علبة الرماد/ ممدوح رزق

إبتسم الأديب الكبير بمنتهى الحزن والأسى بعدما انتهيت من القراءة وبصوت خفيض وشاحب قال لي: “هذا ليس مستواك في الكتابة”. ثم أدار رأسه ليثبت عينيه بعيدًا عني وعن عيون الجالسين الذين كان من الطبيعي أن تنشط في وجوههم ابتسامات واسعة وهم يوزّعون نظراتهم المتخابثة بيني وبين الأديب الكبير وبين ابنته وصديقي الجالسين بجوار بعضهما

علبة الرماد/ ممدوح رزق

Dora_Maar_Au_Chat

|ممدوح رزق|

ممدوج رزق

ممدوح رزق

ـ منذ سنوات طويلة تعرفت أنا وصديق لي -وهو قاصّ أيضًا بالمناسبة- على أديب كبير السنّ مخلص في كتاباته للقيم والمبادئ التي رسختها كلاسيكيات الأدب الروسي. كان رجلا مهذبًا وطيّبًا بحقّ وكان يعاملني أنا وصديقي كابنيْن.

ـ منذ سنوات طويلة جاء “جروب” سياحي إلى القرية التي أعمل فيها وكان من ضمن أعضائه شاب نمساويّ شعرت منذ اللحظة الأولى بانجذاب شديد نحوه. كان وسيمًا ورقيقًا جدًا وكان يعاملني طوال فترة مرافقتي لهم كأميرة.

ـ كان لهذا الأديب ابنة جميلة في مثل عمري أنا وصديقي تقريبًا وكانت تكتب الشّعر وتتسم طباعها بالعفوية والمرح. ولأنّ صديقي كان -على العكس مني- وسيمًا وجريئًا فقد نجح خلال فترة قصيرة في تكوين صداقة قوية معها في حين ظلت علاقتي بها لا تتجاوز التحيات المقتضبة الخجولة -من جانبي طبعًا- والكلمات القليلة العابرة المحكومة بحرصي المرتبك على ألا تتلاقى نظراتنا بشكل مباشر. كنت أتحسّس بعينيّ جسمها من بعيد وهي تتحدث مع صديقي وتضحك معه بينما رعشة لذيذة ومؤلمة تحرق روحي.

ـ في الليلة الأخيرة للجروب بالقرية سهرت مع هذا الشاب في البار. شربنا وتكلمنا وضحكنا كثيرًا، ثم بمنتهى السّحر والوحشية اللازميْن ذهبنا إلى غرفتي ومارسنا الجنس أكثر من مرة كحيوانين خرافيين جائعين لخلود أسطوريّ، وبين كل مرة وأخرى كنت أحكي له حكايات ممزقة عن العائلة والقرية والجامعة ونادي الأدب ومقاهي وسط القاهرة والزوج الألماني والابن المقيم مع أبيه في ألمانيا وعن “الغردقة” كمكان ملائم لإعادة تدوير شاعرات قصيدة النثر.

ـ ذات يوم أخبرني صديقي بأنه كان بالأمس في منزل الأديب الكبير وأنّ ابنته الجميلة أخذته إلى غرفة نومها كي تطلعه على مكتبتها وأنهما ظلا جالسين في الحجرة مدة طويلة بينما أبوها وأمها يلعبان الشطرنج في الخارج. ورغم أن صديقي أقسم لي بأنه لم يحدث أي شيء بينهما إلا أنني لم أكن في حاجة لدافع أقوى حتى أقرر الانتقام بأيّ شكل. كتبت في نفس اليوم قصة قصيرة؛ كانت في الحقيقة سردًا تقريريًا سريعًا لموقف اختلقه خيالي الهائج بالرغبة في شفي الغليل ومؤسس على ما أخبرني به صديقي. كانت القصة عن بنت يزورها صديقها في منزلها ثم يقوم بـ “فتحها” داخل غرفة النوم بعدما طلبت منه أن يدخل كي يطلع على مكتبتها بينما والداها جالسان بالخارج يلعبان الشطرنج. كنت أستحضر أثناء الكتابة الدفء الناعم لجسد البنت الجميلة والذي كان توهّجه يتدفق من وراء ملابسها بمكر شهوانيٍّ منسجم بشراسة مع الخفة الطفولية لوجودها، بحيث كانت تبدو دائما كأنها تتربّص بكلّ ما يصادفها في العالم حتى تجعله يشاركها الرّقص داخل حلم استثنائي.

في اليوم التالي قرأتُ القصة في الندوة الأسبوعية بحزب التجمع التي كان يديرها الأديب الكبير وأمام ابنته وصديقي وأمام كلّ الكتّاب الذين يعرفون أنّ الأديب الكبير يحب لعبّ الشطرنج مع زوجته وأنّ لديه ابنة وأن لدى ابنته صديق يحتمل فعلا أن يزورها في منزلها.

