المثقّفون والمبدعون عند المحكات الصعبة/

إنّ تصريحات وتصرّفات المثقف والمبدع قبل قدوم المحكّ الصعب وخلال حدوثه هي التي تحدّد إن كان موقفه ايجابيا أو سلبيا، فإذا كان موقفه سلبيا فإنه لا يستطيع الفكاك من تبعاته حتى وإن تأسّف أو غيّر توجّهه للأحسن، فدفاعه عن نفسه سوف يأخذ منه جهدا كبيرا وشعورا بالذنب والندم والخسارة

المثقّفون والمبدعون عند المحكات الصعبة/

 


"تعيش الشعوب"- تصميم: ظافر شربجي (الرجاء الضغط على الصورة لتكبيرها)



|راضي د. شحادة|


راضي د. شحادة

يستطيع المثقف أن يكون خزانا من المعرفة ولكن أين وكيف ولصالح من يستعملها؟ عند المحكات الصعبة منهم من يكشف جهاراً عن شخصيته الانتهازية التسلّقية النفعية، ومنهم من يثبت فعلاً أنه مثقّف حقيقي، ومنهم مَن يعتبر أنّ ما يقدّمه في حياته اليومية من انجازات، وفي مجال تخصّصه المعرفي، كافٍ كتعبير عن موقفه، من دون حاجة لاتخاذ موقف متطرف مع أو ضد، قد يكلّفه كثيرًا وقد يعرّضه للمغامرة والخطر. إنه يعتبر سكوته عند المحكات الصعبة شيئا من الابتعاد عن التطرف والبقاء على برّ الأمان إلى حين تمرّ زوبعة المحكّ المصيري والصعب.

عندما تحل ساعة التغيير الثوري الحاسم يجد المبدع قليل الثقافة، المرتبك كغيره من المتفاجئين بالمحكّ الثوري المفاجئ أنّ شيئا جوهريًا يحدث قد يقلب كلّ الموازين ويؤسّس لفترة جديدة ويضع علامات استفهام على مرحلة ركود الرماد فوق جمر فترة ما قبل مجيء الثورة. عند المحكات المصيرية الصعبة يضغط الوضع على المبدع الذي يخاف من اتخاذ المواقف الحادة كي يحسم أمره سريعًا، وألاّ يتهادن ويصبر إلى أن يُحسَم الأمر فيعلن عن موقفه حسب المصلحة التي يتطلبها ذلك الحسم، وفي موقفه هذا نوع من الانتهازية. إنّ جرأة المثقف المبدع الحقيقي على اتخاذ القرارات عند المحكات الصعبة تشجّع الآخرين على اللحاق به، وهذا ينطبق على كافة أفراد الشعب لأنهم يجدون فيه نموذجًا حقيقيًا صادقًا لما يريدون أن يعبّروا عنه لولا خوفهم من العواقب.

هؤلاء المثقفون النخبويّون المبدعون، وقد يصل إبداعهم إلى جميع مجالات الحياة وليس إلى مجال الفن فقط، ليسوا أناسًا أيديولوجيين، بل هم أناس مفكرون أخلاقيون أذكياء جدًا متحرّرون واسعو الخيال وإبداعهم لا يعرف الحدود، وهم قادرون بسهولة ومن دون تشنّج على أن يستوعبوا جميع الأيديولوجيات القديمة والحالية، من دون أن يجدوا أنفسهم ملزَمين على الانتماء لأية أيديولوجية منها، لأنهم يعتبرون فكرهم أكثر سموّا وانفتاحا وأممية منها، وهم ليسوا حزبيين، بل يعتبرون أنفسهم متحررين من قيود الحزبية خوفا من تقوقعهم داخل شريحة فكر محدودة القوالب والأيديولوجيات النمطية. هؤلاء يحملون فكرا تعبويا ليس  بالضرورة فكرا تحريضيا شعاراتيا، بل يعملون على فلسفة التراكمية البطيئة في النضال وتمرير وعيهم المتدفق بغزارة على مُدَدٍ زمنية متواصلة ذات نَفَس طويل تؤدي إلى التفاعل مع نبض الشعب والمساهمة في تعبئته تدريجيا نحو لحظة الانفجار الثوري العظيم الذي يشكل المحكّ التاريخي. هذه المحكّات المصيرية تتجلّى في أماكن حسّاسة عند: الثورة ضد الظلم، الثورة ضد الفساد، المظاهرات، الانتخابات، الاستفتاءات الشعبية، الثورة ضد النظم الاستبدادية، الثورة من أجل دحر الاحتلال، التصريح ببيانات عامة عبر وسائل الميديا الحديثة أمام الملايين من البشر.. فعند هذه المحكات الجمعية الصعبة التي تشبه الامتحان، يُكرم المرء أو يهان.

