الحبّ والجليد والشمس

لا يرضيني أن أكون زاوية من زوايا مثلثكَ، فأنا لا أحبُ الزوايا ولا أحبُ المثلثات- بل أحبكَ أنتَ

الحبّ والجليد والشمس

|بقلم: ج.ب|


مطار بن غوريون – مدينة تل أبيب

بعيونٍ مُحمرّة بل مُتجمّرة، أشعلتها قلوب محترقة بل متفحمّة، أقرر أن أترك البلاد دون رجعةٍ. كرسي شاغر ألقي بحقائبي عليه وأجلس بانتظار الطيران إلى واقع جديد. على وقع دمعة أمي وحسرة أبي أفكر ببلاد أصبحت الحقيقة فيها عيبًا، ببلاد من فرط حبي لها كرهتني! حتى مدينتي عكا التي قهرت كبرياء نابليون وأرسلت أحلامه بالتوسّع إدراج الرياح… عكا التي لا يخيفها هدير البحر باتت تخافني!

اصعد أدراج الطائرة الواحدة تلو الأخرى بانطلاق غير مسبوق متشبثًا بخيط من النور ببصيص من الأمل. أودع وطنًا أحبه وشعبًا خذلني وشمسًا صبغت بشرتي باللون الحنطيّ وحبًا اِغتيل أو سُرق أو لربما لم تكن له أيّ فرصة بالبقاء على قيدّ الحياة في شرقنا.


مونتريال – كندا: مدينة الحرية والجليد

أجلس على شرفة شقتي التي ستكون بيتي الجديد لمدة لا يعلم بها إلا الله.

أشغل الموقد بمحاولة بائسة أخرى لكسر جليد مونتريال أو لربما جليد قلبي حقيقة.

قرب المدفأة دومًا وعلى أنغام أغنية هادئة من أغاني فيروز، أنجح بصنع صباح يشبّه إلى حدّ ما صباح جدّتي التي افتقدها حدّ البكاء، لكونها الوحيدة التي فهمتني والوحيدة التي عرفت مدى حبي لكَ، بل وباركته.

سألتني مرة: “هل تحبني؟” أجبتك وقتها: “قلبي كله مُلكٌ لكَ”، أما اليوم فبات كرة من جليد يشبه إلى حدّ ما شرفة بيتي الجديد. بدأ يتجمد قلبي شيئًا فشيئًا منذ قلتَ لي إنه محتمٌ عليكَ أن تتزوج، وذلك تلبية لوصية والدكَ الذي كان وقتها يصارع الموت سدىً في أحد المستشفيات التي لا يخرج الناس منها عادة إلا إلى السماء.

أما الآن فبرد سريره، وتزوجتَ أنت وتجمّدتُ أنا.

لا زلت أذكرُ ليلة زواجك الذي بكيتُ فيها حدّ الرقص- الرقص بجنون. وكانت محاولة فاشلة مني لإخفاء مشاعري أو دفنها كما دفنَ والدكَ قصتنا ودُفِنَ!

شربتُ وثملتُ مثلما أسكرتني مرارًا بنبيذ شفتيكَ حتى الرمق الأخير. فبعد أن نكثتَ وعدك لي بأن نكون سويًا مهما حصل وأن يقاتل كلٌ منا من أجل الآخر، وبعد أن اخترتَ أن تتزوج ظنًا منك بأنني سوف أوافق بأن أكون زاوية من زوايا مثلثكَ، “مثلث الرضا” الذي يرضي جميع الأطراف بامتياز، إلا انه للأسف لا يرضيني، فأنا لا أحبُ الزوايا ولا أحبُ المثلثات، بل أحبكَ أنتَ!

ومرت أيام وسنون ولم يعد بردُ كندا القارص يهزّني كما كان، بل استطاعت شمسها التي تشبه جميع الشموس إلا شمسنا، أن تذيب صقيع حُبكَ المتراكم داخلي.

قررتُ العودة لزيارة عائلتي في عيد الميلاد، فهو توقيت ممتاز لتفادي برد ووحدة عطلة عيد الميلاد في مونتريال، وأيضًا لاشتياقي للوطن: بحرنا وشمسنا وأنت!


عكا ثانية

تل أبيب مرة أخرى، ما الذي تخبئينه لي هذه المرة يا ترى؟! استقل القطار إلى عكا التي رغم كرهها لي ما زلت أعشقها وأعشق نسيم بحرها.

