يتخذُ النحلُ من دمي بيوتًا/ زياد شاهين

|زياد شاهين| س: سئمتُ م: مللتُ سأشربُ هذا السمَّ الرائب […]

يتخذُ النحلُ من دمي بيوتًا/ زياد شاهين

|زياد شاهين|

زياد شاهين

س: سئمتُ

م: مللتُ

سأشربُ هذا السمَّ الرائب، صمتٌ سقراطيٌ مدوٍّ، صيرورة وادعة، سيعاقبني دمي على ذلك، منا من يشرب سـماً ولا يموت ومنا من لا يشرب سـماً ويموت دائماً؛ عقاربُ الساعة لا تدورُ كما التاريخ، الجراحُ المفتوحة لا تغلق سماءها، ضِعْ على عينيك نجمتين كي تبصرنا أيها الفجر الأعمى.

أخباركُم؟ أخبارُكم أخبارُنا؛ الحكايةُ  تبتدئُ عندما أنتهي وتنتهي الحكاية، خامسُ مـرة أناديكِ، أتكئُ على شفا صوتي وأناديكِ، ألملمُ الصدى أعبئ شرايينَ العصافير وحناجرها وأناديكِ، خامسُ مرة يتلاشى صوتي، أتلاشى، أضعُ بوصلة تشيرُ إلى منجم موتي المحتم، أحنُّ إلى نبيذ الليالي الفاتر وأسافر في شطحات الحلم القاهر؛ أعلم أنّ حدائق الدنيا لم تسعني ولن تسعفني، ولن تدركني في أوّل الحلم عيناك، عيناك نجمتان معلقتان في سماء روحي. من يحميني من جمالك الذي يحاورني أبدًا، إلى متى ستظلّ النداءات جثثاً هامدة ترتع فوقها النسور المتضورة المتربّصة؟ لن ترتفعَ درجة الحرارة إلى ما فوق الصفر في هذا البلاء المقيم، الصفرُ هو الصفرُ في كلّ الأمكنة التي تتقن الحسابات والرياضيات. نزفٌ قد تثمرُ أغنياتُ الحياة.

المهمُّ في الشأن العام المُرسَّمِ لن يكونَ مهمًا ذات دقيقة أو عام أو قرن. كيف لي أن أتدرّبَ على هذا الصبر الأيوبيّ؟ أعدُكُم: لن يكون النشيدُ مضرجاً بدمي مرة أخرى، الرصاصاتُ عشوائية الاتجاهات، يا ساقطين، يا سافكي الورود الطازجة؛ أين الحرارة في ارتكاب المجزرة؟! أتيتُ في وقت غير ملائم، وقت العشاء الأخير المقدّم لنا- أدرك ذلك. الفقراءُ ولائم للأغنياء. من منا لم يشعرْ بالجوع المتفجر؟ التفاحُ شهيٌ، تفاحُ الجولان، جولانُ من؟ ضاع السؤالُ الإبرةُ في كومة قشّ يابس، شجرُ الكرز يُـطأطئُ ظلـَّه خجلاً من قدسية السّؤال وفداحته؛ شجر التفاح يلملمُ حفيفَ أوراقه ويُعلنُ إضراباً عن الحفيف وعن الثمار. الشبابُ الأبطال في درعا في الشطر الآخر للبرتقالة يتحدّون بأجسادهم المُمدّدة على الطرقات دبابات الأنظمة الديكتاتورية، تضامناً مع إضراب شجر التفاح والكرز، وبحثاً عن الأسئلة والأجوبة المعرّقة على الجدران في غياهب الزنازين. لن أخشى أن أذوق تفاحة، أتى أمر الله فلا تستعجلوا، الشياطينُ لا تختبئ تحت الأرض، الشياطينُ وإبليس فوق الأرض متربصين، وسنأكلُ سوية دونهم تفاح الهضبة. سنأكلُ جميعاً كرز الهضبة.