هؤلاء المبدعون النخبويون الأذكياء القادة الطلائعيون سوف نغفر لهم عدم انخراطهم اليومي مع تحركات الشارع السياسية عبر التواجد الفعلي، ولكنهم عند المحكات الصعبة لا يتوانون في النُزول إلى الشارع لينضموا إلى الشعب الذي يعدّون أنفسهم أسهموا في قسط من توعيته نحو الثورة- ونحو مصبّ هذا المحكّ المُعبَّر عنه على شكل انفجار شعبي. وهم يختلفون عن الفنانين والمثقفين الذين يقولون جهارًا إنهم خلاّقون وليسوا سياسيين، وبالتالي يجدون مبررًا قويًا للهروب من اتخاذ مواقف جليّة وواضحة. هؤلاء الخلاّقون “غير السياسيين” يدّعون أنه ليس من وظيفتهم قيادة حركات سياسية أو مظاهراتية بشكل مباشر، وإنما يكفي أن يعبّروا عن أنفسهم من خلال الإبداع والتّفنّن، والفرق بين هؤلاء ممَّن ينتهجون الهزيمة نحو الفنّ من أجل الفن، وبين الثوريين المنتهجين فلسفة التعبئة من خلال التدفّق العطائي الوعيي والنَّفَس الطويل، أنه عند المحك الصعب تحدث عملية الغربلة بسهولة.

هل المبدع الذي يحصل على رصيده المعنوي والمادي والشُّهْرَوي من الجماهير سيقول للجماهير عند المحكات الصعبة انه ليس ملزما باتخاذ قرار معين لأنّ هذا ليس من مجال تخصصه؟ صحيح أننا نعترف بأنّ الفن الراقي الذوقي الإنساني الثوري التعبوي التحرّري لا يؤدي إلى ثورات فجائية لأنه ينتهج فلسفة التَراكُمية التي تؤدي إلى انضغاط الخزّان، والنَّفَس الطويل، إلا أنّ ذلك لا يعني أننا نستطيع في فترة ما قبل المحكات الصعبة ان نميّز بين المبدع الأصيل والواعي والتحرّري، وبين المبدع الانتهازي والتسلقي. ولم يتورع بعض الفنانين التونسيين عن القول بعد ثورة تونس إنه كان عليهم ان يسايروا النظام كي يسلموا من شرّه، والأمر ذاته ينطبق على شريحة من مثقّفي ومبدعي مصر الذين غربلتهم ثورة مصر المجيدة.

إنّ المثقف المتذبذب الذي يمتهن عملية الانخراط في العمل الجماهيري الإبداعي أو السياسي أو الثقافي، غالبا ما يشعر بأنّ المحكات الصعبة تربكه وتهزّ كيانه، فلا يستطيع أن يتّخذ قرارا حاسما، فهل يعلن تضامنه مع الثائرين؟ هل يعلن استعداده للتصادم مع النظام الحاكم والمؤسسة؟ هل يبقى صامتا فيثير شبهات مَن حوله ممّن يبحثون عن اجوبة لكل سؤال واستفسار عن كل موقف؟

فيلم “مرجان أحمد مرجان” على سبيل المثال، وهو من بطولة الفنان عادل امام، يتطرّق إلى تزوير الانتخابات والفساد والفوضى وتسلط رجال الأعمال على كل شيء بما فيه الإعلام، وهو فيلم يلمّح إلى الفساد ولكنه لا يعالجه، وقد لفتني حوار جوهري بين رجل الأعمال الديناصوري “مرجان” مع ساعده الأيمن “حسن”:

حسن: ما دام مْزبّط كويس يبقى خلاص.

مرجان: اللي فوق مش مضمونين يا حسن، البلد على شان تعيش فيها لازم تزبّط نفسك من فوق وتزبّط نفسك من تحت، على شان لو اللي فوق سَابُوك اللي تحت يِلْقَفُوك، ولو اللي تحت سابوك اللي فوق يحْمُوك. انا ح ارشّح نفسي لمجلس الشعب… فِكْر ايه وثقافة ايه؟ انا مشاريعي مملّية البلد، المي اللي تشربوها مني، الحديد، الخبز، الملابس الداخلية بتاعتكو، كلّها منّي..