بعد يوم حافل بالولائم من شتى الأنواع أقرر الخروج للمشي في الشارع الذي افتقدته حدّ الجنون، أريد أن أرى كل شيء، كل زاوية، وها أنا أمرُّ بجانب تلك الشجرة، تلك الشجرة التي كنّا نلتقي ونختبئ بحنان ظلها، وقد أصبحت اليوم جزءًا من حديقة. يسعدني أنها تحمل من الوفاء ما لا نحمله نحن، فما زالت أسماؤنا المحفورة قابعة على جذعها.

أعود إلى البيت لأجدك وأمك وأمي تحتسون القهوة، أتجمدُ مجددًا من دون حراكٍ لبرهة إلى أن تبدأ أمكَ بإلقاء وابل من الأسئلة عليّ، وعن صحتي وعن كندا والغربة. تقف أنتَ، أنظر في عينيك، أتفقدك، أتفقد جسدك بعينيّ كأنه ملكي، لا زلت على حالك، لا بل أصبحت شفتاك أشهى من ذي قبل بكثير وحضنك أصبح أحنّ وأوسع، ويداك اللتان أحببتهما وأحبهما بل أعشقهما، يداك اللتان من فرط ما لامستا جسدي حبستا إحساسهما في قلبي وأقفلتا، أما أنا فألقيتُ المفتاح! آهٍ … بقبلةٍ منكَ في بحرِ عكا!

أرتعشُ وينتفضُ جسدي بحضنك الدافئ، ولكن حتى رائحتك باتت غريبة عني، حتى عيناك فبالرغم من لونهما- لون البحر الذي لم يتغير إلا أنّ فيهما شيء تغيرَ إلى الأبد، وقع أمواجهما لربما… لا بل براءتهما. ففي بلادنا تقتل البراءة ويقتل الحب السرمديّ لأجل سيادة النفاق والمظاهر البالية، علّهم يعرفون يومًا بأنها آنية فقط بل وآلية إلى الزوال والفناء.

أحبُ شكلك الجديد وهو منطقيَ أكثر بل واقعيّ لدرجة مؤلمة. أحبُ صداقة أمهاتنا، وفناجين القهوة… وواقع الحياة القاسي!

تطلبُ مني في مقهىً على الشاطئ أن نرجع. أنظر إلى وقع انعكاس أشعة الشمس في عينيك، ورغم سحرهما الملائكيّ بل الإلهيّ أجيبك:

- لا أستطيع أن أكون حجر عثرة بينك وبين زوجتك، فلا علاقة لها، تزوجت مثل أي فتاة عادية، وهي لا تعرف الحقيقة التي يعرفها ثلاثةٌ: أنا وأنت وشجرة!

- أنت لا تحبني!

أحببتك وما زلت أحبك حدّ الجنون ولم أحب أحدًا سواك، وأعشق حقيقة اختيارك اسمي لابنك! أحبك… مليون أحبك، لكن لك زوجة وأولاد!

أدراج الطائرة مرةً أخرى، الواحد تلو الآخر. شعورٌ غريبٌ، الشمس مشرقة على الرغم من أنف كانون! البحر مثيرٌ بامتياز اليوم، لم يتمكن الأطلسيّ يومًا من إثارتي كالمتوسط رغم أنّ الأخير ما هو إلا نقطة أمام جبروت الأول، إلا أنني أحبه كما أحبك بل وأنتمي إليه. لن أسافر!

لربما هو بحرنا، لربما هي شمسنا التي أذابت جليد قلبي أخيرًا… لا أعرف الآن سوى أنني من فعلها؛ أنا!

أتركُ المطار، أستقلّ سيارة أجرة، بعدها ببرهة أطلب من السائق بأدبٍ كنديّ الوقوف، أدخل محلا صغيرًا، أشتري ألعابا لابنكَ، وحياةً جديدة لي وأخرج.

أمشي وحدي بخطواتٍ واثقةٍ لأول مرة، بابتسامة عريضة سرها ليس أنت ولا البحر أو الشمس، سرها هو أنا! أتابع عائدًا محملا بأحلام جديدة وآمال جديدة وحياة جديدة أفصّلها أنا!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. بجد مش عارف اقول ايه انت رائع فى كتاباك عظيم فى ابداعك بجد تستحق ان تكون كبير الادباء فعلا تستحقها وبلااااااا اى مجامله

  2. شكرًا لك زياد :) كلامك يعني لي الكثير

  3. يا للنص الرائع! لم أستطع أن آخذ استراحة قصيرة أثناء القراءة لأرتشف قهوتي!
    نصك مثير، ويلامس زوايا مختلفة في حياتك وحياتنا بطريقة عبقرية: الوطن، الغربة، الأهل، الخيانة، الوفاء، تفاصيل فلسطينية يومية ومشاعر تقف على الحد بين الضبط والانفجار.
    كل الاحترام لك.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>