ماذا تريدون مني؟ بذلتُ قصارى جراحي كي أخدمكم، ونصبتُ جبهتي لوحاً مرقماً كي تتدربوا على الرماية، ومشيتُ في جنازاتي المتكرّرة كي لا أفسد خطابَ المنتهزين وصيادي المصالح والسّماسرة وإطلاق الرصاص ورفع العلم والجنود الأبطال، سخرية مني لا طائل لها، يجب/ هل يجب إبطال تشغيل القنبلة الموقوتة التي تتكتك في سرِّنا وفي دمنا جهـرًا وسـرًا؟ الوقتُ ساعة رملية، أعذر من أنذر. زوجتي تعدّ لي طعاماً شهياً وتغضبُ وتحتدمُ عندما أتأخرُ، دائماً أتأخّرُ الطعامَ، وأعفُّ عند المغنم. الوقتُ تأخّر، الناسُ تتأخّرُ تركضُ إلى الوراء وتنظرُ إلى الأسفل، الثعالبُ تتأخّر، تعوي في العراء تبشّرُ بالمطر ولا يأتي المطرُ. الثعالبُ تراوغُ وتكذبُ؟ المطرُ شحيحٌ والارضُ تصرخُ ظمأى والشجرُ يفقدُ صوابَ نضارتِه ويتصدّعُ رخامَ فروعِه. قلَّ الخيرُ الكثيرُ في هذا الموسم، وفي هذه البلاد المعززة، بلاد السّمن والعسل؛ البلادُ في رحمـة، والانتظارُ في رحمة، والحربُ القادمة لا ترحم، ولا تناسبُ بذخ أذواق الناس الذين أدمنوا شواطئ البحار الهادئة والبارات وعلب الليل في المدن التي تنامُ على وسائدَ من ريش النعام، بلا كوابيس أحلام.

من صالح الحال أن تضعَ المرأةُ الحبلى مولودَها قبل أن تجهضَ في الحرب. لا وقت للولادة في الحرب ولا وقت للتفكير في الإنجاب. قد يكون المولودُ الجديد ذكراً فلتسمِّه “سلام” علَّ وعسى؛ هل تجدي كل الأفعال المشبهة بالفعل؟ السلامُ والبلادُ خطان متوازيان لا يلتقيان الا بأذنه تعالى! كم نجتهد في التنقيب عن الاسم الملائم، وكم نحترق في تربية المولود ونرسله في النهاية كي يحترق في الحرب. كلّ الأسماء الزّاهية والغامقة تحترقُ في الحرب، الحربُ لا تختارُ الأسماء، الوالدان يختاران الأسماء، الأسماءُ لا تتغير. حتى الأمكنة أسماؤها لا تتغير. لن نستطيعَ أن نغيّر اسم الخبز أو اسم النار أو اسم الماء أو اسم الحرب. لا بدّ من تغيير اسم الحرب على الأقل حفاظًا على أحلام الطفولة، وعلى خبز الروح؛ لا بدّ من تغيير بعض الأسماء! أنا أسكنُ في “وادي عيسى” وصديقي يسكنُ في “الخربة” وقريبي يسكن في “الصوانية” في الحارة الشمالية، وعمي يسكن في “وادي الفش“. أنا أحبُّ هذه الأسماء، والشباب الأربعة الذين فقدوا حيواتهم بالأمس في حادثة سير متكرّرة، كانوا مقبلين من “الشيكونات”، لعنة الحوادث، لا .. لا إنها لعنة الأسماء!

قدر أحمق الأسماء. سحقت هامتي أسماؤه، في الطريق إلى حيفا، تمرّ “بظهرة النملة”، تتسلق هضيبة تسمى “ظهرة النملة“، وصديقي منير قد ورث بيتاً أثرياً هناك كان للمرحوم جدّه، نأوي إليه في الأمسيات، نخبة من الأصدقاء: مرزوق، فرحات، خضر، صفا، جميل، فاضل، منير، يوسف، توفيق- هل نسيتُ أحداً؟ نتجاذبُ أطراف المثاليات والقيم والمبادئ، ونقلّبُ مصطلح المجتمع/مجتمعنا على جمر أفكارنا الكولمبوسية، وصوتُ أم كلثوم يشاركُ في نضالنا، أو كلنا نشاركُ بأصواتنا وبنبيذنا أم كلثوم غناءها. ما أجمل هذا التناقض: “ظهرة النملة ” صامدة تتحمّلنا وتتحمّلُ أفكارنا مثلما تتحمّل الآلاف من الشاحنات والباصات التي تعبرها كل يوم، صامدة وتتحمل الكثير من الرغبات والشهوات التي تخطط لاقتلاعها وسحقها، ربما تكون سليلة النملة التي رآها تيمورلنك في مخبئه.. ربما، قالتْ النملة: يا أيها النمل أدخلوا بيوتكم. وأراها تتضاحك هذه النملة هازئة بما يدورُ في خلد حولها، النملة مخلوقٌ قويٌ، وأكثر قوة وعنادًا عندما ننقشُ اسمها على أمكنتنا وأفكارنا، وأكثر ذكاءً من الفراشة. هكذا تقولُ لنا ذكرياتُ الطفولة، حيث درجنا نلعبُ على الأعشاب المبتلة بالفجر، نتصيدُ الفراشاتِ والأحلامَ أحياناً، ونلهو ونفيضُ شقاوة على الأرض التي لا أعشاب عليها على تراب يشبه الرمل أحياناً أخرى. كنا نقيمُ المباريات، نُحضرُ حجرين نضعهما بشكل متوازٍ، ونشلخُ من شجرة الزيتون فرعًا، ننجّرُهُ ونصنعُ منه عوداً كبيراً وآخر صغيرًا، نضعُ العودَ الصغيرَ على الحجريْن، وبالعود الكبير نقذفها فتطيرُ في الهواء، ويلتقطها أحد المشاركين ويصوّبُها على العود الكبير الذي استقرَّ على الحجرين، فإذا أصابَهُ، ربحَ وإذا أخطأ يأخذُ اللاعبُ الآخر العودَ الكبير ويبدأ “بلقم العود” الصغير (نسيت أن أقول إنّ العود الصغير مدبب الطرفين أي يُبرى رأساه مثل رأس قلم الرصاص) محاولاً أطلاقه بعيدًا قدر الإمكان ويبدأ اللاعبُ بالعدِّ قايساً طول المسافة بالعود الكبير، وهكذا من ينجح في تجميع العدد الكبير يكون الفائز. إنها لعبة “ألْحاح”، لا أدري من أين أتتْ هذه التسمية، لن أعودَ إلى لسان العرب صديقي وقت الضيق، كي أعرف ما أجهل، ربما أحدكم يساعدني ويبحث عن ذلك، لا وقت لديّ، إبني يضحك ملءَ فيه من هذه التسمية، أضيقُ ذرعاً به، إنه يفتخرُ، يملكُ الحاسوب والفيس بوك والألعاب الحاسوبية المختلفة التي أجهل اسمها، البلاستشين، الأتاري، الخ، ناهيك عن جدله السفسطائي وعن اختلافه المتكرّر معي. الاختلافُ يفسد للودّ قضية وقضايا، المعضلة ليستْ في المقصلة، المعضلة ألا تصل إلى المقصلة، معضلة المعضلات أن أقنع ابني بالاستماع إلى أغاني زمان: عبد الوهاب، صالح عبد الحيّ، سيد درويش، أو أن يرى أفلام زمان: محمود المليجي أو توفيق الدقن أو اسماعيل ياسين؛ إنه يستمتع بالأفلام الغربية! يثلج صدره توماس جين في المُعاقب وهو ينتقم من جون ترافولتا بأشرس الطرق، يروي لك حوادث الفيلم بالتجريح المُملّ:

