فانتازيا ملائكية مريضة تحلم بالشفاء

|بقلم: عزات العمور| لن نموت في الخفاء ولن نتنازل عن حقن […]

فانتازيا ملائكية مريضة تحلم بالشفاء


ملائكة في أمريكا

ملائكة في أمريكا



|بقلم: عزات العمور|

لن نموت في الخفاء ولن نتنازل عن حقنا في الحياة ولن نرضخ لمرض التعذيب والموت البطيء-السريع إذا كان بالإمكان تفاديه.

هذا ما يأتي ليقوله العمل المسرحي الدرامي للمؤلف طوني كوشنر، والذي قدم منذ عشرات السنوات شخصياته البطلة المريضة فاقدة المناعة المكتسبة في الفانتازيا الخيالية المتصلة مع عالم السماء “ملائكة في أمريكا”. قد تكون هذه الملائكة أمريكية للغاية، لكن من السهل الاستنتاج أن المغزى من وراء الحبكة ذات العلاقات المعقدة والشخصيات المتشابكة والمتداخلة واحدة في عالم الأخرى هو كوني بحت، ويمت بصلة لجميع بشر الربع الأخير من القرن الفائت حتى يومنا هذا. ونعم، أستطيع القول بثقة عمياء إنّ هذا المغزى المهاجم لمرض الايدز متصل أيضًا بمجتمعنا، لا بل بحبال قوية شفافة تسبب الكتمان التام والتعتيم حول المرض المتفشي ولكن بسرية تامة. لعله حان الوقت لأن يتساءل أحد ما: ماذا بوسعنا أن نفعل؟ ولماذا يغلق تفكيرنا الأفواه والعقول في حين نزلت الملائكة على أمريكا لتنقذها وتحصن مناعتها على المستوى الدرامي والواقعي قبل عقدين على يد “كوشنر” وأمثاله؟

“ملائكة في أمريكا” تقدم أحد البطلين المريضين بالايدز بريور والتير، كرجل ضعيف منذ اللحظات الاولى من القصة، وتصدم القارئ ببداية النهاية لعلاقة مثلية دامت أربع سنوات بينه وبين اليهودي لويس أرونسون، على أثر الإصابة بالايدز. ففي حين كان يوحي البكاء في اللحظة الأولى أن الاثنين سوف يحاربان معًا المرض لأجل علاقتهما القائمة منذ عدة سنوات، سرعان ما نرى أن الدعم والتعاطف اللذين قدمهما لويس كردة فعل بدائية، يختفيان مع تطور الأحداث. ينفصل الاثنان بمبادرة من لويس لأنّ الإيدز باعتقاده لا يتيح رؤية أية مستقبل فالعلاقة مريضة ومستقبلها الموت. من هذه النقطة تبدأ رحلة بريور المليئة بالعذاب الجسدي والنفسي؛ فكل ما يعيشه الآن هو مقاومة المرض وما نتج عنه. المرض يسيطر على جسده ويشوش عمله، يتغير شكله الخارجي ويتحول روتينه إلى معركة لا تتوقف في عالم مظلم مليء بالوحدة. نراه يقاوم الألم الجسدي ونوباته القوية وحيدًا من دون أيّ منقذ أو مساعد – حتى ملازمة المستشفيات لا تعود عليه بأية فائدة حقيقية. هذا في الوقت الذي يتحول فيه وضع بريور من سيء إلى أسوأ مع مرور الوقت، إلا أنّ الطريقة التي يواجه بها لويس الشعور بالذنب نتيجة لترك عشيقه السابق بريور هي الدخول في علاقة جديدة مع جو بت، المثلي المتدين المهووس بالمسيح والموجود في عش زوجية فاشل مع زوجة مريضة نفسيا تدعى هاربر بت، والتي تزداد حالتها سوءًا عند معرفة حقيقة زوجها المثلية.

