يوميات مثلي في الأربعين- الحلقة الثانية

أريد الاختفاء في زاوية ما متى أحببت.. أريد مدينة تشرع للكآبة الأنيقة… الكآبة العذبة المجهولة

يوميات مثلي في الأربعين- الحلقة الثانية

|بقلم: جميل|

وها أنا أجلس في مقهى من المقاهي الشبكية التي تنتشر في المولات، أضع أمامي اللابتوب ولا أقرأ ما فيه بحقّ؛ أضعه قبالتي كي لا يحاسبني أحد على وحدتي. كيف كنت أنتظر كلّ هذه السنوات لأصل إلى هذا الاستنتاج الخطير؟ كان علي الاستقرار في العاصمة أو المدينة الكبرى منذ البداية، فالعواصم والمدن الفردانية المترامية الأطراف هي البيت الطبيعي لأمثالي من “المنايك” كما يُسمّون وكم أشعر بهذا وبوقعه الآن وأنا في الأربعين. والمفزع في الأمر أنّ المدينة التي راهنتُ عليها وراهن عليها الكثيرون ليست كذلك؛ ليست العاصمة المرجوّه أو الملجأ الآمن لمن هم مثلي. هذا ما لم أقتنع به قبل عشر سنوات وهذا ما لم يقتنع به بعض من أترابي، لكن النتيجة كانت أنّ معظمهم غادر جنوبًا إلى تل أبيب أو القدس أو وجد وظيفة أو شريكا أوروبيا في باريس أو لندن أو برلين وأنا بقيت هنا محاولا إقناع نفسي بأنّ هذه المدينة الرتيبة المتهالكة هي قمة الإثارة الحسية والصهر المديني الذي لا شبيه له.

لكن رائحة الوسطية التي تهبّ من الجبل وتزكم الأنوف في السفح والبحر، لم تعد تترك لي حيّزا للتنفس؛ لم أعد أحتمل هذا “اللطف” وهذه “العادية” وهذا “التعايش” وذاك التماوت وكل هذا الحب والوئام. لم أعد أستحقه.. منسوب الفجور في دمي لم يعد يؤهلني لهذا الاستحقاق… أي التمتع بكل هذه الطهارة الوسطية. لقد اكتشفت الكذبة متأخرًا بعد حوالي 12 عامًا من الدقيقة التي قال لنا المفكر العروبي الكبير إنّ هذه ستصبح مدينة الحرية الفلسطينية في داخل الخط، وبالتالي المثلية، وهذا ما جعلني أتنازل عن التمركز في مدينة ثانية كتل أبيب، كي لا اُتهم بالتواطؤ مع تحرّر المحتلّ في بعض المواضيع، أي إعطائه جائزة على منح المثليين حريتهم القانونية والإجتماعية.

وهكذا خسرتُ تل أبيب (ما أقسى كتابة هكذا جملة) وربحت مشاهدة جارتي الرّوسية صفراءَ الوجه والشعر والتي تنهر قطتها ليلَ نهارَ، وأسمع صوت عويل وحدتها في الساعة السابعة مساءً من كل يوم.. كل يوم! كما أنني كسبتُ لقب المدني وكسبت قربي من شاطئ حيفا الجنوبي الذي يعجّ بالرجال المتزوجين الذين يطلون كلّ مساء يلقون فائض منيهم على روحي وأجساد وداخل أفواه أمثالي ويعودون لمشاهدة القناة الثانية برضًا مُتناهٍ. رحلة البحث عن مدينة حقيقية بأبعاد عربية باتت مهمة مستحيلة أكلتها السنون…

أريد رجالا جميلين.. فخورين.. ناجحين، يتواجدون في وسط الحياة لا على هامش هامشها… يتسكعون في الجادات يعرضون أجسادهم وأيورهم بفخر وأناقة؛ أريد مقاهيَ متلألئة ومطاعمَ بتصميمات عجيبة. أريد أن أكون على بعد أمتار من مكان ما يصنع الفن والجمال والسحر والألون والأزياء والحبّ. أريد الاختفاء في زاوية ما متى أحببتُ، أريد مدينة تشرع للكآبة الأنيقة… الكآبة العذبة المجهولة التي تملك ما يحل محلها؛ باريس، لندن، برلين، مدريد، برشلونة، روما، نيويورك، تل أبيب، أمستردام… هذه هي الجحور الوحيدة للمثليين… هل تأخرتُ؟


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>