إن فلسفة عادل إمام والقضايا التي طرحها في هذا الفيلم هي ذاتها فلسفة البطل مرجان احمد مرجان، وهي خير دليل على تخبّط الفنان عندما يريد الكعكة ولا يريد ان يأكلها، لأنه لو اكل منها لما بقيت كما هي، فهو يناصر النظام لأنه يدّعي ان النظام يسنده ضد الحركات الأصولية التي قد تستلم السلطة فتشكّل خطرا عليه وعلى بلده، فهو يعمل في الإبداع بينما الحركات الاصولية تريد ان تعود بنا إلى الخلف الفًا وخمسمائة سنة، وهي تشكل خطرا على المبدعين والتحرريين والليبراليين والعلمانيين والأمميين، وتغلق الأفواه والوجوه بسواتر من الغشاوات والكمامات، بينما هو مع المظلومين والشعب “الغَلْبان” لأنه يحب الشعب. ولِمَ لا يحبّه فالشعب جمهوره ويشكل الجزء الأكبر من رصيد كعكته؟ وبالتالي فهو يجد نفسه منتفعا من هذه الفلسفة التي يظن انه من خلالها يضمن جمهوره إلى جانبه، ويضمن دعم النظام لهذا النوع من إبداعاته، وعندما يأتي المحك الكبير يجد نفسه محروما من رضا جميع الأطراف. وفي الوقت ذاته فالنظام يستغل لعبة بُعبُع التطرّف الديني والسلفي كي يقترح نفسه الحاكم الحامي للدولة وللشعب من هذا البعبع، وبذلك يضمن النظام لنفسه دوام التّربّع على كرسي العرش.

عندما كان عادل إمام فنان الشعب بلا منازع ويتربّع على عرش فناني العالم العربي سأله احد الصحفيين: “لماذا لا تترشح للانتخابات، فالشعب يحبك وستصبح رئيس مصر”، قال: “انا زعيم كل الشعب العربي بِفنّي ولست زعيم الشعب المصري فحسب، فاذا كنت زعيما محبوبا لدى جميع العرب فلماذا اصبح رئيسا لقسم منهم، لا بل لقسم من شعب مصر؟ لأن الرئاسة ستقسم مُحبِّيّ واخصامي إلى اقسام ايضا”. ترى ماذا جرى لهذا الرئيس عندما تعرّض لمحك ثورة مصر الصعب؟ لقد سقط عن عرشه أسوة بزعيم مصر الرابض على كرسي عرشها منذ ثلاثين سنة.

ليس صدفة ان هذا المحكّ التاريخي المصريّ المصيريّ احدث وسيحدث غربلة للمثقفين او مدّعي الثقافة، ولسائر الفاعلين في الشعب المصري والشعوب العربية، فأفرز مَن أيّد ثورة مصر منذ لحظتها الأولى، وأفرز مَن لا يزال يُتَأْتِئ ولا يتّخذ موقفا حاسما، وأفرز من ورّط نفسه في الدفاع عن مبارك ونظامه وتحدّى الشعب، وأفرز مَن لزم الصمت واختفى كليا عن ساحة اتخاذ المواقف بالأفعال وبالأقوال، ومنهم مَن أحسّ بالخطأ فتاب وانضم إلى الشعب ومنهم مَن أحسّ انه اذا لم ينافق لقرار الشعب فسيقذف الشعب به خارج ساحة ميدان التحرير والحرية، فالشعب لن يصدّقه بل يشكّ بأنّ عودته إلى صفوف الشعب هي من قبيل المزيد من التسلّقية والانتهازية.

خالد يوسف، نوال السعداوي، احمد فؤاد نجم، خالد الصاوي، خالد نبوي، خالد ابو النجا، عبد العزيز مخيون، علي بدرخان، عمر الشريف، منى زكي، سهير المرشدي، شريهان، تيسير فهمي، توفيق صالح، يسري نصرالله، اسامة فوزي، انس ابو زيد، احمد السّقا، وغيرهم كثيرون وقفوا إلى جانب الثورة من دون تردّد منذ انطلاقتها الأولى وحملوا فكرهم التقدمي الواعي الوطني قبل مجيئها.

