبدًا. عشق لحظاته وكأنه يسبح بين السّحاب في أعالي السموات ضاربا عرض الحائط كل الحواجز التي تمنعه من أن يعيش لحظته الخيالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

فجأة، انكسر ذلك الحلم الجميل عندما تلقى صفعة مؤلمة من السّحاب الذي هو بينه.. من موجة قاسية، عاتية آلمت وجهه وجعلته يشعر بالدوار. وبينما يحاول أمير تدارك الأمر واستيعاب ما يحدث، إذا بأخرى تصفعه مجددا كأنها تريد الانتقام لأنه اغتصب عذرية مياهها.

يغرق أمير في حريته التي اشتهاها قبيل دقائق، قاصدا قعر المحيط ومستسلما لأمر واقعه، فاقدا للقوة لدرجة أنه لا يستطيع تحريك يديه حتى، حينها استحضر عقله ذكريات حياته كلّها في صور مرّت أمامه في ثوان معدودة، أدرك حينها أنه في لحظات عمره الأخيرة.

عَلِم أنـه الرمق.

بعد برهة.. فقد الوعي، وبدأت أنفاسه تنقطع وإذ بأمير يتذكر أول شيء… أيام طفولته. الطفولة البريئة التي عاشها لم تكن بالسّعيدة، لأنّ كلّ طفل -أو جلّهم- يعيشها بين كلا والديه، وهو عاشها مع والدته فقط التي سهرت وعانت لتربيّه، موفرة له كل شيء بمقدورها أن تقدمّه. لم يغفل ذهنه عن استحضار ذكريات أمه التي انتحبت طيلة الليالي الشتوية الباردة، ولم يكن يغمض لها جفن حتى ينام، ولم تتغذَّ حتى يأكل بل ولم ترتشف قطرة ماء حتى قدمت له كل ما اشتهى!

يتذكر أول أيامه في المدرسة الإبتدائية، ذاك اليوم الذي لا يُنسى! كل طفل يمسك والديه بشدّة ليتخلص من الفكرة المزعجة التي طالما تخيلها تظهر فجأة من زوايا ممرات المدرسة. يد أمير اليسرى لا يمسكها أحد. فقط اليمنى التي تدفئها أمه بحنين طيباتها.

بعد أن قبّلته على خدّه، تركته ليخطو خطوته الأولى نحو طاولته التي ستلازمه طوال العام. إنه في قاعة الدرس. طبعا ستود المعلمة معرفة وظائف الآباء (لتعرف مع من تتعامل)، هناك من يجيب بأنّ والده شرطي والآخر مهندس، ومن في آخر القاعة يجيب أن أباه دكتور.

جاء دور أمير ليجيب فقال: “والدتي أستاذة”.

ردت المعلمة بأن سؤالها كان عن ربّ البيت، وليس الوالدة.

أجابها بأنّ والده لم يتمكن من أن يكون ربّ البيت، فقامت أمه بالدور.

اِنتقلت ذاكرته إلى عيد مولده حيث غمر محيطه الجميع، فرحًا ببلوغ عامه التاسع، يلتقط صورًا طوال الحفلة كأنه يخلّد ذكرى وحدانيته رغم الاكتظاظ حوله، صراخ هنا وضحك هناك وجرى في الأعلى، حتى حانت اللحظة الأهم، تلك اللحظة التي تحتاج أهم شخصين في حياتك أن يكونا أمامك كي تطفئ شموعك، وإذ بأمير يشعر بأنفاس أمّـه تشجّعه على إطفاء شموعه التسع في أقصر وقت ممكن.

أزاح نظره إلى الجهة الأخرى.. لم يجد العنصر المكمل لصورة العائلة المثالية، فارتسمت على محياه ابتسامه ممزوجة بالفرح لحضور الجميع وخيبة أمل لغياب الأهمّ، فأغمض عينيه متمنيا أن يحضن والده تلك الليلة، بالرغم من إدراكه أنّ ذلك لن يحدث.

بينما كان يقترب أمير من قعر المحيط اصطدم رأسه بشيء لم يدرك ما هو. ربما بقايا باخرة غرقت منذ عقود.. المهم أنها كانت السبب في إبداء جسده لردّة فعل وهبت الحافز لعقله الباطني لكي يستعيد ذكريات خليلته ميساء، تلك الحسناء الرقيقة. استقرت ذاكرته على يوم كان برفقتها، متأملا جمالها ومستنشقا رائحتها.

لم ينسَ تفاصيل خصلات شعرها التي كانت تتطاير على وجهها الملائكيّ. كانا يكتبان على ورقة واحدة أسمى العبارات الرّومانسية التـي لم يسبق لقيس وليلى، أو جميل وبثينة، أن نطقا بها يوما.

عنت له كل شيء، كانت كيانه.. كانت نصفه الثاني. بل يتذكر نفسه وهو يناديها بتوأم روحي، كان يعدها بالزواج بل وغيّر أهدافه ليعمّر برفتها، لكن وضعه الراهن صعب جدًا.

تلك الأحلام التي بناها في شهور تنهار أمامه بسرعة البرق في ثوان.

اِستسلم للموت، فقد الرغبة في الحياة… بل أبى العودة.

فجأة.. سمع صوتا يخاطبه من حلكة المحيط الأجاج، لم يميّزه أو عرف صاحبه. إنه صوت حياة جديدة تنادي ويقول: “ليس الآن يا أمير لن تفارق الدنيا هذه اللحظة.”

فكان ذلك الصوت كحافز وربما قوة، أو شحنة كهربائية أحيت جسده من جديد.

قرّر أنه لن يلقى حتفه حينها وبتلك الطريقة تقوت عزيمته، وشرع بالتجديف نحو زرقة المياه الدافئة بشعاع شمس الأمل الذهبية.

بلغ السطح، فأخذ نفسـا عميقا كُتِبَت مع أوكسجينه صفحة بيضاء. أضحى يسبح بكل قوة يملكهـا آنذاك، واضعا صوب عينيه رمال البر ليصلها…

وما هي إلا دقائق من الصراعات مع قلة الحيلة وعنفوان الجزر حتى وصل برّ الأمان، متطلعا لحياة جديدة.

سمّا ما عاناه داخل أنياب الموت…  “بين الرمق والعودة”.

(قاصّ وإعلاميّ مغربيّ)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>