رحلة سندباديّة/ حنا أبو حنا

{في كتابه “مهر البومة” يتطرق الكاتب حنا أبو حنا إلى أم كلثوم في بعض الإشارات، نورد منها هنا مقطعين: ص 11 و12؛ ص 168}

رحلة سندباديّة/ حنا أبو حنا

|حنا أبو حنا|

 

“توثقت الصلة بين يحيى وإميل (حبيبي) إلى ما يمكن اعتباره صداقة ورفع كلفة، وكثيرًا ما كان إميل يحدّث يحيى عن أمور حميمية ويتبادلان الرأي في النشاط الثقافي وتوسيع آفاقه.

قال إميل ليحيى: هذه ليلة الخميس وستغني أم كلثوم في حفلتها الشهرية “أنت عمري”، هات زجاجة عرق وتعال نسهر معًا”

.

1954

ألهدف – الوصول إلى ڤينّا، عاصمة النمسا، للمشاركة في مؤتمر عالميّ «للدفاع عن حقوق الشبيبة العاملة». لكنّ التبليغ عن ذلك جاء متأخّرًا جدًا.

ألنمسا تحتلّها جيوش الحلفاء الأربعة الذين انتصروا على ألمانيا النازيّة في الحرب العالمية الثانية، وهي مقسّمة بينهم، بل إن ڤينّا العاصمة مقسّمة أيضًا بين هؤلاء المنتصرين إلى أربعة قطاعات: سوڤييتي، أميركي، إنكليزي وفرنسي.

لم تبق إلّا أيّام لافتتاح المؤتمر، وقد تعسّر الحصول على «ڤيزا» بالسرعة المطلوبة. الحلّ: السفر بالطائرة إلى براغ عاصمة تشيكوسلوڤاكيا ومنها بالقطار إلى النمسا إلى المنطقة السوڤييتية، وإلى القطاع السوڤييتي في ڤينا حيث يُعقد المؤتمر.

وصلت الطائرة من اللدّ إلى زوريخ في سويسرا ليكون الانتقال إلى طيارة أخرى تسافر إلى براغ. في مطار زوريخ يعلنون أنّ الظروف الجوّية لا تسمح بالسفر إلى براغ ولا بدّ من الانتظار حتى تتحسّن الحال. «تكسّرت النّصال على النّصال»! أليوم افتُتح المؤتمر، ولم يكن بأس من التأخّر يومًا. أمّا الآن فمن يعرف متى. قد لا يتيسّر الأمر إلّا بعد «فوات الأوان»!

جلس يحيى في الفندق يفكّر في مخرج. تذكّر سكرتير الشبيبة السويسرية الذي التقاه قبل شهور في مؤتمر الكومسومول في موسكو. بحث في دليل التلفون عن اسم منظّمته. طلب التحدّث إلى ذلك السكرتير. أنبأه عن الورطة. جاء ذلك السكرتير إلى الفندق. إقترح أن يكون السفر من زوريخ إلى ڤينا بالقطار في الحادية عشرة من صباح غد، والوصول في الخامسة من صباح اليوم التالي.

تكفّل بشراء تذكرة القطار والسعي لترتيب ڤيزا للنمسا. لا بدّ من التحرّك المبكّر غدًا للانتقال من مكتب إلى آخر قبل موعد القطار.

شعور مرير. لم تزل الأمور بعيدة عن اليقين، لكن وجود هذا الأخ السويسري واستعداده للنجدة يفتح نافذة للأمل. أفلح الاضطراب العصبي والركض بين المكاتب في صباح اليوم التالي. في الحادية عشرة كان يحيى في القطار المتوجّه إلى النمسا. أمّا الوصول إلى ڤينّا ففي الساعة الخامسة من صباح الغد. خسارة يوم آخر من المؤتمر.

ألمشاهد السويسريّة من القطار رائعة. جبال شاهقة خضراء ملوّنة. بحيرات فيها جزر صغيرة مأهولة ببضعة بيوت. لوحات فنّية تعاون على إبداعها الناس والطبيعة. لكنّ المتعة مثلومة بشيء من القلق المترسّب.

ألساعة الخامسة صباحًا. هذه محطّة القطار في ڤينّا. للوصول إلى مكاتب المؤتمر لا بدّ من سيارة تكسي تلتهم آخر السنتات المتاحة في جيب القادم إلى هنا من بلادنا في ظروف القيود على «العملة الصعبة».

ألمكاتب مغلقة في هذه الساعة المبكرة. ألانتظار بضع ساعات يضيف مزيدًا من الشعور الرماديّ.

أخيرًا فُتح المكتب وبدأت الأمور تنتظم.

بعد ترتيب سريع في الفندق كان يحيى في جلسة الصباح في المؤتمر. لا بدّ أن يطّلع على مجريات ما سبق قبل أن يعدّ مشاركته.