- يا حكمة الأطفال منك تدفقتْ أنت المسمى في المجالس راوي تروي الكلامَ برقـة ورشاقـة فيصيرُ شعراً ساحراً كالحاوي..

الأفلام تنضح بما فيها، عندما أنتقم جدي من الذين قتلوا قريبه قبل كذا سنين، نبذوه ونبذوا هذه العقلية القبلية الرجعية التي تقمصتهاعلى ما يبدو الافلام الغربية، ليس فقط، وجدي كان مجنداً في الجيش التركي، يملكُ سلاحاً وذكريات ويفتخرُ أنه يعرفُ بعض الكلمات التركية، أبي كان يفتخرُ أنه يعرف بعض الكلمات في اللغة الإنجليزية، كان يردّدُ دائماً جملة مستر جون القائد الانجليزي البشع: فاكين عرب، الذي أطلقها بعد أن صفعته جدتي على خده أمام الناس، على أثر صدام معه، رأفة يا جدتي أين أنت؟ إننا نحتاجك ونحتاج كفّ يدك المباركة! أنا أتقن اللغة العبرية وأتقنها جيداً لدرجة أنك تعتقد أنني من اليهود الاصليين وليس من القادمين الجدد، ابني يتقنها ويتحدّثها بطلاقة تثير الإعجاب، أنا أفكر ولستُ موجودًا: بأية لغة سيتحدثُ حفيدي؟ بأية لغة سيتحدث ابن حفيدي؟ بأية لغة سيتحدث ابن ابن حفيدي؟ اللغاتُ وسائل إيضاح وعوالم تتشابه في اختلافها، ليكنْ واضحاً: الخطابُ الذي سنطلقه في يوم الأرض في أم الشقف في 30/3/2011 لن يختلفَ عن الخطاب في يوم الارض في 30/3/1976 في الجليل، سيكون باللغة العربية الفصحى.

خامس مرة سأعتذر من الوصول إلى أم الشقف، لا أدري لماذا أصبحتُ مدمناً على الاعتذار؟! خامس مرة سأناديك، هل سيتلاشى ندائي وكأنّي متلاشي النداء؟! تطنُّ أسرابُ الأفكار في رأسي تحومُ وتحوم تطنُّ وتزنُّ وتصرعني، ويغلقُ الطريقُ أعشابَه في وجهي، وتغلق الأشجار حفيفها وأعشاشها في وجهي، وأبكي أبكي من ألمي، ويتخذ النحل بيوتاً من دمي.

خامسُ…

مرةً من أجل عينيك سأصلُ !

مرةً من أجل عينيك سأشربُ !


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>