ـ الرجل الذي استيقظ بجواري في الصباح لم يكن هو الرجل الذي استكنتُ عارية في حضنه  قبل أن أنام. تحوّل إلى إنسان آخر تمامًا وبدأ يشتمني ويشتم مصر بسخرية وبرود وهو يرتدي ملابسه بيدين متعجلتين ويخبرني بأنّ ما أخذه مني أمس كان بقية حقه من إدارة القرية وأنّ المصريين معروفون على مستوى العالم بأنهم لصوص يسعون دائما للحصول على أكبر سعر مقابل أقل خدمة. كان سافلا بقسوة بالغة وأعجزتني الصدمة عن الردّ فبقيت جالسة في السرير أبكي وأنظر إليه في صمت وهو يتأنق مبتسمًا في المرآة حتى خرج من دون أن يلتفت إليّ ومن دون أن أقدر على مناداته كي أطلب منه أن ينام معي لمرة أخيرة قبل أن يذهب.

ـ إبتسم الأديب الكبير بمنتهى الحزن والأسى بعدما انتهيت من القراءة وبصوت خفيض وشاحب قال لي: “هذا ليس مستواك في الكتابة”. ثم أدار رأسه ليثبت عينيه بعيدًا عني وعن عيون الجالسين الذين كان من الطبيعي أن تنشط في وجوههم ابتسامات واسعة وهم يوزّعون نظراتهم المتخابثة بيني وبين الأديب الكبير وبين ابنته وصديقي الجالسين بجوار بعضهما. تكلم عن القصة شخصان أو ثلاثة تقريبًا وأجمعوا -كما توقعتُ- على أنها أقلّ القصص التي سمعوها مني ولكن ما لم أتوقعه هو دفاعي عنها بعدما فرغ هؤلاء من حديثهم فوجدت نفسي مندفعًا بإصرار حادّ في شرح المفارقة بين “لعب الشطرنج” وما يستدعيه من صلابة ذهنية وتركيز عميق وقدرة على توقع جميع الاحتمالات والتعامل معها وبين ما يحدث للابنة التي سُمح لها بأن تأخذ شابا إلى غرفتها في حضور والديها الواثقين -بوصفهما لاعبي شطرنج- في إمكانيات السيطرة والتحكّم التي يتمتعان بها. الأديب الكبير الذي ظل ساكتا بملامح متجهمة أثناء النقاش والذي استكمل الندوة بنفس الملامح من دون أن ينظر إليّ ومن دون أن يستجيب لنظراتي المعتذرة التي استمرت تحدق في وجهه وترجوه أن يلتفت لي ويكلمني، هو الذي صافحني بعد انتهاء الندوة وهو الذي سألني عن أحوالي وبينما كان يحاول أن يستعيد ابتسامته الرقيقة المعتادة قال لي إنه سينتظر أن يسمع مني قصة أفضل قريبًا. في هذه اللحظة تمنيت أكثر من أي شيء آخر أن أقبّل رأسه وأخبره بأنني آسف لكنني لم أستطع فهززت رأسي ومشيت من أمامه بسرعة وأنا أشعر بشفتيّ قد التصقتا ببعضهما بحيث لن يجد الندم الثقيل الذي عدتُ به إلى المنزل في هذه الليلة طريقا للخروج من داخلي أبدًا.

ـ لا تفكر مجرد التفكير في أن تحاول الاعتداء على حريتي؛ لن أسمح لأيّ أحد في الدنيا أن يفعل ذلك.. أنا لست ملكًا لك.. واضح؟

ـ حريتك وحياتك كلها لا تعنيني في شيء، ولم أنشغل للحظة واحدة بمسألة أن تكوني ملكي. لم أكن أريد أكثر من أن تتعري على “الكام” ونمارس الجنس ولهذا تحملت الصدمة العنيفة التي كادت أن تخصيني حينما رأيت وجهك للمرة الأولى ونجحت في تجاوز الشَبَه المرعب بينك وبين “على الشريف” عندما شاهدت ثدييك الكبيرين بارزين من تحت الـ “تي شيرت” وقلت في نفسي إنّ لديك ما يستحقّ الصبر والانتظار…

ـ وأنا حينما رأيت صورتكَ شعرت أنّ أمعائي ستخرج من بين فخذي…

ـ أنا لا أريد أن أتحدث معك بعد الآن.

ـ وأنا أيضًا.

ـ ألا ينبغي أن يتم الوداع بشكل لائق؟

ـ بمعنى؟

ـ ترفعين الـ “تي شيرت” كي ألقي نظرة واحدة عليهما.

ـ لا…

ـ ماذا ستفعلين الآن؟

ـ سأذهب إلى إحدى غرف التشات على الياهو وأشتم أمريكا وإسرائيل.. وأنت؟

ـ سأمارس العادة السرية قبل عودة زوجتي إلى البيت.

ـ سلام :-)

ـ سلام :-)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>