على مائدة الغداء يلتقي مندوبين من الدول العربية – من مصر والسودان والعراق وسوريا. أللّقاء دافئ حميم. ألمندوب السوداني يستهلّ التعارف بمطلع من قصيدة يحيى «عشر سنين» التي نُشرت في إحدى صحفهم.

قدّم يحيى مشاركته بعد يوم وشارك في مناقشات بعض اللّجان الفرعية. يتعرّف إلى كثيرين ويكتسب صداقات جديدة، ويظلّ الإخوان من الدول العربية على اتّصال وثيق.

بانتهاء المؤتمر لا بدّ من ترتيب أمر العودة – بالقطار إلى إيطاليا، ثمّ بالسفينة إلى الوطن.

ألمرافقة النمساوية تجتهد معه في الطواف بالمكاتب المختلفة لترتيب أمر الخروج من المنطقة السوڤييتية والأختام اللازمة، ثم الوصول إلى السفارة الإيطالية للحصول على ڤيزا.

في أحد الشوارع توقف المرافقة النمسويّة رجلاً مسنّاً تسأله عن أحد العناوين. يقف الرجل، ينظر إليها شزرًا ويوبّخها: يقولون «رجاءً»!

يتابع السير غاضبًا ولا يجيب عن سؤالها. لم يسمع اعتذارها.

لم تُراعِ أصول الأدب. فقد سألت دون الاحتياط بعبارة «رجاءً» أو «من فضلك». لذلك وُبّخت وعوقبت.

أخيرًا كان الوصول إلى السفارة الإيطالية. ألسفر بالسفينة غدًا ظهرًا من مدينة «البندقية» ولا بدّ من ضمان ما يلزم للوصول.

في غرفة الإنتظار رجل وامرأة يتحدّثان باللهجة العربية المصرية. هذا الوجه مألوف- أليست السيدة أمّ كلثوم؟

بعد تأمّل يسير وقف يحيى وتوجّه إلى مقعديهما. حيّاهما. تطلّعا بدهشة ومودّة.

قال: إذا لم يخنّي الحدس فأنت السيدة أمّ كلثوم؟

إبتسمت وقالت:

-  أعترف بالتهمة.

مدّ يده مسلّمًا وعرّفته على الرجل:

-  الأستاذ أحمد رامي.

فرصة سعيدة ومفاجأة رائعة.

سألاه: من أين؟

أعربت أمّ كلثوم عن محبّتها للشعب الفلسطيني الذي عرفته في بعض حفلاتها في حيفا.

دقائق وجاء دورهما للدّخول إلى المكتب.

قال لأحمد رامي: هذا ما أراده الشاعر حينما قال: «كان تسليمه عليّ وداعًا».

.

تذكّر الطرفة التي سمعها عن برعة أم كلثوم في “التورية”:

روى الأستاذ حنّا إبراهيم أنه شهد حفلة لأمّ كلثوم في حيفا. في الاستراحة أخذت حبّة ملبّس تمصّها، ولّما صاح أحد المشاهدين:

- يلّا يا أمّ كلثوم.

قالت: حتّى تذوب.

المعنى الظاهر: حتى تذوب حبّة الملّبس والمعنى البعيد: حتّى تذوب أنت.

كما روى طرفة أخرى عنها قال:

كان أصدقاء أمّ كلثوم يسمّونها تحبّبًا «ثومة» ويلفظون الثاء سينًا فيقولون «سومه».

وكان لها جار ثقيل كثير الزيارة. زارها أحدهم مرّة وكان هذا الجار عندها، فعرّفت عليه قائلة:

أعرّفك على حضرته، دَه فلان، جار سومَه.

وفي اللفظ ما يحمل المعنيين: جار سومَه وجرثومه.

.

لم تنتهِ سلسلة الارتباك والسعي لِلَفْقِ ما ينفتق: بين موعد وصول القطار إلى محطّته في «البندقيّة» وإقلاع الباخرة من الميناء نصف ساعة ولا يمكن ضمان الوصول من المحطّة إلى الميناء في هذا الوقت عبر القنالات المائية العديدة.

يشارك آخرون في المشاورات لحلّ اللغز. معه صديق من قبرص حجز للسفر على تلك الباخرة.

ألحلّ الوحيد هو متابعة السفر بالقطار إلى مدينة برنديزي – في كعب خارطة إيطاليا – طوال اليوم التالي وفي الليل.. إلى ضحى اليوم بعده للّحاق بتلك الباخرة في الميناء هناك ومتابعة السفر إلى الوطن مرورًا بجزيرة قبرص. لا بدّ من حيفا وإن طال السفر.

ألصديق القبرصي طيّب جدًا. والمشاركة في مغامرة الرحلة توثّق الصِّلة.