ما يزيد هذا الوضع المتشابك تعقيدًا هو الشخصية المريضة الأخرى روي كوهن، وهو محامٍ مثلي الجنس ورئيس جو بت في العمل. كوهن على عكس نظيره بالمرض –بريور- ينكر كون مرضه متعلقًا بفقدان المناعة المكتسبة؛ فهو يقوم بخداع نفسه والآخرين وحتى طبيبه مدعيًا أن مشكلته الصحية هي سرطان الكبد، معتقدًا أن هذا الادعاء سوف ينقذه من دمار حياته بشكل كامل وتحويلها إلى مسار انتظار طويل حتى الموت. ولا يمر الكثير من الوقت حتى لحظة دخول كوهن المستشفى. هناك في سرير الاحتضار، يمرّ بالأشياء ذاتها التي مرّ بها بريور سابقًا من مقاومة نوبات الألم والاختناق بين جدران غرف العلاج التي لا تقلل من الألم حتى الشيء القليل. البيئة البشرية التي تحيط بكوهن منذ لحظة دخوله المستشفى مكونة فقط من شخصين: الاول هو الممرض الأسود (المثلي هو الاخر) بيلز، والذي يرى الصورة الأوضح عن حياة جميع الشخصيات، خصوصًا المريضة منها لأنه يعالج كوهن في المستشفى ويخرج إلى العشاء مع لويس ويدعم بريور نفسيًا لكونه صديقه المفضل الآن وعشيقه سابقا. أما الشخصية الأخرى التي تشكل الإطار الاجتماعي لدى كوهن فهي شبح الشيوعية إيثيل روزنبرغ والذي يتخيله كوهن ربما لشدة وحدته وحاجته لمحادثة. أقوال روزنبرغ تتلخص باتهامها لكوهن أنه السبب في موتها، وذلك يسبب النقاشات بين الاثنين والعصبية المفرطة التي تظهر كوهن كمختل عقليًا، إلى جانب مرضه الجسدي بسبب الإيدز، ينظر الآخرون إليه الآن كمريض جسديًا ونوعًا ما عقليًا لأنه يدعي وجود الشخصيات الخرافية التي لا يستطيع أحد سواه رؤيتها.

على عكس ما يراه كوهن من أشباح تخرج منها طاقات سلبية متوحشة، يعيش بريور بعد مرضه رؤى سماوية فيها تزوره الملائكه البيضاء الطاهرة وهو على سرير المرض لتجعله نبيًا. في بداية الأمر يحاول بريور الهروب من هذه النبوءة غير المنطقية، ولكن بدلا من تحقيق ذلك نراه يصل إلى السماء عن طريق سلم طويل وعدد لا نهائي من الدرجات  ليرى محاسبة الأرواح وحياة ما بعد الموت والملائكة العاملة على تحديد مصير البشر. هناك، يفضل بريور الاختيار الذي يعيده الى الارض حيث سيستمر بمصارعة مرضه، ويرفض الدخول إلى الجنة، التي كانت علاوة على كل فضائلها المتعددة، قادرة على شفائه بشكل فوري.

هذا المرض سوف يكون نهاية الكثيرين منا، ولكن ليس جميعنا، فالموتى سوف يخلَّدون وسوف يكافحون إلى جانب الأحياء، ونحن لسنا ذاهبين بعيدًا

هذا النبي يشبه الأنبياء الحقيقيين الذين زاروا بني البشر قبل آلاف السنين، لكونه يتعذب من أجل إيصال رسالته الى شعبه الهدف. عذابه هو مرض الايدز، ورسالته الواضحة هي الهروب بكل البشر إلى شاطئ الأمان بعيدًا عن هذا المرض. عند عودته إلى حياة الواقع ينجح بريور في معايشة المرض حيث تمر 5 سنوات يصل فيها الى الاستنتاج بأنّ عليه عدم الرضوخ للإيدز من أجل إيصال رسالته الهامة إلى أكبر عدد من الناس، وبهذا تسيطر عليه روح إرادة إحداث التغيير في المجتمع، هذا هو التفاؤل بتفادي المرض والتوعية منه والذي تأتي به المسرحية كهدف أول لكتابتها. خدمة هذا الهدف  تشمل ايضا اختيار المؤلف كوشنر موت بطله المريض روي كوهن بعد سرقة أدويته على يد الممرض بيلز وأخذها الى بريور، والمصير السيء لجو بت واختفاء زوجته، وعودة لويس لبريور بعلاقة التي لن تكون حميمية كما كانت في الماضي بتاتا، وهجرة هاربر بت والتي تأخذ جزءا في تلخيص المغزى المسرحي عند قولها: “في هذا العالم يوجد ما يدعى التقدم المصحوب بالالم”.