أما الدكتور جابر عصفور فقد ورّط نفسه في ادقّ لحظات المحك الصعب وقَبِلَ الانضمام إلى مؤسسة النظام في عزّ كراهية وغضب ومحاسبة الشعب للنظام، فعاد وتأسّف بأن استقال من منصبه بعد أيام.

وأما المقرّبون من النظام ويأكلون من خبزه ويضربون بسيفه فقد تورّطوا شرّ ورطة في تصريحاتهم النارية الغبية، فأشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية ومساعد وزير الإعلام المصري، صرّح قائلا: “اللي يهين الرئيس مبارك نهينه. هؤلاء المتظاهرون عملاء وخونة”. وطالبت الفنانة سماح أنور بحرق المتظاهرين في ميدان التحرير، وطالبت الفنانة مي كساب السلطات المصرية “باغلاق جميع القنوات العربية و”فيسبوك” لأنها تسيء لسمعة مصر. هؤلاء المتظاهرون جَهَلة لا يعرفون التاريخ وغير واعين بالشيء الذي يقومون به، وغير مثقّفين ويقومون بتخريب البلد”، بينما كان موقف الفنان محمد صبحي غريبًا، والذي طالما ادّعى التقدمية والوطنية، عندما نَعتَ شباب الثورة بـ “شباب طايش”. وغيرهم ممن كانت مواقفهم مع النظام مثل حسن يوسف وأحمد بدير وليلى علوي وغادة عبد الرازق وصابرين وعادل إمام وعمرو دياب ونيللي عبد الكريم وإلهام شاهين وعمرو مصطفى ويسرى.. وغيرهم، بينما اختفى عن الساحة محمد منير ونور الشريف ورغدة وغيرهم، ومنهم مَن تأسّف وعاد إلى صفوف الشعب بعد ان احسّ بأن الثورة جارفة.

كان منهم مَن بسّط الأمور وادّعى انّ النظام فاسد، وأنّ الرئيس شريف وأب لجميع المصريين فقد خدم مصر طوال حياته، فحكمها طوال ثلاثين سنة، وله عدّة انجازات، وهو باني مصر. فإذا كان كل هذا يعدّ انجازا، فلماذا وصلت مصر إلى الحضيض سياسيا واقتصاديا وفساديا؟ أليس رأس السلطة وهو الرئيس هو المسؤول؟ وهل تفسد السمكة إلا من رأسها؟ ام اننا لا زلنا اسرى لفكرنا القديم بأن نعبد الفرد والفرعون والبطل الأسطوري؟ هل نمارس عقدنا “الأوديبية” و”الأليكترية” بتعلّقنا بالبطل الفرد المعصوم عن الخطأ؟

في لحظة الانفجار يأتي دور المحكّات الصعبة، فعملية الغربلة الملازمة لها ستشكل خطرا داهما عليه، فهو يجد نفسه تحت ضغط تساؤل الآخرين عن موقفه، هل هو مع، ام انه ضد، او انه يفضّل ان يبقى متأرجحا بين بين؟ انه يشعر بأن فترة ما قبل المحك والانفجار ساعدته على نيل مبتغياته الشخصية من شهرة ومال واستقرار نسبي نفسي ومادي، وما قدوم هذا المحك الا خطرا مداهما يجعله يشعر انه ورصيده السابق معرّضَين للخطر.

