إقفال دور السينما والذاكرة المنقوعة بالكوكاكولا/ راجي بطحيش

. |راجي بطحيش| وهكذا وبصمتٍ شديد، وبينما كانت الدولة ال […]

إقفال دور السينما والذاكرة المنقوعة بالكوكاكولا/ راجي بطحيش

.

|راجي بطحيش|

وهكذا وبصمتٍ شديد، وبينما كانت الدولة المريضة مشغولة بتصريف فضلاتها الوجودية ورماد حرائقها المفتعلة، أقفلت دار سينما “ديزنجوف” العريقة وسط تل أبيب أبوابها. حيث أنني عندما مررت من هناك وتأملت زجاجات عرض بوسترات الأفلام الخاوية والمدخل المهجور لواحدة من أعرق دور السينما في بلادنا الغرائبية، صفعتني عبارة كنت سأدوّنها كستاتوس في صفحتي “الإيجو سنترية” على الفيسبوك: كلما أقفلت دار سينما في وسط مدينة أبوابها، شعرت بأنّ قطعة من جدران قلبي تتساقط. ولكنني تراجعت! فماذا سيفكر عني هؤلاء المتربّصون بحياتنا نحن من نحرس أشلاء وطننا من التعفن. غير معقول: أيتباكى هذا على دار سينما أقفلت أبوابها في وسط “عاصمة” العدو؟

ولكنني تعاليت على مشاعري الدونية التي لم تعد تنفع بشيء؛ فلي في دار السينما هذه ذكريات وحكايا كما أنّ رائحة كراسيها المعتقة لا تفارق حواسّي وكذلك هامشية روادها، ولي أشرطة لمواعيد غرامية كوميدية هناك. كما تتميّز دار السينما هذه بأنها “كانت” تعرض كلّ ما هو جديد في السينما الفرنسية وعلى اختلاف مستواه. فالسينما الفرنسية كانت تتواجد على الأقلّ في قاعتين من بين ثلاث قاعات حيث تراوحت العروض بين أفلام مهرجان كان القيمة والكوميديات السخيفة لتنقلني إلى ملامح باريس بتصرف، مدينتي الحبيبة، ولتثبت فيما تثبت أنّ ليس كل فيلم لا يتكلم الإنجليزية هو فيلم جيد.

لم تكن سينما “ديزنجوف” الأولى التي تستسلم وتنكسر وتقفل أبوابها ولكن سبقتها عشرات آلاف دور السينما في شوارع المدن المتفاوتة الكبر والأهمية بالعالم. إنّ إقفال دور السينما في وسط المدينة لهو هزيمة للسينما وللمدينة في ذات الوقت. فقيمة المدينة الحقيقية وجدانيا تتمثل بتلك القدرة على الإختفاء والتحايل على الوقت وتلك المجهولية التي تمنح الفرد فرصة الدخول إلى مقهى مجهول يمتلئ بناس مجهولين وتأمل ما فاض من تجاعيد على سطح القهوة المطروحة أمامه ومن ثم عقد اتفاقية مع الذات يتم بموجبها تنويم الوقت أو استبداله بوقت فني متقن بمهارة، جارح ربما وربما مضحك. في عرض الواحدة ظهرا مثلا، ومن ثم الخروج لمركز مديني يتلقفك بحنانه أو ربما ببرودته المشروطة أو حميميته المستعارة من الشريط.

تفاجأتُ عندما قرأت تقريرا بالصدفة في جريدة “الغد” الأردنية عن الماضي السينمائي الفاخر لوسط عمان الذي كان يعجّ بدور السينما في سبعينيات القرن الماضي، وكيف أدّت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية إلى فرز طبقي واضح انضم فيه وسط المدينة للمناطق المحسوبة على الطبقات الشعبية ضمن تقسيمة عمان الشرقية والغربية، ولحقت دور السينما بهذه التقسيمة متأثرة بعوامل إضافية أيضا كظهور الفيديو وغلبة التلفزيون. ويذكّرني هذا بما حدث أيضًا في مدينة حيفا التي لم يتم اغتيالها كمركز فقط في العام 1948 بل تم في خلال الـ 20 عاما الأخيرة تجريف مراكزها المدينية الثلاثة (مركز الكرمل- الهدار- البلد التحتا) والتي كانت تتباهى بأجمل وأرقى دور السينما التي كانت تشكل مكانا للاحتكاك والدفء الإنساني وملتقى مدينيًا لكافة سكان الشمال وما يتجاوزه. فقد كان النصراويون مثلا يشاهدون الفيلم العربي في سينما ديانا أو الناصرة والفيلم الأوروبي في حيفا، ساهرين بعد الفيلم في أحد مطاعم أو مقاهي المدينة التي كانت تشتهر فيها مراكزها الثلاثة التي باتت تئنّ من وحشتها الليلية بعد إقفال غالبية دور السينما.

إذًا، يتم وبشكل لا يوحي سوى بالأمركة والهيمنة الرأسمالية على أشكال ممارستنا الروحانية، كنس دور السينما خارج المدن وبالتحديد عند مداخلها قرب محطات الوقود والمصانع الملوثة وتجميعها بشكل هستيريّ ووحشيّ في عشرات القاعات وكأنّ السينما ممارسة كمية استهلاكية وليست كيفية، ضمن أمكنة باردة، مزيفة، بلاستيكية بلا روح لا تترك في الذاكرة شيئا يذكر بل “تنقع” الذاكرة بالكوكاكولا والبوبكورن فضائحية الثمن. فالأهم من المشاهدة نفسها هو “كيف” و”أين” و”مع من” شاهدتَ.

ومن المثلج للصّدر أنّ مدنًا متاحة كباريس والقاهرة ما زالت مع ذلك تحتفظ بثقافة “سينما وسط البلد” لوقت مستعار ربما.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>