أم كلثوم ..عصية الدمع/ رجاء غانم

أكثر ما سحرني في تلك السيرة هو العلاقة التي ربطتها بالشاعر أحمد رامي والتي غذت خيالاتي الرومانسية، خاصة عندما رأيته هرماً تجاوز الثمانين يتحدث عنها ويبكيها بألم وحرقة وكأنها ماتت لتوّها

أم كلثوم ..عصية الدمع/ رجاء غانم

|رجاء غانم|

لا يمكن أن أتحدث عن أم كلثوم بمعزل عن الحرب التي كانت تدور في بيتنا بين حزبي “أم كلثوم” بزعامة والدي وحزب “عبد الوهاب” بزعامة والدتي. وكانت حرباً على أشدّها اضطررتُ معها للخضوع لرغبة والدتي التي كانت تتجلى على أغاني عبد الوهاب وصوته، إلى أن وصلت لجيل المراهقة وأصبحت أغانٍ متل “أنت عمري” و”سيرة الحبّ” تعبر أكثر عن التهاب مشاعري اتجاه ابن الجيران من “مضناك جفاه مرقده” مثلاً. رحت أدور وأدور بين ثنايا الأغاني الكلثومية من دون تركيز أو اهتمام كبير بالصوت نفسه أو الشخصية أو حتى الموسيقى بل على العكس: كانت النبرة العالية والخشنة في صوت أم كلثوم تضايقني. وما زاد في ولعي بتلك الأغاني الشائعة للستّ أن ابن الجيران نفسه بدأ يطلق أغانيها بأعلى درجات الصوت ويسهر تحت شباك غرفتي مطلقاً لنفسه العنان في النظر للأعلى وهو يردد: “حيرت قلبي معاك وانا بداري وأخبي”. حتى تلك الفترة لم تكن أم كلثوم بالنسبة لي أكثر من استعمار وحرب قائمة في عائلتنا ومن ثم في مرحلة لاحقة مساحة للتنفيس عن مشاعر المراهقة المكبوتة والغامضة.

عندما بدأت علاقتي بالأدب والشعر والمسرح بالاتساع تعرفتُ بأم كلثوم بمعناها الأوسع. حياتها، بداياتها، شخصيتها الفريدة في تسلطها وتعصبها لفنها وأغانيها، ثم ما لبثت أن علقت بالموسيقى فتعرفت على أشخاص أثروا في سيرتها وفي فنها بشكل كبير مثل أبو العلا محمد ومحمد القصبجي، الذي أعتقد أنه صنع نجوميتها الفريدة وأطلقها، والسنباطي وغيرهم.

وأكثر ما سحرني في تلك السيرة هو العلاقة التي ربطتها بالشاعر أحمد رامي والتي غذت خيالاتي الرومانسية، خاصة عندما رأيته هرماً تجاوز الثمانين يتحدث عنها ويبكيها بألم وحرقة وكأنها ماتت لتوّها.

كبرت في دمشق، وفي المدن العربية تشكل أم كلثوم جزءاً من الحياة اليومية بكلّ تنوّعاتها الثقافية والنفسية، ومن المشهد المُعاش في المقاهي والسهرات العائلية والمواصلات بكافة أشكالها. وإن كانت فيروز تشكل احتلالاً صباحياً في هذه المدن فإنها تخلي الأمسيات للستّ التي يزداد وهجها مع الأيام في ظاهرة غريبة ومتميزة لمغنية تقدسها أمة كاملة جيلاً بعد جيل.

في السنوات التي بدأت فيها أكوّن فكراً ثورياً ناضجاً اتجاه الحياة عامة وأتفتح على مبادئ المساواة والحرية والعدالة وخاصة للنساء، رأيت في أم كلثوم نموذجاً رائعاً لفتاة فلاحة بسيطة أتت من الأرياف وفرضت نفسها وصوتها على القاهرة بطبقاتها التي تحتكر الغناء والثقافة ضمن أطرها وشخصياتها. وانقلب استيائي من تسلط هذه الماردة إلى إعجاب بقوة شخصيتها وتمسكها بما تريده وما تقرره وكأنها نموذج أول للمرأة العربية المستقلة والحرة في روحها وفنها واختياراتها.

وتأثرت بهذه السيدة التي وقفت أمام عبد الناصر وواجهته بأنّ أغانيها مُنعت من البث في الإذاعة المصرية بعد الثورة، فما كان من عبد الناصر إلا أن أصدر أوامره فوراً ببث أغانيها مع عبد الوهاب الذي كان ممنوعاً كذلك (لا أعرف ما رأي والديّ في هذا التحالف الذي ضمّ هرمي الصراع بينهما في لحظة تاريخية).

لم تكن أم كلثوم مغنية سهر وحب ولوعة فقط، كانت امرأة عشقت مصر وغنت لها حتى إنها رصدت كل ريع حفلاتها بعد نكسة العام 1967 لدعم المجهود الحربي وكأنها تساهم بصوتها في دعم وطنها والنهوض به من جديد. كانت منغمسة بالهمّ القومي كذلك ولم يغب عنها أنّ جرح فلسطين هو الجرح الأكبر في جسد الأمة العربية وستظل أغنية “أصبح عندي اليوم بندقية” نيشان حب معلّق على صدر فلسطين من الست.

بدأت من هنا أطوّر علاقتي مع أم كلثوم بمنظور شخصي (وإن كان لا يخلو من تراكمات وترسبات الحرب العائلية حولها والثقافة العامة التي تدفعك نحو أم كلثوم مغمضة العينين) بدأت أسمعها بأذني الخاصة وأطرب لأغانٍ ليست هي الشائعة والمتفق عليها. وأكاد أجزم هنا أنّ أغنية مثل “إن كنت أسامح” قد أطلقت العنان لقدرات صوت هذه العملاقة كما لم تفعل أغنية أخرى. وتركت بحوراً من اليأس أمام كل من غنى لأم كلثوم أن يغني هذه الأغنية بالذات. هذا التحدي خلق للست لتغنيه وحدها.

*شاعرة فلسطينية

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>