إن المثقّف والمبدع الذي تستهويه لعبة الشهرة وجني الأموال يجد ضآلته في الميديا الحديثة التي يتحكّم بمعظمها النظام الحاكم المكوّن من النظام السياسي ونظام الشركات الاحتكارية العملاقة التي تتحكّم بمجموعات البشر، فتصبح هي التي تتحكّم بتحرّكات النظام السياسي الحاكم فإنّه، ذلك المبدع والمثقّف، يعاني عقدة انفصام المصالح، فهو لا يستطيع أن يحصل على انتشار مواده الإبداعية من دون هذه الوسائل المغرية من الميديا السريعة، وإذا لجأ إلى التمسّك بثقافته النخبوية التحررية التقدمية الثورية فسوف يجد نفسه في صدام مستميت مع هذا النظام، قد يؤدّي به إلى الانقراض او خسارة المعركة، فيضطرّ إلى الاحتماء بفلسفة: “ان لا يموت الذئب ولا يفنى الغَنَم”. فما دامت هذه الوسائل توصله إلى قلب الشعب، وما دام القائمون على هذه الوسائل من الميديا الساحرة يسمحون له بالظهور في حدود المعقول، بحيث يساهم في تقويتها عن طريق الدعايات التجارية والأغاني التسلوية الترفيهية التي لا تستعمل التحريض والشعارات والدعوة المباشرة نحو التحرر ونبذ الفاسدين والظالمين، بحيث تكون حدودها القصص الدرامية التي تدور حول الحب والمشاكل الاجتماعية العادية، او حتى وان تخللتها مشاهد الاغراء الرخيص المقصود من اجل استغلال المستهلك وعيا ومادية، او توجيهها نحو العاب كرة القدم، حتى وإن أدّت إلى انشغال الشعب بها من اجل إثارة العداوات بين افراد ومجموعات الشعب الواحد، ومع الشعوب الأخرى، وبين المتحزّبين للفرق المختلفة، وبهذا يعمون قلوب الشعوب عن رؤية ديناصور الاستبداد الحقيقي الرابض فوق قمة هرم السلطة الحاكمة، فبدل ان يكون الشعب مشاركا في اللعبة على أرض الملعب يكون جالسا على المدرّجات متحمّسا متفرّجا محرّضا ضد نفسه.

إنّ تصريحات وتصرّفات المثقف والمبدع قبل قدوم المحكّ الصعب وخلال حدوثه هي التي تحدّد ان كان موقفه ايجابيا او سلبيا، فاذا كان موقفه سلبيا فإنه لا يستطيع الفكاك من تبعاته حتى وان تأسّف او غيّر توجّهه للأحسن، فدفاعه عن نفسه سوف يأخذ منه جهدا كبيرا وشعورا بالذنب والندم والخسارة، هذا اذا كان لديه شيء من السّمو الأخلاقي والشجاعة المطلوبة لذلك، وحتى وان اراد إعلان تغيير موقفه لصالح المنتصرين الجدد، فلن يصدّقوه لأنهم سيعتبرونه تسلّقيا ونفعيا ومشكوكا في أمره، وانه يتغيّر مع اول هبة نسمة هواء خفيفة، ان لم يكن مع اول هبّة عاصفة.

المحكّات المصيرية التي تحدث في عالمنا العربي وفي فلسطين تعلّمنا الكثير كي نصل إلى هذه الحقائق التي نوردها هنا، فما يحدث لنا في فلسطين او في لبنان او في تونس او في مصر او في اليمن هي محكّات فرضتها تراكمات الخزّان التاريخي المحاط بكل أنواع الضغط من احتلال وظلم وفساد وحكّام آلوا على أنفسهم أن يعتبروا الأوطان جزءًا من رصيدهم المادي والمعنوي الشخصي، فيعتادون على هذه الحقيقة ويعتبرونها أزلية وغير قابلة للتغيير والتبديل، وان لا قوة تزحزحهم عن كراسيهم، فتأتي ساعة وصول الخزّان إلى درجة الاختناق والضغط الشديد والكبت، فيحدث الانفجار.

لقد ادخلنا هذا الوضع المستمر لعقود من الاحباط، إلى شبه اقتناع بأن نظرية: “ان الشعوب اذا هبّت ستنتصر” أصبحت شعارا ممجوجا، ووصلنا إلى الاستنتاج في لحظات إحباطنا ويأسنا بالقول، هل يوجد شعوب كي نستطيع القول انها ربما ستهبّ؟ هل انقرضت الشعوب؟ هل ولّى زمن الثورات؟

خلال إحدى زياراتي إلى مصر وجّهت سؤالا للمخرج المصري التقدمي والوطني علي بدرخان: متى سيثور الشعب المصري على هذا الظلم والفساد والذل والجوع؟

فضحك بدرخان وقال لي بحُرقة: نحن الشعب الوحيد في العالم الذي كلما جاع يشد الحزام على بطنه كي يتمرد على معدته بدلا من ان يتمرد على الذي جوّعه حقا.

هل شعب مصر هو حقا هكذا ام ان حتمية الضغط ولّدت الانفجار؟ هل ستتغيّر نظرتك عن شعبك يا علي بعد ثورته الجديدة المجيدة المتمدّنة؟ هل تقطّعت الأحزمة من حول البطون بسبب قوّة الشّد فانفجر بركان الثورة إلى خارج الجسد كي يلتحم مع سائر الأجساد الثائرة؟

(مسرحي وكاتب فلسطيني)



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>