رحلة طويلة بالقطار. شعور بشيء من الاطمئنان أن الأمور أخذت تنتظم، وفي الرحلة صديق يشارك في التمتّع بالمناظر الطبيعية الرائعة.. أخيرًا هذه هي «البندقية». يخترقها القطار وتكثر فيها القنالات التي تلوّنها زوارق الجندول، ووسائل المواصلات العديدة الأخرى.

إذن هنا «عروس البحر، حلم الخيال» التي استوحاها الشاعر علي محمود طه في قصيدته «الجندول» التي يصدح بها محمد عبد الوهاب.

لكن هنا أيضًا لعنة «البندقية» التي لا تسمح قنالاتها بالوصول إلى السفينة في الوقت المحدد، فتضطرّ إلى السفر يومًا وليلة مخترقًا الساحل الإيطالي من شماله إلى جنوبه لتلحق بالسفينة المنطلقة من هناك إلى برنديزي.. رحلة برّية موازية للمسار البحري. لا بأس.. إنها تجربة!

يتوقّف القطار في المحطّات المختلفة، يودّع ويستقبل، والمشاهد تتوالى.

مساءً، يدخل القطار محطّة باري. لابدّ من الانتقال إلى قطار آخر لمتابعة الرحلة. في المحطّة زحام غريب. مئات الجنود. قيل إنهم في إجازة لقضاء العيد في بيوتهم. هجموا على القطار. حشَروا وانحشروا. لم يبق مكان لموطئ قدم. شقّ يحيى وصديقه سبيلهما في الزحام ولم يكن بدّ أن يتابعا السفر واقفين طوال الليل إلى الصباح. يتأخّر القطار عن موعده أكثر من ساعة. حتى في الوقوف يزعجونك فلا بدّ من الانتقال من مكان إلى آخر. والقطار يودّع ويستقبل باستمرار في المحطّات العديدة.

قبيل الفجر استطاعا أن يختلسا جلسة على مقعد. هل اصطادا بعض غفوة؟

في الصباح يزداد الصخب. تتوالى المشاهد – أراضٍ زراعية شاسعة، قرى صغيرة متباعدة.. قرب الوصول.. ليست برنديزي المحطّة الأخيرة.. لا بدّ من الانتباه إلى المحطّة الصحيحة لئلّا يكون التباس آخر..

يتابع القطار السفر والوقوف. كثيرة هي المحطّات. ينظران إلى اللّافتات في كلّ محطّة.

-   أنظر. هذه لافتة كُتب عليها برنديزي وكلمات أخرى.

سألا راكبًا إيطاليًا معهما.

قال: هذه ضاحية، أمّا البلدة فبعدقليل.

تابع القطار، وإذا به يخرج إلى منطقة زراعية تتّسع..

مرّ الكمساري. سألاه عن محطّة برنديزي. قال: صارت وراءنا!!

-   والمحطّة التالية؟

-  بعد حوالي 80 كيلومترًا!

من يصوّر الذهول وفورة الغضب؟

ألصديق القبرصي يضرب رأسه بالحائط، ويهجم على جرس الإنذار ليدقّه. حالة من الهياج لا تخضع لأيّ مهدّئ.

يتدخل الكمساري ويصيح: إنتظر. ممنوع!

يعلو الصياح واللغط. حالة من الجنون.

يجيء مسؤولون آخرون، يحمى النقاش.

يقول أحدهم: نفهمكما، وسنحاول أمرًا من أحوال الطوارئ النادرة. بعد قليل يأتي القطار من الاتجاه المعاكس. سنشير له أن يتوقّف ليأخذكما.

قال القبرصي: ماذا تقصد بعد قليل، وقد تأخّرتم أكثرمن ساعة في باري.

-   سنحاول جهدنا أن نساعدكم.

-   كيف نتدبّر أمورنا في هذه المناطق النائية؟

ألصديق القبرصيّ ما زال يضرب الجدار برأسه ضربات خفيفة متوالية، ويحيى يغرق في بحر من القلق.

بعد قليل – فعلاً – أقبل القطار من الجهة المقابلة، وسُمع صوت الحديد مزجورًا على الحديد يزعق زعيقًا مزعجًا..

وقف القطاران متوازيين، وامتلأت النوافذ بالرؤوس المستهجنة..

بين القطارين كان اثنان يحمل كلّ منهما حقيبة يسيران لإدراك القطار الثاني.. ثم يرتفع في الجوّ هدير القطارين يتابعان السفر.

دخلا القطار الثاني بين حشد من العيون المتسائلة.

لمن يقف قطاران مليئان بالركّاب؟ وأيّ حالة طوارئ هذه؟ لم يشأ يحيى وصديقه أن يفسّرا لأحد شيئًا. لكنّهما لم يطمئنّا إلّا بعد أن نزلا في المحطّة في برنديزي ووصلا إلى الميناء حيث ما زال درج الباخرة يصلها بالأرض.

حين استقرّا في السفينة سأل يحيى صديقه:

هل تحسب أن السلسلة انتهت؟

قال: لم يبق إلّا الغرق!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>