شخصيات كوشنر تتألم لكي تسهل تقدمنا وتأخذنا الى ما بعد مرحلة الحصانة والتوعية ومعرفة التصرف الصحيح بكل ما يخص تفادي فقدان المناعة المكتسبة.

بالإضافة إلى القضية الإيدزية والتي بالإمكان اعتبارها الأكثر أهمية، فإن المشروع الأدبي “ملائكة في أمريكا” محمل بالعديد من الجوانب الحياتية التي ينتقدها كوشنر حيث المقام المشترك لجميعها هو الإرادة التوعوية، ونشر فلسفة مستقبلية جديدة متقبلة للآخر تماما كما هو، ومحترمة لحرياته. هذه الجوانب منها السياسية والصحيّة والاجتماعية المدافعة عن حقوق الأقليات، مثل المجتمع المثلي، الأشخاص ذوي البشرة السوداء، أو دمج الديانات في علاقات إنسانية مبنية على الحب. كل هذا يجعلني أفتقد الأدب المشابه لما يكتبه كوشنر وأمثاله وغير المتواجد في أرشيفنا الأدبي العربي.

من الواضح أن مجتمعنا الشرقي لم يستيقظ ليرى أهمية زيادة التوعية الاجتماعية والصحية على كافة أنواعها وحتى لو كان ذلك في قوالب أدبية درامية وليست بالضرورة علمية. لأن كتابات كل مجموعة تدل على عقليتها وعمق فكرها، أدبنا العربي يفتقر إلى كثير من القضايا التي لا زالت تنتظر دورها للانضمام الى طاولة النقاشات الضيقة؛ أهمها بالطبع هو مرض الإيدز الذي اذا لم نصنفه في رأس قائمة أهدافنا للمستقبل القريب جدًا فنحن في وضع سيء للغاية.

الملائكة في الدراما الامريكية لن تنقذنا، نحن نحتاج أن ننقذ أنفسنا بأيدينا وأقلامنا، لقد حان الوقت أن نكتب عن مشاكلنا ونوقف موتنا ونكسب مناعة حديدية محطمة للجهل. الأدب أو القلم قد يكونان منصة مثالية للوصول الى الهدف. شخصيات نبية مثل بريور قد تكون ممتازة لخدمة هذه المصلحة العامة، التي لطالما نسمعها عند نهاية “ملائكة في أمريكا” تتحرر من الدور التمثيلي المكتوب وتتوجه الى جمهورها بالقول عن الايدز: “هذا المرض سوف يكون نهاية الكثيرين منا، ولكن ليس جميعنا، فالموتى سوف يخلَّدون وسوف يكافحون إلى جانب الأحياء، ونحن لسنا ذاهبين بعيدًا. ابتداءً من اليوم لن نموت بالخفاء أبدًا. العالم يسير فقط نحو الأمام. سوف نصبح مواطنين. لقد حان الوقت”. هذه نهاية التي نحتاج إلى حدوثها في أرض الواقع، وليس فقط في مسرحية ديموقراطية متفائلة. كيف عسانا نبدأ الوصول الى هذا الهدف؟ هذا سؤال للتفكير والإجابة عليه سهلة جدًا.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. عزات انت بتجننننننننن :))) كل الاحترام

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>